ثقافة

الحكاية أننا مازلنا في دائرة مغلقة، نعيش الهزائم عبر الأزمنة ونتكيف مع واقعنا المؤلم

ما تبقى لنا يا غسان؟!!

الحكاية أننا مازلنا في دائرة مغلقة، نعيش الهزائم عبر الأزمنة ونتكيف مع واقعنا المؤلم

قراءة نقدية بقلم: مصطفى النبيه/ مخرج فلسطيني

تقنيات السينما في رواية: ما تبقى لكم للأديب الشهيد غسان كنفاني

كأنك خارج السياق تسبح في فضاء بصري وبين يديك كنز من المعرفة لا تبصره، فأمامك، سيمفونية من الجمال المتجدد تنهل منه الروائع، إنها السينما التي تحمل عوالم من الأسرار والتجارب الإنسانية، التي تعتمد في صنعتها على الإبداع الجماعي لتنهض في المجتمعات وتعزز المفهوم الثقافي المعرفي، وتساهم في تهذيب وتطوير الإنسان. لقد أدرك الكتاب العباقرة الروائيون على مدار التاريخ سرها العظيم وتأثيره على المجتمعات، فاستعانوا بمفرداتها للبوح بتجاربهم الإنسانية من خلال لغة جميلة مكتوبة.

 

في هذه الدراسة سنجتهد في تسليط الضوء على تقنيات السينما في رواية (ما تبقى لكم) للأديب الشهيد الفنان غسان كنفاني الذي رسم من خلالها لوحات بصرية بأبعادها الفنية، ومزج بين الأمكنة والأزمنة، والانفعالات الإنسانية المنهمرة، وانتقل بخفة من انفعال لانفعال بأسلوب تقني مشوق.

 

تعد رواية (ما تبقى لكم) التجربة الثانية بعد روايته (رجال في الشمس) حيث اعتمد الروائي في صنعها على التقنيات الحديثة، مستخدماً أدوات ونهج السينما في عملية البناء والتوليف والمونتاج.

 

تتناول الرواية حكاية أسرة هُجرت من مدينة يافا، وتشتتت ما بين غزة والعواصم العربية، وتعرضت لكل أنواع القهر والاضطهاد حتى تمردت على ذاتها وقررت المواجهة وأعلنت ثورة الكفاح المسلح. رواية (ما تبقى لكم) تجاوزت حدود المقروء، لتلفت نظر القارئ المشاهد بأن الصورة تعبر عن ألف كلمة، فبأسلوب بصري تتقاطع الأمكنة والأزمنة ويتوحد الجماد مع الإنسان لينهضوا بالحدث والرسالة الموجهة من خلال شخصيات يتدفق منها مشاعر صادقة توحي لك أنها تعيش الواقع، وربما تعرفها أو التقيت بها ذات يوم، تحاول الشخصيات الهروب من السجن إلى الحرية، ومن العار إلى البطولة والشرف، تواكب تطور الأحداث، تغضب، تبتعد، تتوافق، وتلتقي تعيش الفصول الأربع بجمالها وألمها، تحمل الوجع وتتميز بالمشاعر الجياشة والإيقاع السريع.

 

شخصيات الرواية:

 

(حامد): يعمل مدرساً حمل على عاتقه مأساة التهجير وعار الخيانة، اختاره الكاتب ليكون رمزاً للتغير والطريق إلى المستقبل.

 

(مريم شقيقة حامد): فتاة تبلغ من العمر الخامسة والثلاثين، جميلة، متعلمة، مثقفة من أسرة مناضلة، عطشى للحياة سقطت في بحر الرغبة فتعرضت للعديد من الكوارث، حرمت من كل شيء جميل في حياتها حرمت من مدينتها يافا بعد أن هجروا إلى غزة، كما حرمت من والدها وخطيبها بعد استشهادهما. عاشت الخوف بعد أن نزحت أمها إلى الأردن، مضت أعوامها تطوي بعضها بعضا، فكل شيء يرحل من أمامها، ولم يبق سوى (ساعة حائط .. تشبه نعشاً صغيراً، أليس كذلك)، إحساس مرعب يشعرها بأن زمانها يفر هارباً وكل ما تبقى من حياتها يسرق. هذه المعطيات، صنعت منها فريسة سهلة لأول متطفل، فنراها ترتمي في أحضان زكريا المتزوج، الأب لخمس أطفال وتحمل سفاحاً. (أيتها المسكينة الصغيرة مريم ! أي بؤس أمضيت حياتك فيه، جعلك تقبلين بهذه النهاية! أنت وردة المنشية بأكملها، الطموحة، المتعلمة، ذات الأصل والفصل، أي حياة تعيسة جعلتك تقبلين زكريا بأعوامه كلها، وزوجته وأولاده زوجاً؟ يا حبيبتي الصغيرة يا حبيبتي ..).

 

مريم .. شخصية موازية لشخصية أخيها حامد، عاشت حياة القمع والاضطهاد وشعرت بالدونية، مأساتها الزمان الهارب وإيقاعاته الرتيبة، يسيطر عليها موت ـ “نعش” الساعة – تدفن فيها أحلامها، لقد ضاع كل ما تبقى لها، الكل يصعد إلى هاوية السقوط ما بين موت وموت، حتى خالتها التي كانت تؤنس وحدتها ماتت وتركتها وحيدة مع أخيها الصغير حامد. عاشت الوحدة ترتعب من عقارب الساعة (لقد ماتت هناك بعد أن دقت الساعة دقة واحدة، في الليل، أحست بذلك تماماً)، لذلك باتت الساعة تذكرها بحقيقة أنها فقدت الأمل في هذه الحياة، فها هي تستسلم لأول متطفل يعبر حياتها. كيف بدأت القصة؟ (مرة قابلناك فيها مصادفة بالطريق. ما اسمه؟ زكريا، من أين تعرفه؟، زميلي في مدرسة المعسكر، صديقك؟ كلا إنه نتن. وكان هذا كل شيء: أنه النتن، لم يغير هذا الاصطلاح إطلاقاً، وحتى حين عرف قال إنه “النتن” ومضى) ثم لا يعرف حامد أنك استوقفتني بعد ثلاثة أيام في الطريق، وقلت لي: سلمي على حامد، وأنا لم أوصل سلامك، لأنني عرفت أنك استوقفتني لسبب آخر، ولم أعرف قط لماذا مررت ذلك المساء من أمام المقهى الذي تجلس فيه؟، كأنما بالمصادفة، ولماذا أبطأت حتى يسرت لك أن تراني وتلحق بي، ولم أعرف أن هذه اللحظة الصغيرة ستصل بي بعد أربعة أشهر إلى سريرك أمام ذلك النعش الذي ظل يدق، يدق.

 

هذه هي حكاية مريم الفتاة العانس الذي دفعها عطشها الأنثوي إلى بحر الرذيلة، فهاجس الزمان يطاردها فيهون عليها جسدها كما يهون عليها أخوها الحالم بلم شمل الأسرة، وعندما تستيقظ من عطش الرغبة تدرك ما يدور حولها، وبأنها سقطت بالوحل، وأصبحت في نظر زكريا عاهرة، لذا تنتفض وتنقض عليه ثائرة لتقتله، وتتخلص من ضعفها، وتقضي على رأس الخيانة.

 

(زكريا): كان ضئيلاً بشعا كالقرد، هو النقيض لشخصية المقاوم، شخصية سلبية، سطحية، متطفلة، هو رمز الفساد، المدرس السلبي المتهرب من واجبه وعمله بحجج واهية، هو اللص الذي يستغل ضعف الناس ليقتحم حياتهم ويدنس شرفهم، إنه النتن (مجرد لطخة وجدت مصادفة في مكان غير مناسب). إننا لا نشاهد هذه الشخصية القبيحة إلا عن طريق تداعيات حامد ومريم، أنه عدو من نوع آخر، ضعيف، جبان، جائع، لا يفكر إلا بنزواته، يطالب من مريم أن تجهض جنين الخطيئة (هل حسبت أنني تزوجتك لتنجبي ولداً أيتها العاهرة؟)، بل اختارها لتكون معبراً بين بيته القديم ومدرسته، ليفرغ بها ضعفه وقتما يشاء، ففكرة الانتماء للأسرة لا تعنيه كثيرا فهي خارج عالمه، ويعتبرها فكرة سخيفة، وهذا يتضح من خلال قوله: (أنت مجنونة صدقيني ! تفتكين شبابك من أجله، وغداً ستلعنينه وتلعنين أباه والساعة التي لم تستمعي فيها إلى النصيحة، ستتحولين إلى امرأة مترهلة في بطن منقوش كأنه مصاب بجدري، أنا أعرف وقد رأيت ذلك بعيني، وطوال عام كامل لن تكوني امرأة، مجرد زجاجة حليب).

 

(سالم): شخصية ملائكية نموذج للنبل، الفدائي الذي خلق من أجل التضحية، تشعر وأنت تقرأ الرواية أنك أمام شخصية ثائرة قوية تشع حباً، تنتصر للحق في زمن الصمت (أوقفني ذات يوم بعد أن مضي أسبوع واحد على دخولهم إلى غزة، وسألني وهو يشبك ذراعيه في ذراعي، ألم تشتهي أن تطلق رصاصة في معركة فاتتك دون أن تطلق أي رصاصة؟ .. حامد .. لقد قتلوا أباك كما أعلم).

 

(الساعة المسروقة): تشبه النعش .. الموت المتحرك القادم الزمان الضائع المسروق من حياتنا بفعل فاعل

 

(الصحراء): هي المخلوق الميت الساكن الذي يلبس ثوب الحياة، ينهض يتحرك ويمارس طقوس تأخذ واقعاً مختلفاً عن طبيعته.

 

الفكرة العامة للرواية:

 

تتلخص فكرة الرواية في الهم الوجودي، علينا أن ندق الخزان، ونتمرد على ضعفنا، ونتطهر من البكاء على الأطلال، ونواجه الواقع الفلسطيني المزري بذله وعاره، فزمن المعجزات ولى، النصر الحقيقي يكمن بصمود الفلسطيني فوق أرضه، وعليه أن يقاوم التهجير ويقيم تجربته الحياتية ويستفيد من أخطائه، مثلما فعلت مريم حين قتلت من استحلها ونفخ في بطنها سمومه وجعلها عاهرته، وأسقط احترامها لنفسها، وكما فعل أخاها حامد الشاب الوديع الباحث عن قوة خارجية لتغيثه، فيتمرد على خوفه، ويتحرر من وهم المنقذ الأسطوري والمتمثل بشخصية الأم، ويعلن الكفاح المسلح ويواجه عدوه لأول مرة وجه لوجه ويقرر الصمود فوق أرضه.

تحليل عناصر الرواية وعلاقتها بالسينما:

يكتب غسان بطريقة سينمائية يعتمد في بناء روايته على إشباع الفكرة، ودقة التحليل النفسي، ووضوح الحوار، ويرسم مشاهد بصرية لها بداية ووسط ونهاية، متناسقة بشكل انسيابي تعتمد على كثافة درامية مركزة، وحبكة ديناميكية متطورة، وأسلوب تعبيري منسجم مع واقع الحكاية حيث يعبر عن الأفكار في مقاسات محددة جداً، وبشكل مكثف، فالسينما اختزال للزمن وتكثيف للأحداث، وهي أكثر الأدوات الثقافية بلاغة في هذا الاتجاه. في رواية (ما تبقى لكم) يستخدم غسان تقنيات السينما في بناء روايته معتمداً على:

المونتاج المتوازي: والمقصود بالمونتاج المتوازي أن يكون هناك حدثين مختلفين في المكان يربطهم شعرة غير مرئية تساهم في البناء العام للسيناريو، وتضيف عمق ودلالة خاصة للعمل يقول “ريتشارد فينمان” الحائز على جائزة نوبل (أن القوانين الطبيعية بسيطة من الصعب رؤيتها، ولكي نراها يجب أن نعلو فوق حدودنا الطبيعية والمعرفية لخلق واقع جديد يساهم في البناء)، فالبناء العنصر الأكثر أهمية في السيناريو، القوة التي تغذي الشكل والمضمون، الهيكل الخارجي وحجر الأساس في صناعة العمل الفني بدونه ليس هناك رواية وبدون رواية ليس هناك سيناريو.

فما هو السيناريو: السيناريو هو الرسم المعماري، النابض بالجماليات والمشاعر الإنسانية، يستخدم كمرحلة وسيطة لا بد أن يمر الفيلم من خلالها في طريقه حتى يصل إلى شكله النهائي. يعتمد السيناريو على الأخبار، والقصص، والخيال، والمسرحيات، والمقالات، والتاريخ، والسير، والأساطير، والأحداث العامة الاجتماعية، السياسية والاقتصادية، والتجارب الفردية، وكل مكونات الحياة، فالفكرة هي بذرة العمل التي تبشر بميلاد الثمرة.

ينقسم السيناريو من حيث الفكرة إلى نوعين: أفكار إنسانية عظيمة تحمل قيم تخدم البشرية. وأفكار تجارية هدفها شباك التذاكر. ولتتضح الرؤية أكثر نأخذ نموذجاً مشهد حامد بالصحراء:

أولا، وصف الصورة: يبدأ المشهد بحرف الميم والمقصود بحرف الميم هو مختصر لكلمة مشهد، ويليها رقم المشهد، ثم تحديد المكان (الصحراء)، وتحديد الزمان (وقت الغروب).

ثانيا، وصف الشخصية: حامد فتي في السادسة والعشرين نحيف الجسم أشعث الشعر.

ثالثا، وصف الحركة: يسير حامد بشكل مستقيم، سريع الخطوات يخترق الصحراء باتجاه الشمس تقابله عاصفة رملية خفيفة يواصل سيره وهو منهك متردد.

رابعا، وصف الصوت: هناك مؤثرات طبيعية، ومؤثرات صناعية، يستغلها صناع السينما بما يتناسب مع الجو العام للمشهد. المؤثرات الطبيعية، مثل صوت الرياح، نبضات قلب حامد. والمؤثرات الصناعية، مثل بوق السيارة.

الحوار: لا بد أن يكمل الصورة ويبنى بحرفية عالية معتمداُ على التكثيف الذي يعبر عن المشهد. نأخذ نموذجاً هذا النص من المشهد:

حامد: (زوجتك أختي مريم على صداق قدره عشرة جنيهات، كله مؤجل، كله مؤجل). وهنا يتم التعبير عن الحالة النفسية للشخصية حيث يقف حامد وينظر إلى الشمس ويتحدث بمرارة.

حامد: (المعجل الوحيد هو جنين يخبط في رحمها). يواصل حامد سيره، إظلام تدريجي ينتهي المشهد ويتم القطع السينمائي الذي هدفه ربط المشاهد ببعضها بعضاً بحرفية عالية، والتحضير للمشهد القادم.

كاتب السيناريو هو أكثر من طبيب جراح يحمل مشرط القطع السينمائي ويتقن فن المعالجة في صناعتها. شخصية حامد في هذا المشهد تحمل نوعان من الفعل: فعل جسدي وفعل انفعالي، أعده المؤلف قبل الشروع في عملية بناء الشخصية حيث أجاب على مكونات الشخصيات التالية: ما الهدف من الشخصية؟، ماذا تريد الشخصية أن تحقق؟، وما هي ملامحها الجسدية والنفسية؟.

استطاع غسان من خلال شخصية (حامد) تكثيف الحوار ليدعم المستوى البصري، ويدفع بالحدث إلى الأمام بعد دراسة عميقة للشخصيات وقراءة انفعالاتها، وترجمتها إلى لغة ومفردات ذات قياس تعبيري محدد، فشخصيات الرواية بنيت بشكل مضطرب مهزوز له خصائصه، فنراها تعيش نفس الواقع وتنتقل من انفعال لانفعال ومن حالة إلى حالة، أصوات تتزاحم، تلهث، تبتعد، تقترب، تتلون، وتتنامى طيلة الأحداث، فلغة السينما تختلف عن لغة الشارع، فالمقصود بالحوار السينمائي كلام واضح مكثف بعيداً عن الاستطراد، وهذا ما شهدناه في المشهد السابق، وكان مكمل للصورة البصرية. فقد شاهدنا عين الكاميرا المتحركة النابضة بالمشاعر تكتشف الصحراء، وترسم تكوين بصري من خلال زوايا رصدت الهدف، وحددت المساحة والاتجاه تم اختيارها بحرفية عالية، فأحجام اللقطات تعبر عن الفكرة وتتماشى مع الانفعالات والحالة النفسية والبناء الخارجي، كما تساهم بالتتابع في عملية البناء. كل هذه التقنيات والأدوات الفنية استغلها الروائي غسان كنفاني في صناعة (رواية ما تبقى لكم) فقد استطاع أن يصنع مشاهداً بصرية يسرد من خلالها قصص مستقلة مكانياً وزمانياً تتغذي ملامح شخوصها من البيئة التي تحيط بها وتكمل بعضها بعضاً، لينسجم المشهد مع المشهد الذي يليه. من الواضح أن تيار الوعي يتوحد مع عالم السينما وأدواتها الخاصة، المونتاج وعناصر المزج والتوليف والانتقال من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان، بشكل يساهم في تطوير الحدث ويعبر عن تأثير درامي متبادل، فالمزج والإيقاع الداخلي الموسيقي والإيقاع السريع بين اللقطات والانتقال من زمن لزمن ومن مكان لمكان بدون حواجز زمانية أو مكانية يمنحنا رؤية واعية بصرية تساهم في توضيح الصورة للأجيال.

حامد يمخر عباب الصحراء للجوء إلى أمه التي نزحت إلى الأردن عبر صحراء النقب التي يحتلها العدو الصهيوني هارباً من عاره، بعد أن فرض عليه الموافقة على زواج أخته مريم مرغماً، بعد أن تنازلت عن شرفها وحملت سفاحاً وتزوجت الخائن زكريا النتن، وفي طريقه يتخلص من تردده بعد أن يلتقي وجها لوجه مع عدوه، ويقرر المواجهة والبقاء على أرضه بعد أن يتطهر من عقدة المخلص، فيعلن الكفاح المسلح، وفي نفس التوقيت تبدأ الثورة الداخلية على الخونة فتعود مريم إلى رشدها وتقرر الخلاص من هزيمتها ليعيش طفلها في جو نظيف فتعدم زوجها الخائن زكريا.

رسالة مواجهة من الروائي المناضل غسان لا تحتاج للتأويل، يدعو الشعب الفلسطيني للمقاومة المسلحة والقضاء على الاحتلال وأعوانه والتخلص من ذيوله مهما كلف الأمر، فالتراكمات الكمية تؤدي إلى تغيرات نوعية، فهنا تتوحد الأفكار نتيجة المعطيات، وتتجاوز المسافات، وتنتهج الشخصيتين نفس الأسلوب، وهو الكفاح المسلح وسيلة للتعبير عن الحدث في مواجهة الاحتلال الداخلي والخارجي، والتحرر من غول الخوف والتمرد على الضعف، فكلما غصنا في تفاصيل الرواية سنكتشف وسائل حديثة لها علاقة مباشرة بالسينما، الشخصيان الرئيسيتان (حامد ومريم) يسيران في عالميين متوازيين عالم يقوده المكان والمتمثل في الصحراء، وعالم متمثل بالزمان من خلال الساعة الخشبية التي تشبه النعش والتي سرقها حامد ليؤكد لنا أننا نعيش حالة موت سريري ضحايا الزمن المسروق (أعتقد أنها ليست مستقيمة إن ساعة الحائط لا تشتغل إذا كانت مائلة، وصعد إلى الكرسي مرة أخرى وأخذ يحركها ببطء وكأنه يصوبها تصويباً وفي اللحظة التالية بدأت تدق) الخط المستقيم يرمز إلى الشموخ والقوة إلى ما لانهاية والخط المائل يشعرنا بعدم الاستقرار، فهو متوتر يميل إلى السقوط ولن يعطينا إلا فراغ ويبشرنا بزمن مسروق ليس له ملامح (لم أشترها، سرقتها) تختلط المشاعر بين الشخصيتين فيغوص الماضي بالحاضر والحلم بالمستقبل إلى درجة نجد صعوبة في التمييز بينهما أو الحديث عن إحداهما دون التطرق للآخر، تتلاحم الأفكار والمشاعر النفسية والهواجس فيما بينهما، فلحظة الفعل الدرامي في الرواية تكاد تكون واحدة.

الصحراء في الرواية تأخذ شكلاً مخالفاً لطبيعتها فهي قارب النجاة، الطريق إلى الحياة، مخلوق يتنفس بصوت مسموع، جسر يمتد بين الوطن والأم التي ترمز للأمة العربية الضائعة، وقد جسد الروائي مشهد سينمائي حين رسم بقلمه لوحة فنية لغروب الشمس في الصحراء وهي تنسحب وتذوب كشعلة أرجوانية تغطس في الماء تاركة خلفها لوحة فنية، ثم وصف الصحراء بالمكان السرمدي الحي الذي يتنفس وتنازل عن كونه جسداً صامتاً، حين حاول اختراقها الشاب النحيف حامد بملامحه السمراء ووجهه الحزين وشعره الأشعث. كان يسابق الزمن ليقطع الصحراء، عينيه شاخصتين باتجاه الشمس، مع ذوبانها تتموج الصحراء وتدفن خلفه بيت حامد حتى عزلته عن كل شيء، وبقي الظلام يسيطر على الواقع، هذا ملخص فكرة المشهد. أما صناعته فلنتابع ما يلي: يبدأ المشهد بغروب الشمس والمدينة تغرق خلف حامد وحامد يغوص في عتمة الليل. هذا المشهد مفتاح التتابع، فحامد يكرر في الصحراء: (زوجتك أختي مريم على صداق قدره عشرة جنيهات كله مؤجل). يعود الكاتب للقطع السينمائي ويطوي المسافات ويربط الحدث ما بين الصحراء وبيت حامد، فيعود لمشهد زواج مريم، والساعة النعش، وحالة الترقب، وتتابع الأحداث، ويرسم الانفعالات النفسية الداخلية للشخصيات، والشكل الخارجي في التكوين الجمالي لمكونات المشهد. بيت حامد (حامد جالس خجولاً أمام الشيخ والناس خلف ظهره يحدقون به ويتغامزون وهناك بعض الهمهمة حامد يردد نفس الكلام (زوجتك أختي مريم – زوجتك – على صداق قدره – على صداق قدره – عشرة جنيهات – عشرة جنيهات – كله مؤجل – كله مؤجل ثم أخذت العيون تأكل ظهره وهو جالس أمام الشيخ .. والمعجل الوحيد هو جنين يخبط في رحمها وخارج الغرفة أمسكها من ذراعيها ونظر إلى عينها نظرة يائسة – لقد قررت أن أترك غزة. ابتسمت فبدأ فمها الملطخ بالحمرة جرحاً دامياً انفتح فجأة تحت أنفها). تعامل الكاتب مع اللون الأحمر وتأثيراته النفسية، ورسم بالماكياج فن من فنون السينما وهو الخداع البصري، صنع جرح دامي ليعبر عن عمق المشهد وتأثير الحالة في تكوين البناء الفني، هذا المشهد مع المشهد السابق شكل وحدة متكاملة لا يستطيع المخرج الاستغناء عنها بأي صورة كانت. استطاع الكاتب أن يمسك خيوط اللعبة، وينقلك من لقطة واسعة للصحراء إلى لقطة متوسطة للغروب، وتتبعها لقطة مقربة لوجه حامد حتى يظهر تعابير وجه، هذا اللقطات مع ازدحام الأفكار وتشابكها وعملية القطع السريع والمونتاج والتوليف والمزج، جعلنا نغوص في بحر الصحراء ونخرج إلى البيت دون أن يرمش جفن، فالحياة تسير على عكس طبيعتها، الساعة التي تمثل الزمن، رمز الحركة قد توقفت وأصبحت نعشنا المؤجل .. حياتنا المسروقة ما دمنا نعيش حالة التردد ونخشى المواجهة.

فحامد يلجأ للصحراء كي تساعده على اكتشاف ذاته وتطور وعيه النضالي والفكري، فينضج إلى درجة تسمح له بالاصطدام بعدوه الحقيقي (كانت أمك بالنسبة لك دائما فارساً غالباً على استعداد ليشرع سيفه في وجه أي عقبة تقف أمامك. فما الذي تريده الآن من هذا الفارس الوهمي الذي أعطيته من فشلك وعجزك حصانه الخشبي؟ اجلس هنا تحت هذه السماء المرتدة إلى أعماقها وفكر بروية ما الذي أدراك أنها لم تتزوج فور أن ضاعت عنكما)، هذه التساؤلات جعلت حامد يواجه الحقيقة ويتخلص من براءة العقل الطفولي المرضي الذي يسكنه وينضج ويعتمد على ذاته، فلم يعد لنا إلا نحن، فالأمة العربية النائمة في العسل لن تمنحنا انتصارات، كل المعطيات تشير إلى ذلك فما تبقى لنا غير هذا الذل والموت المعد سلفاً.

شكلت الصحراء في العمل القوة الغريبة التي ساهمت في إعادة بناء شخصية حامد ففي صفحة (168-169) المكان – الصحراء: الوقت ـ ليلاً ـ المؤثرات الصوتية الطبيعية التي اعتمد عليها الروائي في المشهد ـ دقات قلب حامد وصوت الصحراء، الإضاءة الطبيعية نجوم السماء (وحدق إلى السماء خيمة سوداء مثقبة) جسد من هذه الإضاءة لوحة فنية تعبر عن الحالة النفسية، فاللون الأسود رمز القتامة، والثقوب بصيص الأمل، كما رسم خطوات حامد وحركته أمام العدسة (كانت الرياح باردة ومنعشة، وحاولت أن أنظر للساعة إلا أن الظلمة كانت حالكة تماماً فجأة بدت لي الساعة غير ذات نفع، حيث لا أهمية هنا إلا للعتمة والضوء) العتمة والضوء، يمثلان المساحة والفراغ، وهما عناصر أساسية في البناء الجمالي لتكوين الصورة.

حامد يسير في الصحراء يشاهد من بعيد عينين مضيئتين تهتزان وهما تنثران حولهما ضوءً دائرياً يواصل الروائي التعبير عن انفعالات شخصية بطله والتطور النفسي لحالته، فالخطوط البصرية الدائرية لها دلالاتها التعبيرية تساهم في سجن الشخصية داخلياً وخارجياً (دون أن ينتابه خوف أو تردد استلقى على الأرض أحس بها ترتعش كعذراء فيما أخذ شريط الضوء يمسح ثنايات الرمل بنعومة وصمت عندها فقط شد نفسه إلى التراب وأحسه دافئاً ناعماً) حاول الكاتب أن يمنح القارئ المشاهد نفحة من العاطفة ترصد علاقة الأرض بالإنسان، واستعان الكاتب بالإضاءة الصناعية للتعبير عن المشهد، كما جعلنا في حالة ترقب وانتظار المفاجأة المتوقعة، وهي إما أسر حامد أو هروبه أو قتله، لكن يأتينا بعكس التوقع فمن ذروة الانفعال إلى السكون والهدوء. الهدف من حالة التوتر النهوض بعنصر التشويق وجذب المشاهد إلى القمة ثم إطفاء الشعلة وإعداد القارئ المشاهد للمرحلة القادمة لينتظر الأحداث المتصاعدة.

الوقت ليلا ً ـ المكان الصحراء (حامد يسير وحيداً خائفاً في الصحراء)، المؤثرات الصوتية .. نبضات قلبه – صوت عصف الرياح .. وفجأة يأتي ضوء متحرك من بعيد فيشتد خوفه فيستلقي على الأرض، ومع اقتراب ضوء السيارة الصناعي يزداد انكماشه في الأرض لكن السيارة تستدير يتبعها سكون. الحدث هنا مخالف للتوقع الذي ينتظره المتلقي، نشاهد الضوء الأحمر في مؤخرتها وهو رمز الخطر، فللون الأحمر نصيب واضح بالعمل وتمهيد لما سيحدث مستقبلاً. يسترجع حامد حكايته وهذا تذكير القارئ المشاهد بمأساة حامد .. حامد يردد (زوجتك أختي مريم …. لو كانت أمي هنا) بهذا المشهد استطاع غسان أن يعبر عن خفايا شخصية حامد الطفل الكبير، فحامد الشخصية الرئيسية في الرواية شرقي الملامح قمحي اللون أشعث الشعر، يحمل في رأسه مأساة التهجير، يحلم بأن يعيد شمل الأسرة، ينتظر أن تأتي قوة خارقة والمتمثلة بالأم لتعيد له كرامته، وتعيد له العفة والشرف المغتصب، مازال يشعر بالنقص لقد انتزعوا طفولته وحشوه بالانهزام (لقد جعل من أمه البعيدة ملجأ يؤمه ذات يوم صعب، وانصرف إلى تكبيره وإعداده إلى درجة نسي فيها أن يبني نفسه رجلاً لا يحتاج في اليوم الصعب إلى ملجأ..).

كما يصنع كنفاني مشاهد متنوعة للمقاومة، وموت والد حامد وهو يقاوم وعودته شهيداً على الأكتاف، ويديه تترنح في الهواء، وضياع قبره، والافتراق عن الأم بعد نزوحها وتهجيرها) (ص186) كل هذه المفردات ساهمت بحالة الاضطراب التي غزته وزعزعت ثقته بنفسه.

الزمان عام 1948 ـ المكان شاطئ يافا صباحاً، يبدأ المشهد بصوت ضجيج حمم اللهيب تتساقط في كل مكان، النساء والرجال خاشعون يدعون الله، الأطفال تبكي وتصرخ الناس في حالة رعب وخوف شديد وكأنهم في يوم الحشر، هذيان غثيان، النار تبتلع الأخضر واليابس، الدخان غطى سماء المدينة الطلقات المتوحشة النارية تلتهم الإنسان، الحجر، الحيوان، والنبات.

(مريم) في حالة احتراق عاطفي، وانفعالات جنسية تعيش النشوة مشتعلة مثل المدينة تركض وسط الزحام يبدو عليها الإعياء، الزوارق تشق عباب البحر، الناس تلقي بأنفسها مرعوبة، أكوام بشرية تتجمع فوق الزوارق المتحركة، حالة من الخوف والهذيان تصاحب الجميع، الرحيل والشتات والضياع يفرض سطوته. (حامد) يخترق الجموع ويلقي بنفسه في الزورق، وعندما يشاهد مريم يسألها عن أمه (ولكن أين أمك؟ تركت على الشاطئ ستلحق بنا، خالتك هنا معنا).

هذا المشهد الذي مزج ما بين واقع التهجير والمشاعر الإنسانية المتناقضة، ما بين الرغبة في الحياة والجنس، وشريط الموت تحول لبانوراما سينمائية لعملية التهجير تلتقطها أكثر من كاميرا ومن أكثر من زاوية، فالرواية صنعت من خلال عين مخرج يجيد فن بناء اللقطات وتوليفها وتقنية كاتب يملك حرفية بناء السيناريو، وقد تم دراسة وبناء المشاهد بعمق مع شرح الأبعاد الثلاثية النفسية والاجتماعية والفسيولوجية للشخصيات، وهو عنصر أساس، فالمشاهد هنا بنيان مرصوص يشد بعضها بعضاً بشكل فني وهندسي والمعالجة البصرية واضحة المعالم.

القصة تتواصل بعد عملية التهجير إلى غزة ويكبر العار، فيهرب حامد من جحيم يطارده ويتوحد هو والأرض، ينضج ويقرر الثبات والمقاومة. يمثل حامد الطبقة المتعلمة في تلك المرحلة فهو يعمل مدرساً في وكالة الغوث لجأ إلى غزة مع أخته مريم التي تكبره بعشر سنوات بعد أن احترقت يافا وضاعت أمه في زحمة اللجوء عام 1948، واضطرت إلى النزوح بعيداً عن أولادها، وهنا ينقلنا الروائي في صفحة (193) لواقع الحياة الفلسطينية والشتات التعسفي الذي تعرضوا له الشعب الفلسطيني.

المكان – غزة “بيت حامد” الوقت – ليلا بعد العشاء عام 1946. الجو ماطراً طرقات على باب البيت صوت مزاريب الماء تتدفق، تفتح مريم الباب تطل عجوز متدثرة ببطانية كالحة تزرب من حواشيها خيوط المطر، العجوز أين خالتك؟ مريم: تفضلي، العجوز تدخل إلى سرير خالتهم المريضة، العجوز بعد أن تتنهد، أختك أم حامد جاء اسمها في الراديو سألت عنك وعن حامد وعن مريم، وطلبت أن تقولوا لها أين أنتم؟، الخالة تبكي وتحتضن حامد بين ذراعيها … ماتت الخالة في غزة وبعد ستة عشر عاماً من القهر والحرمان، تنهار مريم أمام أول رجل يحاول استغلالها .. اقتحم زكريا حياتها وقرر افتراسها من اللحظة التي شاهدها مع أخيها حامد في الشارع. يرسم لنا الكاتب بداية العلاقة بين مريم وزكريا بثلاثة مشاهد تمهيدية مترابطة تنمو تدريجياً .. في صفحة (178) يرصد غسان التأثيرات النفسية لمريم ومسببات حالة الزنا (كنت أرتجف خائفة ومستثارة في وقت واحد حين رأيته أمام الباب، كان حامد قد غادر منذ خمس دقائق، وكان زكريا واقفاً أمام الباب واثقاً من نفسه، وسأل هل هو هنا؟ لقد ذهب ليأتي بالإعاشة .. إذن سيتأخر .. ودخلت واضعاً يديك على كتفي .. إذن سيتأخر، كنت ماراً بالصدفة قرب المركز ورأيت ازدحاماً لا يصدق، صحيح أنه أول الشهر. سيول من المشاعر الإنسانية المتدفقة في هذا المشهد تعبر عن الشحنات الشعورية، والرغبات المتدفقة فهو مشهد مركب داخلي خارجي.. يبدأ لحظة تكدس أهل المخيمات على باب مركز الإعاشة والتدافع والصراخ والزحام، حيث يشخص الوضع الاقتصادي والفقر المدقع، كما نشاهد زكريا يتفحصهم بشكل سريع بحثاً عن ضحيته فيبصر حامد فيهز رأسه مبتسماً فينسحب ويواصل سيره .. الكاميرا تتابعه حتى يقف أمام بيت حامد، يدق على الباب، مريم تقف على الباب منفعلة جنسياً مؤهلة للخطيئة، يتقدم يسألها عن حامد، ينظر إليها ونظرات الخبث ترتسم على وجهه ويدخل ويغلق الباب خلفه ثم يقبلها بعنف، يضع يداه على صدرها .. الكاميرا تتحرك تدريجياً من أعلى إلى أسفل، دقات الساعة تتواصل بشكل تصاعدي خلال الحدث.. قطع سريع ما بين المشهد الداخلي والمشهد الخارجي لحامد وهو يقف منهك ينتظر دوره على باب الإعاشة، فتارة ينظر للناس وأخرى ينظر للساعة … قطع على حامد، تعود الكاميرا لمشهد زكريا وهو يلبس ملابسه، زكريا الأفضل أن أذهب .. يخرج وتبقى الساعة المسروقة تدق .. تدق حتى نهاية المشهد، ثم يتبعه مشهد فرض الأمر الواقع (نبت جنينك في رحمي، وليس أمامنا إلا الزواج، وضعنا حامد تحت الأمر الواقع، رغم أنه لا يطيق سماع صوتك، وضحيت بحامد، استعبدتني الرغبة فلم أفكر بأسرتك وزوجتك وأولادك الخمسة وتزوجنا وكان (كله مؤجل طبعاً فالمعجل هو جنين يتخبط في رحمي)، وهرب حامد من اللعنة يستنجد بأي ظل، وبقيت وحيدة أعيش كابوس خطيئتي مع زكريا النتن، ويرافقني نعش الساعة المرعب.

المشهد الأول، المكان – الشارع .. الزمان – نهاري: حامد ومريم يسيران بالشارع فيقتحم زكريا طريقهما فتكتشف مريم أنه مجرد زميل لحامد بالمدرسة.

المشهد الثاني، المكان – الشارع.. الزمان – نهاري: مريم تمر بالطريق فيقطع زكريا طريقها ويطلب منها أن تسلم على حامد ..

المشهد الثالث، تفتعله المكان – المقهى.. الزمان – نهاري: مريم تمر لتلفت انتباه زكريا وهو جالس على القهوة .. مريم تبطئ من خطواتها حتى يراها ويتبعها.

هذه المشاهد الثلاثة تساهم في بناء مشهد الذروة التأسيسي للعلاقة الحميمية بين زكريا ومريم.

يهرب حامد إلى الصحراء ومازال يركض وراء سراباً خوفاً من الكابوس الذي يطارده، تاركاً ورائه الوطن والأخت الضائعة التي كانت ضحية النكبة والتهجير، وافتقدت أمها النازحة وخطيبها الشهيد فتحي، تخلص حامد من أوهامه وضعفه. لقد ساهم مشهد التحامه بالمجند وسيطرته عليه ببلورة شخصيته، فالمشاهد السينمائية في صفحة (203، 204، 205) تعبر عن انسجام عضوي وبناء محكم سينمائياً. في صفحة (168، 169) المكان – الصحراء.. الوقت ليلاً – المؤثرات الصوتية – صوت الرياح وصوت نبضات قلب حامد.. الإضاءة، هناك نوعان من الإضاءة المستخدمة طبيعية وصناعية متمثلة، بالإشارات الضوئية من المجند الإسرائيلي. يبدأ المشهد بإشارات ضوئية سريعة تنتقل الكاميرا لحامد وهو بأقصى حالات الاضطراب ، ينظر للهضبة المسطحة والتي كانت مصدر الضوء وكأنه سيشاهد وحش يتحرك أو شبح يطارده فيرتعش خوفاً، وأخيراً يسيطر على انفعالاته ويستلقي فوق الأرض، ويتابع مصدر الضوء المتحرك، فيشاهد جندي الاحتلال يقترب منه، فيقرر حامد سريعاً السيطرة عليه، وبدون تردد ينقض عليه ويعضه من كتفه، ثم يركله بين فخذه، وينثر حفنة تراب في عينيه، فتخر قوى الجندي ويسقط على الأرض بعد أن يجرده من سلاحه الرشاش ويلقيه بعيداً ويحتفظ بالسكين، للمرة الأولى يشعر حامد بنشوة الانتصار. يعتمد غسان في هذا المشهد على القطع السريع والإيقاع المتصاعد ما بين الفعل وردة الفعل .. الكاميرا متحركة مضطربة تجذب القارئ المشاهد وتجعله جزء رئيسي من الحدث وتحرك انفعالاته وتمنحه عنصر التشويق والإثارة، وتعبر عن التغيرات التي واكبت الشخصية .. فلحظة الانتصار تساهم في نضوج وبناء شخصية حامد وما يطرأ عليها من تغيرات.. يرفض حالة الذل ويتنكر للماضي الانهزامي ويستعيد الأوراق المشرقة واللحظات الجميلة التي تمنحه القوة والصمود والتصدي، مثل استشهاد الفدائي سالم الذي علمه معنى مقاومة الاحتلال.. يسترجع حامد شريط الذاكرة كيف خرج سالم شامخاً ووقف يتحدى جلاده، وفوت الفرصة على الخائن الساقط زكريا قبل أن يشي عنه للاحتلال، مازالت نظراته تحتضن الجماهير وتدعوهم أن ينتصروا للحياة وأن يثوروا على القيد والخيمة، ثم يصب سهام الشفقة والاحتقار على الخائن النتن الذي باع نفسه لأجل حياة رخيصة، يسترجع الكاتب مشهد زكريا من خلال مخيلة حامد ليقول أن من يخون ويغرق بالوحل بإرادته لن يتعافى من مرضه يوماً (وقبل أن يفعل تقدم سالم من تلقاء نفسه ووقف أمامنا مباشرة. وقد رأيناه يغسلنا بنظرات الامتنان التي لا تنسى فيما كانوا يقتادونه أمامهم إلى أن عاد والتفت إلى زكريا وشيعه بنظرات رجل ميت: باردة وقاسية وتعلن عن ميلاد شبح) استشهد سالم، فأسكنه غسان في الذاكرة، غذاها بصورة الفدائي الذي لا يسرق لا يكذب لا يزني وينتصر لشعبه، والذي تأثر بها حامد بعد ستة عشر عاما من التردد والخوف يخترق الصحراء خلال محاولته الغوص في قلبها، شاهدنا بصرياً لوحة معبرة، بأسلوب مشوق، معتمدةً على العناصر الطبيعية كالمؤثرات الصوتية، ثم يعود بذاكرته للنتن ما زال يرعبه غدره وهو يبتكر فنون للخيانة عشق اًلملذات الحياة، لم يفكر يوماً بمصير عائلته الصغيرة وأولاده الخمسة، ولا بالعار الذي سيلحقه بزميله في المدرسة حامد الذي استباح بيته وطعنه بشرفه، كل هذه المكونات البصرية واللقطات المتنوعة والمزج السريع ما بين الحاضر والماضي والأصوات المتشابكة ، شكلت شخصية المقاوم لدى حامد، فلأول مرة تمنحه الصحراء الشجاعة لكي يلتحم بعدوه الحقيقي فعملية الالتحام والمواجهة المباشرة مع العدو خلقت منه إنسان آخر يفكر بأسلوب جديد تخلص من ذله وعاره وقرر أن يحيا فوق أرضه، ويكتشف ذاته بعيداً عن الأوهام والمعجزات القادمة، فحامد أدراك أنه لم يعد يملك شيئاً ليخسره، فيخاطب عدوه.. (سأقول لك شيئا مهما ليس لدي ما أخسره الآن، ولذلك فقد فاتت عليك فرصة أن تجعلني رِبحاً لأن موت المقاوم حين يواجه عدوه لن يكون خسارة على النقيض سيتحول الموت إلى حياة وتتحول المواجهة مع العدو في المستقبل القريب إلى ولادة جديدة، وهناك قضايا أخرى لها قيمتها يجب أن نحسب حسابها أن تقتل أنت هنا على بعد خطوات من معسكرك ربما هو عمل أخطر من أن أقتل بعد خطوات منه).

يستقيم الأمر وتنضج الشخصية بعد المواجهة مباشرة. حامد يقرأ الواقع المعاش بشمولية ويحدد مفهوم المكسب والخسارة ومعنى الحياة والموت، فأما أن تعيش حراً أو تموت حراً (ما تبقى لي في العالم كله ممر من الرمال السوداء، عبارة بين خسارتين، نفق مسدود من طرفين). كل هذه اللعنات تؤهل حامد للمقاومة والانتصار لنفسه ولوطنه فيخاطب عدوه (كن رجلاً طيباً ودعنا نتحدث عن يافا. إن الانتظار الصامت لن يأتي إلا بالرعب)، وهنا يوضح غسان أن الاحتلال لن يفهم لغة المفاوضات فما أخذ بالقوة لن يسترد إلا بالقوة، فكل المحاولات للتفاوض والوسائل السلمية مع خصمه تبوء بالفشل، فتتعزز لديه فكرة التجذر في أرضه واختيار وسيلة الكفاح المسلح لانتزاع حقوقه (أدركت أنه سيكون بوسعي ذات لحظة أن أجز عنقه دون رجفة واحدة، وأن هذه اللحظة ستأتي لا محالة)، ويجسد (حامد) نبوءة الفدائي الذي سيغامر بدخول الأرض المحتلة، ليصل إلى أمه الحقيقية (الوطن) لينفض عن نفسه غبار الوهم الذي عشش في داخله طويلاً، وقد تجسدت النبوءة بعد سنة من كتابة الرواية عام (1965) يطلق الفدائي رصاصة الثورة، وهكذا نجد المبدع الأصيل يستشرف المستقبل، ليسلط الضوء على كل الوسائل التي تغذي رؤيته.

مشهد الكفاح المسلح صفحة (226، 227، 228) المكان الصحراء، الزمان بزوغ الفجر، حامد ينظر إلى المجند المقيد، ويمرر نصل السكين فوق حذائه .. الحذاء هو نقطة التواصل بين الإنسان والأرض لذا نشاهد حامد يمرر نصل سكينه على الحذاء ليقول للمشاهد المتلقي علينا أن نجتث الاحتلال من جذوره.. (الجندي ينظر إليه، نظرة خرساء خائفة، يزحف على مؤخرته للبحث عن زجاجة معدنية سقطت منه، حامد يتقدم ويهز الزجاجة وينظر للجندي نظرة احتقار، ويرميها بعيداً.. يأخذ حامد أوراقه من جيبه، يشاهد كلمه يافا باللاتينية، حامد يقترب منه للسؤال عن يافا)، إيماءات الجندي تدل على رفضه للحوار، فلن تكون هناك لغة بين القاتل والقتيل.. ليس أمام حامد إلا أن يشهر سلاحه في وجه المحتل وينتهج نهج الكفاح المسلح.. كما ترصد الكاميرا في الطرف الآخر (مريم) وهي تواجه عدوها الداخلي زكريا وتتحرر منه. المكان .. بيت حامد – الوقت – ليلاً.. المؤثرات الصوتية – دقات الساعة التي تتابع تصاعد الحدث .. مريم تصرخ بجنون لكي تحمي جنينها، تختلط الأصوات ما بين صراخها وشتائم زكريا، مريم تضع يديها على بطنها لتوحي للقارئ المشاهد أن الطفل القادم يحتاج أرض نظيفة خصبة حتى يخرج للنور، لكن زكريا محور الشر يصمم على قتل الحلم، فينقض عليها لكي تسقط جنينها، مريم تصب ناظريها على السكين وتأخذ قراراً سريعاً أن تتطهر من ذنوبها لتحمي المستقبل، تنطلق وتحمل السكين، لقطات متنوعة متبادلة سريعة بأحجام متساوية بين فعل وردة فعل توثق انفعالات زكريا ومريم .. كالبرق تتقدم مريم مسرعة وتطعنه في عانته، زكريا يتراخى ويحاول الإمساك بالمقبض، لكنه لم يفلح فينحني ويستدير على الطاولة، الدم يبلل سرواله، زكريا يصب نظرات خبيثة عليها، مريم تمسكه من كتفه وتدفعه نحو الحائط، يلتصق جسده هناك وينحني بعض الشيء وقد سقط ذراعاه على جبينه ، ألصق جبينه على الحائط محاولاً أن يبعد المقبض عن الوصول إلى الجدار، مريم تضع ركبتها على ظهره حتى يغوص النصل في لحمه. مريم تبتسم وكأنها تغتسل من ذنوبها وتروي عطش الضحايا.

جمال السينما أنها تختصر الأزمنة وتخترق الأمكنة وتوحد المشاعر فلا مسافات في عالم الصورة، الأفكار تتجاوز الحدود، إنه التمرد على التردد والضعف، مزيج من اللوحات التعبيرية السينمائية المتناسقة، نفس الانفعالات والتصعيد ونفس القرار في الصحراء، وفي بيت حامد .. التأثير النفسي يتم توزيعه ما بين حامد ومريم رغم اختلاف الأمكنة من الواضح أن كل هذه التفاصيل وبعد المكان، لم يؤثرا على علاقة الترابط بالمشاعر بين حامد ومريم أنهما يعيشان نفس القضية، ونفس اللحظات الانفعالية .. تعتمد الكاميرا المتحركة على الإيقاع السريع والفعل ورد الفعل، واختيار أحجام اللقطات والزوايا المتشابهة في كلا الحالتين، ما بين حامد والمجند ومسرحهم الصحراء، وزكريا ومريم ومسرحهم الزمن المفقود والتي ترمز له الساعة النعش.

ينقلنا الكاتب من مكان لمكان، ومن زمان لزمان، ومن شعور لشعور، ليضع القارئ المشاهد في وسط الحرب مع جنوده أبطال روايته، نقرأ تفاصيل ملامحهم، ونشاهد عملية الانكسار النفسي بعد كل حدث، وخطواتهم الجنائزية النابعة من المشهد، فالمعركة مغلقة تحتاج الحسم واتخاذ قرار المواجهة.

(كانت الساعة تشيع نفسها كل صباح في نعشها الصغير أمام عيني وأنا أبدل ثيابي، ومع صبي الخباز تسلمت منه أول الكلمات وآخرها سأغادر مع غروب الشمس وسأكتب لك من الأردن) عاشت حالة انتظار كأن دقات الساعة مربوطة بنبضات قلب حامد، وقفت شاخصة أمام الساعة تراقب حركات عقاربها تحسب خطاه (وها هي تدق عشر دقات تدق، تدق وكأن العكاز ينتزع نفسه وهو يدق خطواته الأبدية المفردة في نعش صغير مغلق بإحكام)، مريم تحترق تغزوها الهواجس وزكريا يغط بالنوم وكأن شيئاً لم يكن ما زالت تترقب مصير حامد فهي السبب الرئيسي وراء هروبه. في صفحة (191) ينظم لنا غسان المشاهد وكأنه ينظم قصيدة شعر ما بين اضطراب مريم ومشاعرها الإنسانية، وسكون زكريا والبحث عن المكاسب المادية، فكل همه بعد هروب حامد تغيير الأثاث والبحث عن متعة إضافية. ما يشدك لهذا العمل.. الإيقاع الخاص باللقطات وإيقاع الشخصيات فيما بينها فما بين تناقض الانفعالات الداخلية وتقطيع المشاهد الخارجية بأحجام مختلفة ومتنوعة تحملك إلى عالم المعرفة والتشويق والمتعة.

المكان بيت حامد التوقيت ليلي .. تجلس مريم أمام الساعة نعشها الصغير، تراقب خطواتها، تتذكر حامد يوم أحضرها، طرقات سريعة على الباب، تفتح مريم .. حامد يحمل الساعة وعند السؤال عن ثمنها يقول أنه سرقها.. تنتفض مريم مفزوعة عندما تتخيل أن مكروه مسه. يستيقظ زكريا ينظر إلى الساعة ويطلب منها أن تخرج من دائرة الانتظار والقلق وتستسلم للواقع، لأن حامد من وجهة نظره حتماً سيهلك فهو لن يهرب من الميتات التي تنتظره خلال عبور الصحراء .. يقول زكريا (لو قرأت غداً صباحاً في الجريدة خبراً يقول أن أحد المتسللين قتل على الحدود) تنهار مريم… زكريا يتنفس الصعداء منتصراً شامتاً يحتقرها بنظراته، فتنهمر الدموع من عينيها تبكي وتبكي فيصرخ بها كفى، كفى بعد أن يذبح ضحيته يبدأ بجمع المكاسب يريد زكريا تغيير أثاث البيت، واستغلال التوقيت لمصلحته، فتنهار مريم وتعيش حالة هذيان تسترجع تفاصيل جريمتها المتعلقة بزوجته وأولاده الخمسة، تحاول الاقتراب منها تكتشف أن اسمها فتحية وهو نفس اسم صديقتها في يافا، ليقول لنا الكاتب ربما تختلف الملامح لكن ستبقى الضحية واحدة مادام هناك من يغذي عالم الجرائم.. تسترجع ذكريات يافا والتهجير والبكاء والحرائق والقوارب التي تتجه إلى غزة، وعائلة فتحية ووالدها المصمم على البقاء في المدينة، و فتحي الذي أصبح خطيبها كيف استشهد دفاعاً عن الوطن، تتزاحم في رأسها الأفكار.. تنهض في الذاكرة صورة ضحيتها زوجة زكريا القديمة فتشعر بالذنب (لو استطعت فقط أن أجعلها تفهم بأنني لست ضدها، وأن الأمور كلها سارت دون أن تكون فيها.. ما الذي سيهمها من الكلام وقد أصبحت زوجة ثانية) تجتهد مريم للتخلص من أفكار تطاردها وتتابع عقارب الساعة وهي تتقاطع ثم توقظ زكريا

 

– ولكن قل يا زكريا، كم يحتاج المرء على قطع المسافة مشياً من غزة إلى الأردن.

 

– عشر مرات قلت لك.

 

– لا لم تقل لي.

 

– اثنتا عشرة ساعة..

مريم ينقبض قلبها وتجتاحها رعشة مفاجئة لحظة التحام حامد مع العدو .. تتوحد المشاعر تطوي المسافات وتتعانق الأرواح خارج الأمكنة والأزمنة.. فتنتفض قائلة – لقد حدث شيء ما له في هذه اللحظة بالذات .. تعيش مريم الانتظار والخوف من المجهول، يستغل زكريا ضعفها فيكشر عن أنيابه ويفرض عليها أن تسقط الجنين. في صفحة (220) المكان – بيت حامد – التوقيت ليلاً.. مريم تنزف عرقاً مضطربة، تتحرك في الغرفة يأكلها القلق، زكريا يتصفح الشارع من خلال النافذة، ينظر للسماء وإلى أكوام التنك وغرف الطين في الجهة المقابلة، هنا تتضح جغرافية المكان والوضع الاقتصادي للاجئين.

 

– زكريا أوشك أن يطلع الفجر .. ماذا حدث لك؟.

 

– مريم لا أستطيع لا أستطيع .. خطواته تملأ رأسي وتدق.

 

– زكريا .. خطوات من؟.

 

– مريم: “بغضب” حامد .. نسيته !.

 

– زكريا يضحك ساخراً .. زكريا: (مجنونة، تستمعين إلى خطواته).

 

– مريم: خطواته .. مع كل دقات الساعة يخطو خطوة.

 

– زكريا “باستهتار” ألم يخطر على بالك أنه .. مريم .. تنظر إليه بغضب فيحاول جرها لموضوع أخر.

– زكريا: اسمعي يا مريم إذا كانت الساعة اللعينة، تسبب لك الأرق فلدي الحل إذا أملناها قليلاً إلى الجانب توقف الرقاص. مريم تشير إلى حركة بطنها لتوحي له الدق هنا .. وبهذا يربط الكاتب بين إيقاعين .. إيقاع الساعة وإيقاع المولود القادم .. ليوحي لنا أن توقف الوقت عن الحركة سيتوقف الإنسان وينتهي الكون.

– “ز كريا غاضباً” طفل سادس؟ إنه الولد السادس! لقد نصحتك ألف مرة أن تتخلصي منه، ولكنك تعتقدين أنه شيء مثير ومهم ..” مريم ترعبها الفكرة فتلتزم الصمت “يواصل زكريا حواره.

– زكريا: الناس.. الناس ماذا سيقولون؟ هذه فضيحة أخرى، طفل بعد خمسة أشهر من الزواج!! هل حسبتي أنني تزوجتك لتنجبي ولداً أيتها العاهرة؟ إذا لم تستطيعي إسقاطه .. فأنت طالق .. طالق .. طالق .. هل تسمعين؟ طالق.

مريم مذهولة مما وصلت إليه، فبعد أن غرقت في بئر القاذورات و تنازلت عن قيمها النبيلة التي ورثتها عن عائلتها، وعاشت مع رجل جائع يريدها مسخ، فهي بالنسبة له مجرد ممر للرغبات بين بيته والمدرسة لذا يريدها أن تجهض الجنين الذي بات يشكل لديها الأمل الوحيد في مستقبل أفضل، قررت مريم أن تتطهر من عارها وتجتث الخيانة من جذورها، فقتلت زوجها النتن، حتى ينشأ طفلها واثق الخطى قوي في جو نظيف بعيداً عن أجواء العار.

تعتبر شخصية مريم نموذجاً للإنسان الفلسطيني الذي يقاوم ويقاوم إلى ما لا نهاية حتى لو تعثر وسقط عليه أن ينتصر للحياة، ويبدأ من جديد، ويتمرد على الخوف الذي يستوطنه، ويكون أقوى مادام هناك أمل بحياة أفضل. مزج الكاتب الهم العام بالهم الخاص، فحكاية مريم وسقوطها تتشابه مع حكاية فلسطين فمريم حلمها الجنين وفلسطين تنظر للأجيال القادمة أن تثور وتجتث المحتل وتحررها .. فحامد ومريم يجسدان الروح الفلسطينية النقية التي تنهض من وسط الركام وتنتصر للحياة.

وأخيراً نستطيع القول أن الرواية الحديثة هي فيلم سينمائي مصور كتابياً.. الفرق بينها وبين الفيلم، أن الفيلم يقوم بإخراجه مخرج لها رؤية محددة يمنحها للجمهور.. عكس الروائي الذي يمنح كل قارئ مساحة من الخيال لإخراج عمله بنفسه.. ليس معنى ذلك أن كل كاتب رواية سيناريست، فكاتب السيناريو يحتاج إلى ملكة خاصة وعالم من الخيال فعليه أن يكون جراح محترف ومهندس يجيد فن البناء وقاص يحيك عناصر العمل من لحظة ولادة الفكرة حتى الشروع في عملية البناء محافظاً على الإيقاع مروراً باختيار الشخصيات ودراسة طبيعة الحوار والصراع والحبكة والتتابع والمفاجأة وإخفاء المعلومات والتوقع ومخالفة التوقع واختيار نوعية الإضاءة والمؤثرات الصوتية والموسيقى وفن توليف اللقطات في المونتاج وعناصر التكوين السينمائي، فما تبقى لنا بعد دراسة الرواية هو فن المعرفة والجمال التي منحنا إياها الشهيد المبدع غسان كنفاني.

زر الذهاب إلى الأعلى