نصوص

دروس الحب: نظرة عن كثب

دروس الحب: نظرة عن كثب

صفاء حميد – خاص اليمامة الجديدة

ثم توصَّل رابح وكيرستن كلٌّ على حدة، إلى نتيجةٍ مشتركة مفادها: أن الوسيلة الوحيدة للحفاظ على استمرارية الحب لا تكون إلا عن طريق عدم جعله محور الاهتمام في العلاقة.
هذه خاتمةٌ قرَّرتها بنفسي لكتاب آلان دو بوتون الروائي الفلسفيّ: دروس الحب.
فشخصيتا رابح وكيرستن كانتا موضوع دراسته الفلسفية للحب الرومانسيّ في كتاب دروس الحب.
رابح شابّ لبنانيّ الأصل عاش طفولةً قاسية، كان الشطر الأكبر منها عالقاً في الحرب الأهلية في بيروت، قبل أن تكتمل بموت والدته في السرطان أثناء مراهقته الأولى.
وكيرستن شابةٌ اسكتلندية هجَّرها والدها دون مبررات أو إجابات حين كانت في السابعة من عمرها، فتحوَّلت ردة فعلها إلى رقابة ذاتية شديدة الصرامة.
اختار آلان شخصيتين عانتا من مشاكل في الطفولة والمراهقة، وهذا اختيار ذكي وخطير، فدراسة شخصيتين كهاتين- وهما حقيقةً تمثلان قطاعاً كبيراً من الناس بيننا- يحتاج قدراً من التأني والتفصيل والغوص في أعماق ما وراء الصورة الظاهرية، وهو ما أتقن فعله على مدار الصفحات التي تزيد عن مئتين وسبعين صفحة.

بدايةً عزيزي القارىء، عليّ أن أخبرك أمراً مهماً، وهو أنَّ موضوع الحب كان موضوع بحث فلسفيٍّ واجتماعيٍّ دائم، ومحل اختبار أمام تعريفات واجتهادات كثيرة، حاولت تأطيره ووضعه في قالب واضح ومحدَّد.
لكن موضوع الحب الرومانسي تحديداً كان أقلّ حظاً من الحب بالمفهوم العام، فلم يتطرَّق إليه كثيرون بتصنيفه جزءاً مهماً ويستحق دراسات منفصلة على الأقل قبل وصولنا إلى الزمن الحديث، والبدء في رؤية آثار الخلافات العاطفية على أرض الواقع ملموسة وواضحة.
أما ما كان أقل حظاً من الحب الرومانسيّ، فهو مسألة استدامة الحب. سؤال كبير قد يطرحه الواقع في الحب على نفسه: كيف أحافظ على استدامة هذه الشرارة الحلوة التي اشتعلت للتوِّ بيني وبين شريكي، كيف أحميها من الأزمات والشرور وتقلبات الأمزجة وأجعل منها ملجئي الدائم الآمن؟
وهذا تحديداً هو موضوع بحث آلان دو بوتون في كتاب دروس الحب.
قد يبدو لك ولي عزيزي القارئ أن هذا سؤال غريب، بل وغير منطقيٌّ أبداً، لكن بعد قراءتي للدروس أرى أنَّ الحب ليس أمراً يحدث كل يوم، إنه منحة قد لا تتكرر، فالسؤال منطقيٌّ إذاً.. كيف نحمي منحتنا؟
كما يسهب دو بوتن، وأختصر أنا:
في المقام الأول يكون كل تركيزنا منصبَّاً على حماية هذه الشرارة من العالم الخارجيّ، وهذا عادةً يحدث في البدايات، حين تكون شرارتنا في أوج توهجها، ونكون متيقنين تماماً من أنّ هذا الذي وجدناه هو المحارب الذي سنواجه معه كل أهوال الحياة.
أما الشرارة المذكورة فتتطور وتنمو وتتغير من شكل
إلى آخر كما يشير دو بوتون في صفحات كتابه إشارات بعضها واضح وبعضها مبهم، لكنها جميعاً تصبُّ في فكرة أنَّ هذا الحب ليس تمثالاً رخاميّاً، بل هو أقرب من العجينة القابلة للتشكيل.
بعد أن يحوِّل الشريكان حبّهما لعلاقة ثابتة تحت اسم الزواج، تبدأ معضلة جديدة بالظهور إلى السطح: لن يكون الشريكان الآن صفاً واحداً في مواجهة العالم، بل سيتحتَّم عليهما أن يشقَّا هذا الصف أحياناً ويقفا في وجه بعضهما البعض، وإن تكن خلافاتهما لا تزال صغيرة، كاختيار لون الأثاث، وتحديد وقت مغادرة البيت، و الشخير أثناء النوم، وفتح الشباك أو إغلاقه، وتشغيل المروحة أو إغلاقها.
لا يبدو أن الحبّ قد صار مهدّداً في هذه المرحلة، وإن يكن قد صار موضع شكّ بسيط، فما الذي جعل لهذا الشريك الحلو- فجأة- كل هذه الصفات التي لا نحبها؟
الواقع أن الشريك لم يكفّ عن كونه حاملاً لهذه الصفات منذ التقيناه أصلاً، لكننا نختار إغفالها طوعاً، أو أننا لا نملك فرصة كافية لاستعراضها بحكم طبيعة العلاقة الأولى.
تظهر رغبة الإنجاب كنتيجة طبيعية للزواج، ودون إجراء أي دراسة بسيطة عن منطقية الأمر أو جدواه في الوقت الحالي؛ يأتي طفل صغير معتمداً اعتماداً كليّاً على والديه، فيبدأ الحبّ في هذه المرحلة في اتخاذ شكلين، شكلٍ هادىء معطاء شديد الصبر والتأني، وهذا هو الحب الموجه نحو الطفل، و شكلٍ أقلّ صبراً وأكثر نزقاً ومطالبات وهو الحب الموجّه نحو الشريك.
وهنا يغفل الشريكان عادة أن كليهما يشعران بهذا النوع نفسه من الحب تجاه بعضها، وهو وإن يكن غاضباً ومرهقاً، لكنّه يظلّ حباً.
لو ازداد الأطفال- إن النتيجة هي تعميق الشعور المذكور، وتحويله إلى ما يشبه الكابوس- يصير الشريك مجرد شخص متربص مهووس في الترصد لهفواتنا وتقصيرنا، ومستعداً على الدوام لتعكير مزاجنا، وجعلنا نشعر بالنقص والتقصير.
وهنا يكون الحب قد وصل قمة حرجة، وبدأ مرحلة خطيرة قد لا يستطيع بعدها المحافظة على استمراريته، واللغز كما يشرح دو بوتون يكمن في أمر بسيط للغاية، وهو أن الشريكين يحاولان الجمع بين الرغبة والشغف الرومانسيين الذين تبقيا من لقائهما الأول، مع المسؤوليات والمهام التي أورثاها بفعل إنجاب الأطفال، وهما في هذا يحملان إصراراً طفوليّاً في جعل هذين الأمرين حاضرين ومكتملين في الوقت نفسه، وهو ما يعد ضمن المستحيلات؛ نظراً لأن عنصراً جديداً قد دخل علاقتهما.
وهنا يشير آلان إلى أنّ الزواج أصلاً هو تضحية من شخصين في جعل حياتهما مقتصرتين عليهما فقط، وكذلك الإنجاب بعد الزواج تضحية بجعل حياتنا تنصبُّ على عناصر خارجنا، عناصر معتمدة علينا اعتماداً كليّاً.
إدراكنا لحقيقة أن الحب لا يختفي بعد كلّ هذا، وإنما يتغير شكله، ويصبح أهدأ وأكثر نضجاً، واستيعابنا لأنّ ما شكلناه من أسرة وما أحضرناه من أطفال هو أمر مهم وعظيم، لا تقل عظمته عن اختراع القنبلة الذرية، وإن كان لا يحظى بشهرة تماثلها، فالزواج والإنجاب عمليتان تساعدان في الحفاظ على استدامة عجلة الحياة، وهو الغرض الأساسي من وجودنا الإنساني، وبهذا فإنّ الحب الرومانسي بذاته لا ينتهي وإنما يتحوَّل إلى شكلٍ ناضج وأكثر مسوولية وواعٍ بأهميته في دعم استمرارية الحياة الإنسانية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى