صورة السلطة في مسرحية مأساة جيفارا للشاعر معين بسيسو

صورة السلطة في مسرحية مأساة جيفارا للشاعر معين بسيسو
بقلم: جواد العقاد/ رئيس التحرير
المسرح الشعري هو: “النص المكتوب شعرًا وهو القابل –في الوقت نفسه- للتمثيل، فمن المؤكد هنا أن البناء الدرامي البالغ الدقة يهيمن على العناصر الغنائية ويسيرها لمصلحة حركة الدراما”١. وهنا لا نتحدث عن قصيدة تأثرت بعناصر المسرحية واستفادت منها وإنما عن مسرحية تامة كُتبت باللغة الشعرية وأوزانها.
معين بسيسو:
ويُعد بسيسو من أهم رواد المسرح الشعري في الأدب العربي المعاصر، إلى جانب إسهاماته في قصيدة التفعيلة والمقالات، بحيث قدم ستة نصوص مسرحية شعرية لها أهمية بالغة في الأدب الفلسطيني، وهي: مأساة جيفارا، ثورة الزنج، شمشون ودليلة، الصخرة، العصافير تبني أعشاشها بين الأصابع، محاكمة كتاب كليلة ودمنة. وإن بسيسو في معظم كتاباته لا سيما النصوص المسرحية يعتمد على مرجعية أيديولوجية، وهذا ما يتضح جليًّا في مأساة جيفارا.
صورة السلطة في مسرحية مأساة جيفارا
مأساة جيفارا هي مسرحية شعرية للشاعر الفلسطيني معين بسيسو، صدرت عن دار الهلال في القاهرة عام 1969م، وتستلهم حياة البطل الثوري تشي جيفارا الذي أصبح أيقونة للتمرد والثورة ضد قوى الاستعمار والرجعية، تدور أحداث المسرحية في قرية بوليفينية، وتُقسم إلى ثلاثة فصول يتفرع كل منها إلى مجموعة من المناظر: الفصل الأول يصور حياة الفلاحين في القرية واستغفالهم من قبل السلطات الحاكمة المتحالفة مع السلطة الدينية المتمثلة بالقسيس لدرجة أنهم مقتنعون بالجهل ولا يحق لهم العلم بشيء غير ما تمليه عليهم السلطة، أما الفصل الثاني فيعرض مطاردة البطل جيفارا وهو يحاول التغيير والتعبئة الثورية للفلاحين، ويُحاكي الفصل الثالث النهاية التراجيدية لجيفارا.
في هذه المسرحية يُعيد الشاعر إنتاج مأساة جيفارا وفق رؤية جديدة منطلقًا من خلفية ثقافية وثورية، في محاولة إلى صياغة وعي عربي يرفض الاستغلال والاستعمار والرجعية والتجهيل، إنها رسالة الثوري المُخلص للفلاحين والكادحين والمهمشين بأن الوعي والمعرفة هي السلاح الفعّال ضد الظلاميين على اختلاف أهدافهم ومرجعياتهم. جيفارا وهبَ نفسه في سبيل حرية الإنسان وخلاصه من ظلام التخلف والرجعية الذي فرضته بعض الأنظمة، هو مناضل أممي يبحث عن الخلاص الجماعي للبشر نحو آفاق الحرية والإنسانية.
إن الوعي هو المحرك الأول للجماهير نحو المطالبة بالحرية والكرامة، لهذا فإن السلطة دائمًا تلعب على وتر تجهيل المجتمع أو بأقل تقدير توجيهه بحسب مصالحها، وأثبتت التجارب التاريخية استغلال السلطة للأديان من أجل التأثير على عامة الناس، فالإنسان البسيط ينزع نحو التدين الفطري ويكاد يُقدس رجال الدين الذين يعدّون أنفسهم وكلاء الله في الأرض، ولا نستطيع إنكار مقولة ماركس “الدين أفيون الشعوب” مع العلم التام أنها لا تُهاجم الدين كونه حاجة إنسانية بل ترفض تسيس الدين واستغلاله، وهذا ينطبق على أي دين. ومن هنا ظهر مصطلح الإسلام السياسي في العصر الحديث.
المسرحية تطرقت إلى هذا الموضوع على أساس أنه جزء من معاناة الطبقة الكادحة:
الفلاح الشاب:
والقسيس بقريتنا قال بأن علينا..
ألا نقرأ…
نسمع ولا نتكلم…
الفلاح العجوز:
نحن بقريتنا نسمع لا نتكلم..
فالشرطي يتكلم..
زوجته تتكلم..
كلبته، قطته، تتكلم..
والمالك يتكلم..
والمتعهد يتكلم..
أما نحن فنسمع.. (ص15)
إذن فالسلطة، أي سلطة، هي عينُ التطرف؛ لأنها تحتكر الحقيقة وترى نفسها ظل الرب على الأرض، ولا يحق للناس أن تقرأ لأن القراءة الرافد الأول لصياغة مفهوم الحرية، فقط عليهم السمع والطاعة العمياء، إلى مرحلة يستلذ فيها العبد بالعبودية، يقول الفلاح الرابع: إن لم ندفع نحن الفلاحون فمن يدفع؟ (ص24)
ويقول الشاعر على لسان الابن الذي يتعامل مع الشرطة في حواره مع أبيه:
لماذا تحلم؟
لماذا نحلم؟
كانت قريتنا لا تحلم…
لما حلمت عاقبها الرب…
ومن خطر هذا التحالف الرجعي أنه في كثير من الأحيان يوجه التهم دون أن يكون لها أساس، مستغلًا بذلك جهل المجتمع أو ضعفه، فالقمع هو الأساس الذي تقوم عليه هذه الأنظمة، المهم أن تُظهر بطشها وقوتها، ومن ذلك في هذا النص المسرحي: أن الشرطة حين وجدت الأوراق المحرضة ألقت التُهم على الفلاحين جُزافا.
السجين: .. اسأل كل الفلاحين بقريتنا..
لو فلاح قال بأن امادو
يقرأ أو يكتب
فسأقرأ وسأكتب…
الضابط: لا بد وأن تكتب…
السجين: ماذا أكتب؟
ماذا أكتب؟ (ص45)
وفي حال سمحت السلطة بالمعرفة والتثقيف فإنها تنشر الوعي المزيف، إن صح أن نعتبره وعيًّا أصلًا، ذلك الذي يتوافق ومصالحها ويزيد من الخضوع والذل، جاء على لسان الضابط في المسرحية:
فالقانون هو القانون
والقانون يقول وبالحرف الواحد…
“من كتب ومن قرأ ومن وزع…
أوراقًا لا تحمل ختم الشرطة سيعاقب…
أو آوى حامل أوراق أو أطعمه…
أو أخفاه عن عين الشرطة سيعاقب… (ص26)
وقد استخدم الشاعر بعض التقنيات المسرحية في النص محل الدراسة، وأهمها:
- هدم الجدار الرابع:
يقوم المسرح التقليدي منذ الإغريق على عملية اندماج الجمهور مع المسرحية من أجل الارتقاء بالذات البشرية من خلال تنفيس المشاهد عن عواطف مكبوتة تثيرها أحداث المسرحية، هذا ما أطلق عليه أرسطو في كتابه “فن الشعر” مصطلح “التطهير” ويعني به: اندماج الجمهور مع آلام البطل في المسرح التراجيدي، مما يؤدي إلى تنفيس كل فرد عن آلامه الذاتية، وظلت هذه الرؤية من أساسيات الفن المسرحي في أغلب المذاهب المسرحية، ومع تبلور المسرح الملحمي على يد المسرحي الألماني برتولد بريخت حدث في أساسيات المسرح المُسلم بها عدة تحولات من أبرزها هدم الجدار الرابع: وهو ذلك الجدار الوهمي الذي يفترضه المسرح التقليدي بين خشبة المسرح والجمهور، وكأن الجمهور غير موجود، ويُعرف أيضًا بمصطلح “كسر الإيهام”، بمعنى منع اندماج الجمهور مع المسرح وتذكيرهم الدائم أنه مجرد تمثيل، وذلك من خلال جعلهم جزءًا من العمل المسرحي بالحديث إليهم وتوجيه الأسئلة لهم، ولعل أهم ما دفع بريخت للتغير في المسرح وبخاصة هدم الجدار الرابع هو بروز قضية الالتزام في الأدب المستمد من الرؤية اليسارية الثورية التي طوعت الأدب من أجل التحريض على التمرد والثورة، يقول جيمس بروس عن مسرح بريخت (الملحمي): “عند بريخت كان هدف الدراما هو أن يعلمنا كيف نناضل ونظل على قيد الحياة”٢.
وبالطبع نحن لا نعد مسرحية “مأساة جيفارا” تنتمي إلى المسرح الملحمي، بل استفادت منه في تقنية هدم الجدار الرابع، ونأخذ مثالًا على ذلك ما يأتي:
الباب وهو يغلق، الفلاح العجوز يتقدم حتى يواجه الجمهور..
ولد في الجنة
والولد الثاني في النار
ولد في فردوس الشرطة
والآخر في نار المنجم… (ص50)
فالشاعر يذكر الجمهور أن هذه مسرحية تحاكي الواقع وليست حقيقية إذ يوجه الكلام إليهم، ويجعلهم جزءًا من العمل المسرحي دون إيهامهم بأن ما يجري على خشبة المسرح واقعي، وبذلك فالجمهور لا ينفس على آلامه أو غضبه وإنما تحتشد مشاعره ليكون شعلة للتمرد والغضب في الواقع. أتوقع لو أن الشاعر وجه كلام العجوز إلى الجمهور بشكل مباشر لاختلف الأمر، فإذا جاء الكلام في المقطع السابق ضمن سياق المسرحية سوف يلامس من يعيش معاناة مشابهة فينفس عن آلامه ويخرج من المسرحية مرتاحًا، أما إذا كان موجهًا إلى الجمهور مباشرةً كما الحال في النص أعلاه فإنه سيكون بمثابة دعوة للتمرد على الواقع فيخرج المشاهد محتشدًا بمشاعر الغضب. - الحوار الداخلي (المونولوج):
هو “ذلك العنصر الذي يتيح للشخصية أن تفصح عن دخيلة نفسها لتكشف مشاعرها الباطنية وأفكارها وعواطفها، كأنها تفكر بصوت مسموع”٣. فالحوار الداخلي له دور مهم في الكشف عن أفكار الشخصية ودواخلها، وإيصال المشاعر الإنسانية إلى المتلقي بصورة أكثر تأثيرًا وعمقًا. ويبدو الحوار الداخلي في مسرحية مأساة جيفارا في أكثر من موضع، وبخاصة على لسان ماريانا، لتوضيح حالتها النفسية وضيقها واعتزالها المجتمع الذي يراها مومسًا، مع أن كثيرًا منهم تمنى علاقة خاصة معها.
تقول ماريانا مناجية ربها:
لا أحد يعرفني غيرك…
لا أحد غيري يعرف كيف تعذبت…
ما أسهل أن تكتب عن إكليل الشوك…
وعن كأس الخل…
ما أصعب أن تتزين بالشوك…
وتجرع كأس الخل…
ما أسهل أن نطرق مسمارا…
ما أصعب أن يغرس في الكف المسمار…(ص83) فالمونولوج في هذا المقطع أسهم في بيان حالة ماريانا النفسية وهتك المسكوت عنه من مأساتها شخصية، فالمجتمع المنافق يرفضها ويراها امرأة موسًا ومع ذلك يرغب بها، فالقسيس أقام معها علاقة حميمة وهو أول من اتهمها في عرضها، مما أدى إلى شعورها بالاغتراب الذاتي، فلجأ إلى ربها مفصحةً عن آلامها وأحزانها.
ختامًا: إن الشاعر معين بسيسو رؤيته الفكرية بوضوح في مسرحية مأساة جيفارا، وقد مثلت المسرحية هتكاً للمسكوت عنه في علاقة الدين بالسلطة السياسية، كما أن الشاعر من جيفارا بطلًا رمزيًّا للتعبير عن تجربته النضالية والثورية.
المصادر والمراجع:
١. عبد الغني، مصطفى: المسرح الشعري “الأزمة والمستقبل”، عالم المعرفة، الكويت 1978.
٢.عبد القادر، فاروق (ترجمة): دار الفكر المعاصر، القاهرة 1979.
٣.عودة، علي: غواية المتخيل المسرحي، مقاربات لشعرية النص والعرض والنقد ط1 المركز الثقافي بيروت 1997م.