ثقافة

التقنيات الكلاسيكية والرومانسية في معلقة عنترة: عباس مجاهد

التقنيات الكلاسيكية والرومانسية في معلقة عنترة

بقلم: عباس مجاهد/ كاتب وباحث فلسطيني

ملامح الكلاسيكية في معلقة عنترة:

العقل هو الآمر وهو صاحب الكلمة عند الكلاسكيين، وعليه تلمح التفكير الطويل الذي ينير الفكرة في معلقة عنترة، فنراه ينتقي الألفاظ ويتخير الأسلوب، ومما يؤكد هدوءه وتريثه وعقلانيته، قوله:

“حَلَّتْ بأرض الزائرين فأَصْبَحَتْ عسِراً عليَّ طِلاَبُكِ ابنةَ مخْرم”

وهنا نلاحظ أن عنترة لا يكتب أدبه لنفسه وإنما يكتب لمجتمعه في أحوالهم وعاداتهم وتصرفاتهم ومشاكلهم وقضاياهم. فلم يغفل العادات الاجتماعية، وما كان عليه الانسان العربي، فلا يهرب عنترة لنفسه، بل يتقيد بقيود العشيرة والقبيلة، يقول:

“كَيفَ المَزارُ وَقَد تَرَبَّعَ أَهلُها بِعُنَيزَتَينِ وَأَهلُنا بِالغَيلَمِ”

ونجد في شعره وظيفة اجتماعية، فهو يعالج في معلقته قضايا الوصال والهجران والظلم والحرب والقيم، فهو يطلب من محبوبته أن تثني عليه بما علمت من محامده، فهو سهل المخالطة، وهو يشير في شعره إلى القيم التي كانت سائدة في مجتمعه، والتي ترفع من قدر الإنسان، يقول:

“أَثْنِي عَلَيّ بِمَا عَلِمْتِ فَإِنَّنِي سَمْحٌ مُخَالَقَتِي إِذَا لَمْ أُظْلَمِ”

ومن اللافت للانتباه أن عنترة يشترط على محبوبته أن تسأل خيله، وهو يربط بينه وبين خيله من أجل مقاربة الحقيقة، يقول:

“هَلّا سَأَلتِ الخَيلَ يا اِبنَةَ مالِكٍ إِن كُنتِ جاهِلَةً بِما لَم تَعلَمي”

وإذا كانت الكلاسيكية ظهرت في عصر ما سموه عصر النهضة، فالمعلقة كتبت في زمن كبرياء اللغة العربية وعلو مكانتها، والمعلقة تغنى بها القدماء ومن جاء بعدهم، فهي تمثل مع المعلقات الأخريات عيون الشعر العربي، فالمعلقات قصائد ومطولات علقت على جدران الكعبة لأهميتها وأنتجتها قرائح أدباء بارزين استطاعوا أن يشقوا طريقهم إلى المجد، وأن تحلق كلماتهم في أجواء الجزيرة العربية وما وراءها، وما زالت أشعارهم تملأ المكتبات حتى الآن ويفد لها الباحثون.

فالمعلقة لا تعالج موضوعات ذاتية تخص الشاعر، بل نظرت لموضوعات عدة، وهي جزء لا يتجزأ من حياة الجاهلين(وصف الخيل، وصف الناقة، وصف الديار، وصف الفرسان، وصف الحرب…)، يقول في وصف فرسه:

“لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ولكان لو علم الكلام مكلمي”.

 

وقفة مع المعاني الكلاسيكية في المعلقة:

نجد كثيرا من معاني المعلقة تعتمد على العقل، فهي تقدم حقائق وتؤديها بدقة وتستعمل بأوضح السبل حتى يسهل فهمها، وهي لا تعد أدبية إلا بمقدار ما يستصيغه الكاتب من مزج المعاني الدقيقة الواضحة بالعواطف والمشاعر، وهذه الحقيقة يقدمها من خلال الصورة الحقيقية التي تعتمد السمع أو المشاهدة أو الحركة أو اللون، وما في هذا التقديم من صور ذهنية، فلك أن تتخيل بعقلك ما حلّ بالأعداء في هذا المشهد الفروسي، يقول:

“يدعون عنترَ والرِّماحُ كأنها أشطانُ بئرٍ في لبانِ الأدهم

مازِلْـتُ أَرْمِيهُـمْ بِثُغْرَةِ نَحْـرِهِ ولِبـانِهِ حَتَّـى تَسَـرْبَلَ بِالـدَّمِ”

فمعلقة عنترة من شعره التي لها قيمة أكثر من القصائد الأخرى التي تثير العواطف كقصائد الغزل والحب، ولا أقول عن الأخيرة قليلة القيمة، لأن العواطف فيها تزداد قيمتها بما فيها من صدق وحقائق، ولا نغفل أدوار النقاد الذين أكدوا أن الشعر يقاس إلى درجة كبيرة بما فيه من معان ترتكز عليها العاطفة.

والواقف عند المعلقة يجد فيها ندرة وغرابة، أي ما أدركه الشاعر من معان خفية غير مطروقة، فعبر عنها، فالمعلقة نجد فيها ما كان غريب في معناه، ونجد هذا في وصفه للذباب، يقول:

“وَخَلا الذُبابُ بِها فَلَيسَ بِبارِحٍ غَرِداً كَفِعلِ الشارِبِ المُتَرَنِّمِ

هَزِجاً يَحُكُّ ذِراعَهُ بِذِراعِهِ قَدحَ المُكِبِّ عَلى الزِنادِ الأَجذَمِ”

فالمعنى الخفي ما أحدثته هذه الصورة الغريبة الذهنية، فالذباب في هذه الروضة يصوت تصويت شارب الخمر حين رجّع صوته للغناء، شبه أصواتها بالغناء

وجاء هذا الصوت أثناء حكه إحدى ذراعيه بالأخرى، مثل قدح رجل ناقص اليد النار من الزندين، هو يريد نكهة هذه المرأة بطيب نسيم الروضة، فبالغ في وصف الروضة وأمعن في نعتها ليكون ريحها أطيب.

وقفة مع الأسلوب الكلاسيكي في المعلقة:

فالقالب الذي صبّ فيه عنترة فكره وعاطفته يكمن في اختيار الألفاظ على الشكل الذي يرتضيه الذوق، وتأليف الكلام على الوضع الذي يقتضيه العقل، فخلق الألفاظ بواسطة المعاني، وخلق المعاني بواسطة الألفاظ، فالأسلوب عنده ليس المعنى وحده ولا اللفظ وحده، وإنما هو مركب فني من عناصر مختلفة استمدها من ذهنه ومن نفسه ومن ذوقه ومن بيئته، وتلك الأفكار التي كونها هي العواطف والصور والمركبات والمحسنات المختلفة، فأبرز المعنى الحقيقي والحسي في صور مُحسة، يقول:

“فَشَكَكتُ بِالرُمحِ الأَصَمِّ ثِيابَهُ لَيسَ الكَريمُ عَلى القَنا بِمُحَرَّمِ”

يريد أن يقول: إنه طعن العدو طعنة أنفذت الرمح في جسمه وثيابه، ويقول: ليس الكريم محرما على الرماح، ولعله يريد أن يقول في عجز البيت: إن كرمه لا يخلصه من القتل المقدر له، فالصورة ذهنية واضحة، فارتقى أسلوبه فأخرج لنا صورا خلابة تثير الإعجاب…

ملامح الرومانسية في معلقة عنترة:

-توطئة:

الرومانسي العربي موجود منذ القدم، فقد تأثر العربي بالظروف الاجتماعية والبيئية المحدقة به، ولا بد من التفريق بين الرومانسية كنزعة، وبين الرومانسية كمذهب، فالأول هو قديم في تاريخ الآداب والفنون بكونها جزءا أصيلا من النفس البشرية، وهو يتجلى منذ القدم في الأغاني والأشعار والقصص والحكايا، وهي نزعة تغلب على كثير من أفراد البشر في مراحل حياتهم، فتجدهم ينطوون على أنفسهم، ويهربون من الحياة الاجتماعية التي تنقصها الراحة إلى صنعة خيالهم.

والعصر الجاهلي كان مفعما بالنزعة الرومانسية، فكثير من الشعراء عبروا عما يشعرون به في أغوار صدورهم من الآلام والآمال والحب والكره والحرب، ومنهم عنترة.

أما الرومانسية كمذهب أدبي يتصف بصفات خاصة وتأسس على مبادئ فلسفية ظهر فيها النمو الفكري، والدعوة إلى تحرير العاطفة من سيطرة العقل، وهذا بدوره أدى إلى ظهور أدب ذاتي متخلص من الأنظمة والقواعد والقوانين القديمة، وسنقف عند لوحات عنترة في معلقته وما فيها من الجمال والفن والإبداع، فالنزعة الرومانسية شكلت لعنترة ملاذا، فكثر فيها الشعور والخيال والطبيعة.

 

أسباب ظهور الرومانسية في شعر عنترة:

أولا: نشأ شابا يرعى الإبل والغنم ويحسن الحلب والصر، فبدأ يهرب مع نفسه ليعلمها فنون القتال ليدافع عن ألمه الإنساني وسوء معاملته بسبب سواده. (الهروب من الواقع)

ثانيا: أفعاله وبطولته وشجاعته أمور لا ترتبط بالنشأة قدر ارتباطها بنفسه وسموها. (الذاتية)

ثالثا: ارتبطت الرومانسية بالفروسية، والأخبار عن فروسية عنترة وشجاعته كثيرة، فمن الذي قيل: أنت أشجع الناس. (قصص الفروسية)

رابعا: الحديث عن زواج عنترة نراه مقترنا بخبر انتزاعه لحريته. (الحرب والحب)

 

أبرز الملامح الرومانسية في المعلقة:

أولا: الاعتناء الفائق بالتجربة الشخصية، يقول:

“عُلِّقتُها عَرَضاً وَأَقتُلُ قَومَها زَعماً لَعَمرُ أَبيكَ لَيسَ بِمَزعَمِ”

فيحكي عن تجربة العشق، فهو عشقها وشغف بها من غير قصد منه، أي نظر إليها نظرة أكسبته الحب مع قتله لقومها، وليؤكد هذا أقسم بحياة أبيها أنه كذلك.

ثانيا: العاطفة والخيال، وسيأتي الحديث عنهما.

ثالثا: التعمق في الصور الفنية، والنظرات الفلسفية، يقول:

“ينْباعُ منْ ذِفْرَى غَضوبٍ جَسرَة ٍ زيافة ٍ مثل الفَنيق المُكْدَمِ”

يقول: ينبع هذا العرق من خلف أذن ناقة غضوب موثقة الخلق شديدة التبختر في سيرها مثل فحل من الإبل قد كدمته الفخول، شبهها بالفحل في تبخترها.

رابعا: الشعور بالغربة والاغتراب، يقول:

“تمسي وتصبحُ فوق ظهر حشية ٍ وأبيتُ فوق سرَاة ِ أدْهم مُلْجَم”

خامسا: الاهتمام بلغة عصره الجاهلية، واختيار الألفاظ الحية، والذي ساد في عصره لغة عمود الشعر العربي وما فيها من موضوعات…

 

-العاطفة في المعلقة:

يعد الجمال مرآة الحقيقة، والعاطفة من الجمال تجعل الفرد شاعرا حقيقيا، فالشاعر لا يستطيع أن يعبر عن الحقيقة المكنونة في داخله إلا من خلال عواطفها العميقة، وهكذا كان عنترة، يقول:

“ولقد شفى نفسي وأذهب سُقمها قيلُ الفوارس ويكَ عنتر أقدم”

 

-الخيال في المعلقة:

استطاع عنترة في معلقته خلق عوالم، ولم يكن الخيال عنده مفككا بل جعل منه فكرا متصلا ذا قيمة، وكان خياله وسيلة أساسية لوعي الحقائق والرؤية الفريدة، فعنترة أدرك أن الشعر لا يمكن أن يبلغ ذروة قوته إلا بانطلاق دافع الإبداع دون توقف، ليكون الخيال الخلاق أو الخيال المنتج، يقول:

“فتركتهُ جزرَ السباع ينشنهُ يقضمنَ حسنَ بنانهِ والمعصم”

يقول: صيرته طعمة للسباع كما تكون الشاة طعمة للناس، ويقول: إن السباع تقضمه وتأكل معصمه الحسن، يريد أنه قتله.

 

-الطبيعة في المعلقة:

هرب عنترة في المعلقة إلى أحضان الطبيعة، فالطبيعة بالنسبة له وسيلة يعبر من خلالها عن هواجسه، ووجد من خلالها دفقاته في الحب والوصف، واستوعب الطبيعة ليس كما هي في الواقع، ولكن كما أرادت مشاعره، فالطبيعة كانت مرآة لخواطره وإلهامه، يلجأ إليها ووضع فيها تجربته وأغراضه، وعنترة عانى من العبودية لهذا لجأ إلى الطبيعة ظنا منه أن يجد فيها ما يشفي صدره، وجعل منها شاهدا على شعوره، فمن ألفاظ الطبيعة في معلقته (ذكر الأماكن: الجواء، الصّمان، المتثلم، ماء الدحرصين…، الليل المظلم، الخِمخم، الروضة، النبت، الماء، الذباب، التغريد، تمسي وتصبح، شقائق النعمان والعندم، ….)

زر الذهاب إلى الأعلى