ملفات اليمامة

عبد الرحمن منيف حياته ومسيرته الأدبية وأنموذج من أعماله

 

عبد الرحمن منيف حياته ومسيرته الأدبية وأنموذج من أعماله

بقلم: خضر فريد جندية

عبد الرحمن منيف واحد من أهم كتاب الأدب العربي في القرن العشرين، “وما كان أحد ليصدق أن كاتباً سعودياً سيزاحم نجيب محفوظ على عرش الرواية العربية، ثم يتربع عليه منفرداً بعد أن نضب معين نجيب محفوظ أو كاد”[1].

ولد في عام 1933م في العاصمة الأردنية عمَّان، والده سعودي ووالدته عراقية، ويقول منيف في حوار معه عن موضوع جنسيته وهذا الاختلاط “بالنسبة لي يعدّ هذا الأمر ميزةً وعيباً في آن واحد، وذلك لأنني مجهول من ناحية “انتسابي” إلى قطر معيّن أو آخر، فهي ميزة لأنّي أنتسب فعلاً إلى منطقة واسعة واعتبر نفسي ابناً لهذه المنطقة. ومن حسن الحظّ أن هذا الأمر ليس التباساً، وإنما واقع موضوعي، إذ تسنّى لي أن أعيش في أماكن متعددة. فأنا ولدت في عمّان، الأردن، لأبّ سعودي وأمّ عراقية، وعشت فترةً من طفولتي في الأردن ثمّ في السعودية. وبدأت دراستي في بغداد وبعدها انتقلت إلى القاهرة ومن ثمّ انتقلت إلى يوغسلافيا. ومن ناحية العمل فقد بدأت في سوريا وانتقلت بعد ذلك إلى لبنان ومنه إلى العراق. أمّا ما يخصّ مسألة التصنيف فهي، وإن كانت تعطي في بعض الأحيان شيئاً من الدلالة والتحديد، لكنها تكون في أحيان أخرى نوعاً من الافتعال، بمعنى أنّ هناك الكثيرين الذين يحاولون اعتباري كذا أو كذا! مثلما حدث الآن، في المرحلة الحالية، عندما أصدرت السعودية كتاباً تضمّن أسماء مثقفيها من كتّاب وقصاصين إلخ، وجعلت لي فيه اسماً. وهناك أيضاً بعض الأقطار التي تكرّس الإقليمية، فتمنحني الجنسية على اعتبار أنّي أحد مواطنيها، لكنها تحرّمها على آخرين من ناحية أخرى. وباختصار: صحيح أنّي من السعودية، لكني موجود في المنطقة بحكم اعتبارات كثيرة، بعضها سياسيّ، ولي فيها صداقات وتربطني بها علاقات، ويمكن أن نعتبر ذلك كلّه بمثابة امتدادات تاريخية.”[2]

وتابع دراسته في الأردن حتى حصل على الشهادة الثانوية، رحل بعدها إلى بغداد حيثُ درس في كلية الحقوق عام 1952م، انضمَّ إلى حزب البعث هناك وبعد توقيع حلف بغداد عام 1955م طُرد من العراق مثل كثير من الطلاب آنذاك، فانتقل إلى مصر ليكمل دراسته فيها وبقيَ هناك حتى عام 1958م، حيثُ انتقل بعدها إلى بلغراد للحصول على الدكتوراه في اقتصاديات النفط، في عام 1962م سافر إلى دمشق ليعمل في الشركة السورية للنفط ثم إلى لبنان ليعمل في مجلة البلاغ، ثم عاد إلى العراق ليعمل في مجلة النفط والتنمية، في عام 1981م سافر إلى فرنسا وهناك تفرغ للكتابة والتأليف، في عام 1986م عاد إلى دمشق وكان قد تزوج من سيدة سورية، وقد عاش بقية حياته في دمشق، وقد كان معارضًا لمعظم أنظمة الحكم في الدول العربية ومعارضًا للإمبريالية العالمية أيضًا.[3]

وعندما غادر منيف دمشق في عام 73م متوجهاً إلى بيروت بدأ هناك عمله الصحفي في مجلة البلاغ السياسية اللبنانية، وقد أصدر كتابه “الأشجار واغتيال مرزوق”، وبعدها غادر ليستقر في العراق وقد عمل كرئيس لتحرير مجلة “النفط والتنمية” حتى عام 81م، حيث ترك الصحافة وانشغل بكتابة المقالات والروايات الأدبية، إلى جانب مؤلفات أخرى في الثقافة والاقتصاد والسياسة.[4]

ويُعد عبد الرحمن منيف من أبرز كتّاب اليسار العربي، وقد وصف نفسه بالروائي الثائر، ورأى العديد من الدارسين لسيرته الذاتية بأنه كان منفي سياسيًا من المملكة العربية السعودية بسبب كتاباته التي انتقد فيها النظام السعودي، ولكن تم عرض كتبه لاحقًا في معرض الكتاب بالرياض الذي تُشرف على تنظيمه الحكومة السعودية، وعلى الرغم من تميزه بالكتابة عن السياسة وجرأته في الحديث عن المحرمات السياسية والقمع الذي يُمارس في الدول العربية ومنع الحرية، وقد تجلى ذلك في روايته التي أحدثت ضجة كبيرة بسبب جرأته في الحديث عن التعذيب الذي تمارسه معظم الأنظمة العربية “شرق المتوسط”، إلا أنه تحدث عن الحياة الاجتماعية في رواياته وركز على العديد من الظواهر الاجتماعية كالعلاقات بين مختلف فئات المجتمع والقمع والاستبداد ووضع المرأة العربية وكذلك الفروقات الاجتماعية بين الأغنياء والفقراء.

 استطاع الروائي منيف الذي يعدُّ من أشهر كتاب الأدب العربي المعارضين لأنظمة الحكم الشمولية أن يعكس من خلال رواياته واقعًا اجتماعيًّا وسياسيًّا مترديًّا في العالم العربي، وخاض بذلك تجربة أدبية فريدة في العصر الحديث، وكان واحدًا من أهم الروائيين في هذا المجال، وبما أنه كان خبيرًا في مجال النفط والبترول وهذا ما كان مجال دراسته استطاع أن يدركَ من خلال ذلك الحجم الاقتصادي الهائل المخبوء في النفط، فنقلَ من خلال تجربته الأدبية الروائية واقعًا عنيفًا شهدته الدول النفطية أو دول الخليج العربي في تلك الفترة وصوّر من خلال معايشته وإحساسه العميق مدى التغييرات التي طرأت عليها بسبب ثورة النفط وظهر ذلك جليًّا في روايته الأشهر مدن الملح.

 وبسبب معارضته للحكومات الشمولية خاضَ تجربةً في كتابة روايات تمسُّ الواقع السياسي التعيس وخاصةً في رواية شرق المتوسط، حيثُ جعل محور كتاباته حرية الإنسان وكيف يجب أن تكون، فأنار الطريق لزوايا خفية لم تكن واضحة في عوالم الرواية العربية، وساهم بتطوير المقومات الخاصة بالتعبير النفسي العميق من خلال التقاط الانفعالات الإنسانية في شكلها البدائي، واستخدم في كتاباته الألفاظ والتعابير الحديثة التي ظهرت في الثقافة الحديثة المعاصرة، وأعطى تلك الثقافة الجديدة مساحة واسعة في النتاج الأدبي العربي الحديث.[5]

 وعبد الرحمن منيف له الكثير من الأعمال حيث كان غزير الإنتاج مع قوة إبداع[6] ومن أشهر رواياته:

  1. مدن الملح : رواية تم تأليفها في عام 1984 ، تعتبر من أفضل وأشهر الروايات العربية في تلك الفترة ، الرواية تحتوي على خمسة أجزاء (التيه، الأخدود، تقاسيم الليل والنهار، المنبت، بادية الظلمات) ، تدور أحداثها حول بداية اكتشاف النفط في الدول الخليجية ومنطقة الجزيرة العربية ، وعن التغيرات التي طرأت بعد ظهور النفط من جميع النواحي سواء الاجتماعية أو الاقتصادية ، يذكر أن الرواية أثارت الكثير من الجدل عند إصدارها ، وقد أدرجت ضمن أفضل مائة رواية عربية .
  2. شرق المتوسط : رواية سياسية تنتمي إلى روايات أدب السجون نشرت لأول مرة في عام 1975، يسلط من خلالها الكاتب على المعارضة للسياسات التي تقوم عليها السلطات العربية من تضييق على المواطنين والمعارضين من خلال المعاملة السيئة التي يتلقوها في السجون ، حيث تدور احداث الرواية حول معارض سياسي لإحدى السلطات يدعى رجب الذي يتم سجنه لمعارضته على تعسف السلطات وقسوتها ، حصلت الرواية على إقبالا جماهيريا كبيرا .
  3. النهايات : نشرت الرواية لأول مرة في عام 1977 ، تدور أحداثها حول حياة البدو في قرية الطيبة وعاداتهم وتقاليدهم ، والطرق التي يتبعونها في جلب قوتهم لاستمراريتهم في الحياة ، وعلاقة القريبة بالمدينة حيث الوعود الكاذبة من سلطة المدينة في بناء سد لحماية القرية من الجفاف، حصلت الرواية على إقبالا كبيرا حتى أنه تم طبع أكثر من 11 طبعة منها حتى عام 2004 ، وأشاد بها النقاد كثيرا.
  4. عالم بلا خرائط: رواية فريدة من نوعها نشرت لأول مرة في عام 1982 ، حيث أنها نتاج لتعاون مشترك في التأليف ما بين الكاتب عبد الرحمن المنيف والكاتب جبرا ابراهيم جبرا، تدور أحداث الرواية في مدينة من خيال الكاتب، تحكي قصة مقتل امرأة تدعى نجوى العامري المرأة المتزوجة التي تكون على علاقة حب مع شخص آخر يدعى علاء وهو راوي القصة، والمتهم الرئيسي في مقتل السيدة نجوى، وهو أستاذ جامعي متمرد.
  5. ثلاثية ارض السواد: رواية تم تأليفها في عام 1999م، وهي آخر روايات الكاتب عبد الرحمن المنيف، تدور أحداث الرواية حول الأحداث الاجتماعية والسياسية التي تعرضت لها العراق في القرن التاسع عشر وعلاقتها بالأحداث العالمية التي جرت في تلك الفترة، يذكر أن الكاتب كان يستخدم في روايته اللهجة البغدادية.
  6. قصة حب مجوسية: رواية رومانسية نشرت لأول مرة في عام 1974م، اختلفت عن باقي الروايات التي ألفها الكاتب حيث كان لها طابعا رومانسياً صرفاً بعيداً عن السياسة التي كانت تغلب على روايات عبد الرحمن المنيف، تدور أحداثها حول قصة حب يعيشها بطل الرواية الذي كان في إجازة والتقى بامرأة متزوجة عشقها بصمت وقطع جميع علاقاته بالنساء وأخذ يبحث عنها في أرجاء المدينة.
  7. الآن هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى: رواية من أدب السجون يدور محورها حول الأوضاع السياسية التي تعيشها الشعوب العربية ومدى المعاناة التي يعانيها الشاب العربي جراء تحمسه وطموحه لتغيير الواقع السياسي للأفضل وما يتعرض له من تعذيبات في السجون، الرواية تكملة لروايته السابقة شرق المتوسط التي يؤكد من خلالها بأن السلطة والشعب حتى بعد مرور الزمن لا تزال هناك خلافات كبيرة بينهما ولا تزال السلطة تفرض سيطرتها الكاملة على الشعوب. تنقسم الرواية إلى ثلاثة فصول هي الدهليز ، وحرائق الحضور والغياب وهوامش أيامنا الحزينة.
  8. الاشجار واغتيال مرزوق: رواية نشرت لأول مرة في عام 1973، وهي اول رواية للكاتب عبد الرحمن المنيف، وقد لاقت صدى كبير عند إصدارها، تدور أحداثها حول عالم الاثار يدعى منصور عبد السلام، يسافر بالقطار خارج بلاده بسبب فصله من الجامعة التي يدرس بها ويتم اعتقاله ويتم اغتيال صديقه مرزوق، فينتابه اليأس من الظلم الذي يواجهه في وطنه، ويسافر إلى بلاد بعيدة.
  9. أم النذور: رواية قديمة للكاتب إلا أنها نشرت لأول مرة في عام 2005 أي بعد عام من وفاة الكاتب عبد الرحمن المنيف، تدور أحداثها حول طفل يتمرد على مجتمعه وواقعه حيث يرفض التعلم في الكتّاب لما ينتابه من خوف جراء قسوة الشيخ الذي يعلمه، أما أم النذور فهي رمز لشجرة مقدسة يتجمع حولها النساء الخاضعات لأوامر أزواجهن ومجتمعهن ينفسن عن أمانيهن من خلال هذه الشجرة التي تعد طقس من طقوس العادات والتقاليد في تلك الفترة، أكثر ما يميز هذه الرواية هو وصف الكاتب الحالة النفسية التي يعيشها الطفل بكل تفاصيلها.
  10. سباق المسافات الطويلة: رواية تم نشرها لأول مرة في عام 1979م، رواية تتحدث عن رجل ديبلوماسي مخابراتي يذهب إلى الشرق للعمل والإطاحة بالنظام المعارض لبريطانيا العظمى، ولكنه يكتشف مدى قوة المرأة الخفية وسيطرتها على المجتمع، ويتعرف على حياة الشرقيين بكل تفاصيلها، ويكشف الكاتب في الرواية عن سيطرة الدول العظمى على دول الشرق وبسط نفوذهم عليها للوصول إلى أطماعهم في النيل من ثروات البلاد وخاصة النفطية منها.

 بالإضافة إلى: حين تركنا الجسر 1976، ولوعة الغياب 1989، إلى جانب مؤلفاته في فن الرواية وفي الاقتصاد والسياسة.

فعُرف بغزارة إنتاجه الأدبي، ووصفه النقاد بأنه قدم أدباً شجاعاً، وكتب عن المحرمات في السياسة، وضد القمع واستلاب الحريات والكرامة الإنسانية، وعمل على تثوير الرواية، والبحث عن ثوار روائيين قادرين علي مواجهة الاستكانة والعجز العربي، وكرّس حياته وقلمه للتأليف القصصي الموجّه، لقناعته بدور الأدب ووظيفته في كشف عيوب الواقع العربي، وانشغل بموضوعي القمع والنفط.

وتبرز الأزمة الاجتماعية في رواياته من خلال تركيزه على ظواهر اجتماعية وأنماط محددة من العلاقات المتشابكة بين مختلف الفئات الاجتماعية، وتظهر حدّتها في القمع والاستبداد ووضع المرأة واتساع الهوة ما بين الأغنياء والفقراء.[7]

 وقد حصل منيف على عدة جوائز من أبرزها:

  • جائزة القاهرة للإبداع الروائي.
  • جائزة سلطان العويس بدولة الإمارات العربية المتحدة.
  • وجائزة مؤتمر الرواية العربية الأول الذي عقد في القاهرة عام 1998.

 توفي منيف في سوريا بدمشق عام 2004م عن عمر ناهز السبعين عاما نتيجة لتعرضه لأزمة قلبية، ويشار إلى أنه تم “هدم أجزاء من قبر الروائي عبد الرحمن منيف الواقع في مقبرة الدحداح في العاصمة السورية دمشق، حدث ذلك في أواخر شهر مايو من عام 2007م، دون التعرض إلى رفاته “[8].

 ونشير باختصار إلى روايته ” الأشجار واغتيال مرزوق”[9] التي تعبر أول أعماله، ورغم ذلك تعتبر إلى يومنا هذا عملا روائيا متكاملا لا نستطيع تجاوزه بأي شكل من الأشكال، سردا ومضمونا ونقدا ومن خلال ذاتيتها وفنيتها المتقنة.

وتحمل الرواية قسمين كبيرين، تم تقديمهما لنا على لسان بطل الرواية “منصور عبد السلام” عالم الآثار والمُترجم، الذي يُسافر عبر القِطار خارج وطنه باحثاً عن عمل.

حيث يتحدث القسم الأول عن التقاء “منصور عبد السلام” -الذي يجلس في الدرجة الثانية من القطار- بِـ” إلياس نخلة” تاجر الملابس، الذي لم يترك عملا قبل هذا إلا وعمل وفشل به، ويعمل مهربا حاليا، ومن خلال هذه الرحلة يتعرف إليه؛ ليبدأ إلياس بسرد قصة حياته المريرة والمليئة بالإخفاقات أمام منصور، شأنه شأن أي عربي آخر يصارع هواجس الهوية التي تتخضب باليأس، ليجد نفسه ويثبتها في مكان ما، وإلياس وهو الشخصية المحورية داخل الرواية، الذي لا يجد تقبلا ووفاقا مع أهل قريته، وبعد أن يخسر الأشجار -التي ورثها من أبيه والتي كانت رأسماله- في القمار، لتتوالى أحداث حياته ويخسر زوجته، فينتهي هذا اللقاء، وينزل إلياس من القطار، ورائحة وأطياف أشجاره تلاحقانه باستمرار.

ولعلنا نرى هنا التقاء منصور، الغارق في وحل الذاكرة والمتقوقع في عالمه الخاص، الذي يريد الهرب من بلاده، إلى مكان آخر يريد إعادة بناء شخصه فيه، بالشخصية الثانية “إلياس نخلة” المُتعلق بأرضه أشد تعلق، وهذا الالتقاء الجميل واللافت للأذهان، وكأن الكاتب يريد هنا، وفي بند واحد، أن يضع نصب أعيننا معاناة أن تتعلق بأشجارك فلا تستطيع أن تحافظ عليها، ومعاناة أن تهرب من أوطانك باحثا عن معنى آخر لك، فلا هذا يفلح، ولا ذاك يثمر.

وأما بعد ذلك، الفصل الثاني، الذي نجد صوت الراوي وصوت منصور يشكلان إيقاعا واحدا يمتزج على درب الأمنيات، إسفلتا ذائبا في سواده، وهواجس محرمة عند مواطن مثله، لتخلق لنا سيرورة أدبية تجعلنا ندرك بحق، كم أننا غدونا مثل منصور، وكم هو منتصر في هزيمته، فيروي لنا معاناته من يتمه حتى سفره وعلاقاته الفاشلة بالجنس اللطيف، وتدريسه جامعياً لمادة التاريخ، حتى يسرح تحت أسباب سياسية، ليذكر لنا معاناة حصوله على جواز سفر أو كما يجب تسميته “جواز قهر” كحال عمله، بمدة تستغرق سنتين وسبعة أشهر.

في القسم الثاني، يواجه صعوبةً في تقبّل من حوله خلال فترة تسلمه عمله، ثم يبدأ منصور في هذه الأثناء بكتابة مذكراته وتدوين يومياته، لِينعزل بخيمة صغيرة قرب مقر عمله، حاله حال هواجسه التي لا تريد لأحد أن يكبلها بقيد مهما كان، وحين يصله خبر اغتيال صديقه مرزوق، الذي يصوره لنا الكاتب كناية لحلم فقده ولم يصل إليه، فيرثيه ويبكي عليه، والحال أنه يمكننا أن نلاحظ أنَ هذه المحطة من الرواية تعتبر جزءا يدمي أفكار قارئه، ليجد نفسه هو الآخر ودون إدراك منه ينعى مرزوق مع منصور.

إن خبر اغتيال مرزوق في الرواية لا يخص الكاتب وحده أو الشخصيات، إنما يخصنا جميعا، إنه عزاء لنا في معاناتنا مع الأنظمة السياسية، ومحاولتنا في البحث عن تاريخ جديد وحقيقي وصادق، لم يمسسه زيف ومصلحة، وهو حلم بعمل شريف، ووطن نستطيع أن نسميه وطنا بحق.

في الجزء الأخير من الرواية، يحدثنا صحفي، تقع بيديه هذه اليوميات ويتمكن من نشرها بعد أن أعطاه إياها مدير الفندق، الذي أطلق فيه منصور النار على انعكاسه في المرآة، حيث كان قد أصابه الجنون نهاية المطاف.

نرى في هذه الرواية عمل منيف على التحليل والاستقصاء عن شخصية كل مواطن عربي ما زالت ندوب الهزائم تقض مضجعه حتى هذه اللحظة، ليبدأ نقده ومحاسبته من خلال تيار أدبي إبداعي، تجذبنا لوحدها دون الإشارة إليها، وما يحسب لعبد الرحمن منيف البصمة المتألقة والفريدة بعيدا عن المغالاة والحشو، هو أنه جعل من شخصيته الروائية “منصور” إنسانا عاديا بحجم وجعه وتطلعاته، ليجعلنا من خلال ذلك أن نكتشف نحن عوالمنا الخاصة بنا، والسبيل لحريتنا تحت وطأة القيود والسلاسل.

وإن كان هُنالك شيء نستطيع أن نقوله عن الرواية هو أنها ليست للقراءة فقط وإنما لدراستها وتحليلها واضعين نصب أعيننا هذا البناء الروائي الدرامي الفريد، لتصير أطروحةً تحت عنوان “كيف يكون النقد”.

في النهاية، نعلم أن منصور قد حقق تلك البطولة التي أشار إليها في الجملة التالية: “الحياة.. مجرد الحياة يا صاحبي بطولة”، ولكنَّ لا نعلم إلى الآن، إن كنا سنظل قابعين في أماكننا تأكلنا أحلامنا ومعاناتنا في أوطاننا واحدا تلو الآخر، أم أننا في يوم ما، سنتذرع بالشجاعة والوعي الكافي، لنقول للحقيقة التي من شأنها أن تقودنا للجنون وقد تنقذ من سيأتِي بعدنا من جرح الهوية العميق الذي يدمينا.

[1] د. فوزي الحاج ، المسرحية والرواية والقصة القصيرة،الطبعة الثانية(غزة، جامعة الأزهر-غزة،2013م) ص238

[2]  عبد الرحمن منيف: ” النهضة العربية وهم والوحدة العربية مجرد أحلام”، حسين الموزاني ، موقع قنطرة، 14/أيار/2020.

[3] عبد الرحمن منيف، موقع معرفة –بتصرف- 14/أيار/ 2020.

[4] من هو عبد الرحمن منيف، مقالة، موقع البوابة(أدب وثقافة)- بتصرف- 14/أيار/2020.

[5] عبد الرحمن منيف، موقع سطور، 14/أيار/2020.

[6] د. فوزي الحاج ، المسرحية والرواية والقصة القصيرة، مرجع سابق، ص238.

[7] عبد الرحمن منيف ، موسوعة الجزيرة، 14/أيار/2020.

[8] هدم قبر الروائي السعودي عبد الرحمن منيف بدمشق، خبر عن موقع العربية – بتصرف- 14/أيار/2020.

[9] عبد الرحمن منيف، الأشجار واغتيال مرزوق، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، نسخة الكترونية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى