تاريختقاريرثقافةنصوص

طريق القدس تمر عبر عين سلمان.. نص: ماهر داود

طريق القدس تمر عبر عين سلمان

بقلم: ماهر تيسير داود/ القدس 

-بدك تطلع معي تصلي في الأقصى؟؟ على وقع هذا السؤال فتحت عيني صباح اليوم، وعلى الطرف الآخر من مكالمة الجوال العجولة كان أخي ياسر. كنت جاهزاً وغلبني النعاس بانتظار المكالمة، ركبت السيارة البيك-اب بجانب أخي، هدير محركها مرتفع وهدير صوت أخي الذي كان يضع النقاط على الحروف بضرورة الاستيقاظ باكراً. هبطنا من وسط بيت دقو باتجاه حاكورة العقبة مروراً بطريق عين سلمان إلى قرية الطيرة المجاورة، الواد هاديء والجو صاف مع بعض الغيوم والبرودة اللاسعة، والسيارة ذات الدفع الرباعي جار عليها الزمن وأخي ياسر.. وباتت بحاجة ماسة إلى ورشة تصليح.

وصلنا الطيرة وركبنا السيارة الثانية التي كانت متوقفة خلف الحاجز العسكري الذي يفصل القرى الفلسطينية عن القدس والداخل المحتل، ومن هناك إلى بيت حنينا، لا بد من ايقاف السيارة واستخدام وسيلة أكثر فاعلية بسبب إغلاق شرطة الاحتلال للشوارع المؤدية إلى البلدة القديمة ومحيط المسجد الأقصى المبارك، ركبنا القطار الكهربائي الحديث، يشق القطار طريقه عبر أحياء بيت حنينا- شعفاط- الشيخ جراح- مروراً بحي المُصرارة وباب الخليل إلى شارع يافا في الشطر الغربي من القدس، أما نحن فقد نزلنا من القطار في محطة باب العامود.. القطار مليء بالركاب الفلسطينيين الذاهبين للصلاة.. سجادات الصلاة المطوية تحت الابط وعلى الأكتاف تعكس الصورة بكل وضوح.

هبطنا من باب العامود باتجاه شارع الواد، المكان مكتظ، بقيت ساعة من الوقت لرفع أذان الظهر، وصلنا المسجد الأقصى بعد أربعين دقيقة من المشي البطيء، أعداد المصلين تدل على أن العدد قد يناهز ربع مليون من المصلين، المصلى القبلي والأقصى القديم والمصلى المرواني كلها عامرة بالمصلين، والساحات آخذة بالاكتظاظ مع مرور كل دقيقة، إن لم تختر موقعا للصلاة والجلوس فقد تفقد تلك الفرصة.

جلسنا تحت شجرة قرب المصلى المرواني، الجو مشمس وبارد، آلاف المصلين يجوبون الساحات ويتخللهم عناصر حفظ النظام، وطواقم الإسعاف الذين يمرون مسرعين وبينهم مصل فاقد للوعي بفعل الصيام والاعياء ممدد على حمالة،

إنه المسجد الأقصى، قبة المسجد القبلي أمامك وقبة الصخرة الذهبية من خلفك، وعلى يسارك جبل الزيتون وحي راس العامود، سكينة وهيبة ووقار تلقي بظلالها على المكان، وصوت الشيخ معروف الشريف يشق طريقه إلى القلب بآيات من الذكر الحكيم.. الشيخ معروف هو ابن القاريء والإمام الراحل الشهير محمد رشاد الشريف إمام الحرم الإبراهيمي في الخليل والمسجد الأقصى المبارك.

قضيت الصلاة، وتلتها مباشرة صلاة الجنازة على من حضر من أموات المسلمين، ثم صلاة القصر للمسافرين حيث يجمعون العصر مع الجمعة. وبعد الصلاة بدأ فصل جديد من الزيارة، إنها طريق العودة، باب الأسباط، إنه عنق الزجاجة التي يتجمع فيها طوفان بشري، ضغط شديد وتكبيرات وهبات من الهواء الرطب تخفف حدة الموقف، أي محاولة للرجوع إلى الخلف قد تكلفك حياتك، طوفان بشري متجه نحو باب الأسباط.. هنا لا يمكن لأحد أن يمشي ضد التيار لا حقيقة ولا مجازاً.. وفجأة، أصوات تنادي من الخلف: افتح طريق، جنازة، افتح طريق، إنها ثلاث جنازات وليست واحدة، تلك التي صلينا عليها قبل قليل لحقت بنا لكي تمر عبر باب الأسباط إلى مقبرة باب الرحمة المجاورة.. اختلط الأحياء بالأموات مع تهليل المصلين وصرخات شباب لجنة النظام الداعية إلى فتح الطريق ومراعاة النساء والمرضى والأطفال.. أفسح المصلون الطريق، ومرت الجنازات.. نعم، توقف الأحياء وتسمروا في مكانهم مفسحين الطريق للموتى ليمروا مسرعين إلى مثواهم الأخير.. فهل من مدكر.. وهل في الذهن من متسع للمفارقات؟!

ضعت عن ياسر في غمار الزحام.. خرجنا من عنق الزجاجة إلى فسحة باب الأسباط الخارجية، طوفان بشري، حافلات، أصوات باعة، رائحة خبز وكعك وبرازك تملأ المكان وتختلط بتكبيرات وتسابيح ونداء لجان الحافلات على المصلين لتوجيههم كل حسب وجهته: الشمال، الجنوب، الداخل، رام الله.. وأحياء سلوان والعيسوية وجبل المكبر وغيرها من أحياء القدس الشريف.

-الو، ياسر وينك؟

-أنا باب العامود

– لماذا لم تنتظرني يا أخي؟

-أنا انتظرت ٢١ سنة في سجون الاحتلال، شبعت انتظار! الحقني على محطة القطار.

عدنا بالقطار إلى بيت حنينا، ثم من هناك بالسيارة إلى الطيرة، ومن هناك بواسطة البيك-اب إلى واد سلمان باتجاه ببت دقو، محملين بالتعب، والروحانيات والعطش.. وكعك القدس.. والكثير من الضحك على السيارة التي ارتدت إلى أرذل العمر.

سيارة مشطوبة، وثانية حديثة، ثم قطار إسرائيلي كهربائي والوجهة الصلاة في الأقصى، أهلا بكم في بلد المفارقات.. ثم السير على الأقدام وسط طوفان بشري وأخيراً صمت مطبق في واد سلمان بانتظار رفع أذان المغرب لتناول طعام الإفطار. وعلى رزنامة التاريخ وعد آخر.. بأن تفطر البلاد على موائد الحرية بعد خمس وسبعين سنة من الصيام.

زر الذهاب إلى الأعلى