ملفات اليمامة

عبد الرحيم حمدان يكتب “لملفات اليمامة” أساليب الحجاج العقلي في سورة (الطور) المباركة

أساليب الحجاج العقلي في سورة (الطور) المباركة

إعداد : عبد الرحيم حمدان/ أستاذ جامعي

تمهيد:

يهدف هذا المقال إلى الوقوف على الأساليب التي سلكها القرآن في إقامـة الحجـج والبراهين على ادعاءات المشركين ومزاعمهم في سورة الطور الكريمة، والكشف عن الشبهات، والمزاعم الباطلة التي ذكرها المشركون بحق الله، وبحق محمد- عليه الصلاة والسلام – وبحق القرآن الكريم، وكيف ردّها الله ونفاها ودحضها في سخرية واستخفاف؛ لأنهم لم يكونوا يعترفون بأن محمداً نبيٌّ مرسل من عند الله، وأن القرآن وحي من عند المولى -عز وجل-، فسورة الطور سورة جدال وحجاج وتهكم، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: )أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَٰمُهُم بِهَٰذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ( ( الطور:٣٢)، وقوله تعالى:  )أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ( (الطور:٣٠)، وقوله تعالى: )مْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لّا يُؤْمِنُونَ(  (الطور : ٣٣)، وقوله تعالى:  أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ( ( الطور: ٤٣).

البعد الأول بين يدي سورة الطور:

سورة الطور سورة مَكِّيَّةٌ بقول الجميع، نزلت في مكة المكرمة قبل الهجرة النبوية المشرفة، وَهِيَ السُّورَةُ الْخَامِسَةُ وَالسَّبْعُونَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَر، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ نُوحٍ وَقَبْلَ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ،  وعَدَدُ آيَاتِها تسع وأربعُون آية.

  1. تسميتها:

سميت بسورة الطور؛ لأن الله تعالى بدأ السورة الكريمة بالقسم بجبل الطور الذي كلّم الله – تعالى- عليه موسى – عليه السلام-، في قوله تعالى: )وَالطُّور*وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ *فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ* وَالْبَيْتِ الْمَعْمُور* وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُور(( الطور 1 – 6 ).

ونال ذلك الجبل من الأنوار والتجليات الإلهية ما جعله مكاناً وبقعة مشرفة على سائر الجبال في بقاع الأرض ، وفي تسمية هذه السورة بـ “الطور” تناسب لما ورد في الآية الاُولى من ذكر كلمة الطور فيها.

موضوعات السورة:

ومن الموضوعات التي عالجتها السورة؛ الحديثُ عن رسالة محمد بن عبد الله -صلوات الله عليه-، وأمرته بالتذكير والإنذار للكفرة الفجار، غير عابئ، بما يقوله المشركون وما يفتريه المفترون حول الرسالة والرسول، فليس محمد – صلى الله عليه وسلم- بإنعام الله عليه بالنبوة وإكرامه بالرسالة بكـاهـن ولا مجنون كما زعم المجرمون .

ثم أنكرت السورة على المشركين مزاعمهم الباطلة في شأن نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم-، وردت عليهم الحجج الدامغة والبراهين القاطعة التي تقصم ظهر الباطل، وأقامت الدلائل على صدق رسالة محمد عليه السلام وختمت السورة الكريمة بالتهكم بالكافرين وأوثانهم بطريق التوبيخ والتقريع، وبينت شدة عنادهم وفرط طغيانهم، وأمرت الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم- بالصبر على تحمل الأذى في سبيل الله حتى يأتي أمر الله.

وبالجملة تشكّل السورة من مجموعة منسجمة من الموضوعات، وهي منطقية وعاطفية تنشدُّ إليها قلوب السامعين.

فضلها:

وردت أحاديث كثيرة في فضائل هذه السورة منها: ما ورد عن النّبي – صلى الله عليه وآله وسلم- في فضيلة تلاوة هذه السورة: أنّه قال: “من قرأ سورة الطور كان حقّاً على الله أن يؤمنه من عذابه وأن ينعّمه في جنّته”([1]).

واضح أنّ كلّ هذا الأجر والثواب العظيم في الدنيا والآخرة هو لأولئك الذين يجعلون هذه التلاوة وسيلة للتفكّير والتفكّر بدوره وسيلة للعمل. فقد رُوي عن أم المؤمنين أم سلمة -رضي الله عنها وأرضاها- أنها سمعت سيدنا النبي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-  يتلو سورة الطور في صلاة المغرب حيث قالت: إنها حضرته – صلى الله عليه وآله وسلم-  يقرأ بالطور وكتاب مسطور ([2]).

ومن فضلها أنها كانت سبباً في إسلام الصحابي الجليل جبير بن مطعم([3]) بعد أن كان مشركاً، وَفِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الطُّورِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: “سَمِعْتُ النَّبِيءَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ [الطّور: 35- 37] “كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ” . وَكَانَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ قَدِمَ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فِدَاءِ أَسْرَى بَدْرٍ وَأَسْلَمَ يَوْمَئِذٍ([4]).

البعد الثاني: الحجاج، تعريفه وأنواعه:

أ – تعريف  الحجاج لغة واصطلاحاً:

الحجاج” لغة:  مصدر “احتج” من باب “الافتعال”، وأصله من: الحجة، بمعنى: الدليل والبرهان، يقال: احتج عليه؛ أي: أقام الحجة عليه، والحجَّة البرهان، وقيل الحجّة ما دُوفع به الخصم، فأساس الحِجاج الارتكاز على دليل معيّن قصد إثبات قضية من القضايا، وبالتالي بناء موقف ما، وقد عرَّفت الحجة بأنها إلزام الخصم وإسكاته([5]).

“الحجاج اصطلاحاً :

الحجاج هو “فن ترتيب الأفكار ترتيباً دقيقـاً بحيـث يـؤدي إلـى الكـشف أو هـو مراجعـة عن حقيقة مجهولة أو إلى البرهنة على صـحة حقيقـة معلومـة أو مقابلـة الأدلـة([6])، أو هو الكلام وتبادل الرأي من أجل الوصـول إلـى معرفـة الحقيقـة([7]).‏ ولا يختلف المعنى الاصطلاحي للحجة اختلافاً كبيراً عن المعنى اللغوي لها.

ب – الحجاج في السياق القرآن:

وردت لفظة” الحجة في القرآن بمشتقاتها المختلفة في آيات كثيرة منه، وباستقراء هذه الآيات نجد أن هذه اللفظة في القرآن كانت تدور حول معنيين اثنين:

أولهما : بمعنى المناظرة  والمخاصمة ، ومن ذلك : قوله تعالى: )ألَمْ تَرَ إلى الَّذِي حاجَّ إبْراهِيمَ في رَبِّهِ( ( البقرة: 258)، وقوله : )وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَٰهَآ إِبْرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِۦ( ( الأنعام : 88 ) .

ويمكن القول إن مفهوم الحجة في السياق القرآني لم يخرج عن المعنى اللغوي لها، حيث مر في تعريفات اللغويين للحجة بأنها البرهان، أو ما دوفع بـه الخصـم، وهذه هي المعاني التي دارت حولها لفظة الحجة الواردة في السياق القرآني.

ج – أنواع الحجج في القرآن:

يمكن التعرف على أربعة أنواع من الحجج في القرآن هي: برهانية أو جدلية أو خطابية، وهي في الوقت نفسه شعرية([8]).

ولا غرابة أن تجد كل حجة من حجج القرآن ما جمع بين هذه الأنواع الأربـع فـي أن واحد، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ” وكثير من المقدمات مع كونها خطابيـة أو جدليـة – يقينية برهانية، بل كذلك مع كونها شعرية، ولكن هي من جهة التيقن بها تسمى برهانية ، ومن جهة شهرتها عند عموم الناس وقبولهم لها تسمى خطابية ومن جهة تسليم الشخص المعين لها تسمى جدلية “([9])، وكذلك يمكننا القول: ومن جهة سيطرتها علـى المشاعر وتحريك النفوس تسمى شعرية.

البعد الثالث : أساليب الحجاج في سورة الطور: 

لم يقتصر القرآن الكريم في إقامة حججه وبراهينه على طريقة واحدة، بل تنوعت طرقه في عرضها؛ لتكون ألزم للحجة، وأدعى إلى القبول والملاءمة لكل عقل بشري، وحالة نفسية في كل زمان ومكان؛ تحقيقاً لخلود القرآن وإعجازه إلى ما شاء الله.

إن من يستقرئ حجج القرآن الكريم، فإنه يجده قد سلك في إقامة آليات الحجاج أربع طرق رئيسة هي: الطريقة الأولى: المناظرة والطريقة الثانية: التحدي والطريقة الثالثة: الترقي الطريقة الرابعة: التشهي والتحكم.

أولاً- الطريقة الأولى: أسلوب المناظرة:    

شغلت المناظرات القرآنية مساحة كبيرة في باب الحجج القرآنيـة، ويمكن القـول: إن الغالبية العظمى من حجج القرآن قد أُخرجت بطريق المناظرة ، فالمناظرة كانـت مـن أوسـع الطرق التي اتخذها القرآن في إقامة أدلته وحججه في الرد على المنكرين أو المعارضين، وتفنيد حججهم، واتهاماتهم الباطلة، وغالبا ما كانت المناظرة تقع بين الأنبياء وأقوامهم.

وتعرف المناظرة بأنها: ” توجه الخصمين في النسبة بين الشيئين إظهاراً للصواب أي توجه المتخاصمين اللذين مطلب أحدهما غير مطلب الآخر إذا توجها في النسبة، وإن كان ذلك التوجه في النفس كما كان للحكماء الإشراقيين في ذلك التوجه، وكان غرضهما من ذلك إظهار الحق، والصواب يسمى ذلك التوجه بحسب الاصطلاح مناظرة وبحثاً ” ([10]).

لقد حفلت سور القرآن الكريم بالعديد من المناظرات بين سالكي طريق الحق وبين ناكبيه، وكان التوفيق الإلهي حليفاً لكوكبة الحق على زمرة الضلال. ولقد كانت مناظرات الأنبياء -عليهم السلام- مع أقوامهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وذلك لتهيئة النفوس ولاستمالة القلوب، وهي تَستجلب العِظَة، وتُوزِع النفوس الجامحة، وتنبّه القلوب الغافلة، وتستب البصائر ([11]).

ولـم يكــتف المشركون بالاعتراض على نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم- ، بل طعنوا فيها، وراحوا يلصقون به أوصافاً شنيعة لا تليق بمنزلته العالية، فاتهموا النبي بأنه كاهن، ومجنون، وشاعر، وكذّاب ، وهي تهم تعبر عن حالة الإفلاس واليأس التي وصل إليها المشركون.

وفي سورة (الطور) يلمس المتلقي أنَّ الله جعل من مشركي قريش الفريق الأول الذين كانوا يوجّهون للنبي – صلى الله عليه وسلم-  التُّهم الباطلة، والمطاعن الكاذبة، وينعتونه بصفات غير مقبولة لا يستحقها، وجعل الله من ذاته الفريق الثاني الذي ينافح ويدافع عن النبي – صلى الله عليه وسلم-  ويحاور المشركين، ويردّ عليهم تهمهم ومزاعمهم، وينفي عنه ما نعتوه به من صفات، ساخرة، موبخاً إياهم، منكراً عليهم أقوالهم بحق النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- .

ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن الأنبياء والمرسلين كافة كانوا يردُّون الاتهامات والادعاءات عن أنفسهم بأنفسهم، ذلك أن الله أنطقهم بالرد. ومثال ذلك أن قوم عاد قالوا لنبيهم هود -عليه السلام-: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ* قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (الأعراف 66 ، 76)، أما محمد -عليه الصلاة والسلام -، فإنّ الله هو الذي تكفّل بالرد عنه، المشركون يقولون والله هو الذي يرد عليهم، إنه ينزه رسوله الكريم- عليه الصلاة والسلام -، وينفي عنه التهم، ويوبخ سفاهة عقول أعدائه، ذلك أنه حيثما اتهمت قريش الرسول، جاء الردّ من عند الله، فهو رد من الله عن رسوله .

وهذا نموذج من النماذج التي أثبتها الله في سورة الطور المباركة في باب مناظرة المشركين مع النبي محمد – صلى الله عليه وسلم- والذي تولى الدفاع والرد عن الرسول الكريم هو المولى -عز وجل-.

ذكر الله -عز وجل- في هذه السورة العظيمة الأذى الشديد الذي تعرض له سيدنا النبي محمد – صلى الله عليه وآله وسلم- من مشركي قريش، فقد كانوا ينعتونه بالعديد من الأوصاف المشينة من أفعال وأقوال خبيثة، إذ زعموا أنَّ الرسول – صلى الله عليه وسلم-  كاهن، ومجنون وشاعر وكذَّاب، وقد ردَّ القرآن على هذه المزاعم الباطلة والشبهات الزائفة سالكاً طريق النفي لا ، لا، ليس الأمر كذلك، مستخدماً أسلوب التهكم والسخرية والتقريع والتبكيت على تفاهة عقولهم، وسخافة آرائهم .

يقول الله تعالى: )فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ* أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ*  قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ(  ( الطور: 29 -31 ).

وعند البحث عن سبب نزول هذه الآيات، تبين أنها جاءت جواباً لقول المشركين لما رموه – صلى الله عليه وسلم-  بالجنون؛ وذلك بقولهم )يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ( (الحجر: 6).

فمن غير المقبول منطقياً أن يكون الشخص الواحد ذو الصفات الواحدة متردداً بين كونه كاهناً وكونه مجنوناً؛ وذلك لأن مِن شأن الكاهن أن يكون كثير الفطنة والذكاء والدهاء ٬ وهذا أمر يتنافى مع الجنون تنافياً كلياً . فكيف صح في فكر المشركين هذا الترديد بين كوْن الرسول محمد كاهناً وكونه مجنوناً ؟

فالكاهن هو الذي يخبر الناس بالأمور الغيبية من غير وحي،  وكان كفار مكة يعرفون أن محمداً – عليه الصلاة والسلام – ليس بكاهن، ويدركون الفرق بينه وبين النبي، ولكنهم يتعمدون اتهامه بهذه التهمة، فالنبي يدعو إلى الربوبية والوحدانية، أما الكاهن، فليس له رسالة يدعو بها، والكاهن يتقاضى أجراً على معرفة الغيب، وإخبار الناس به، أما الرسول، فلا يسأل الناس أجراً مقابل دعوتهم إلى توحيد الله،  فاتهموه بأنه مجنون، والمجنون هو مَنْ فقد عقله، ومحمدٌ – عليه الصلاة والسلام – ليس مجنوناً، وما ينطق إلا عن وحي من الله تعالى -عز وجل-، وكان المشركون يعرفون رسـولهم حق المعرفة، يعرفون شخصه، ويعرفون نسبه، ويعرفونه أكثر مـن أية أحـد صـفاته، يعرفون صدقه وأمانته؛ حتى لقد لقبوه قبل الرسالة بالأمين، كما كـان بعض سفهائهم وهم على ثقة أنه العاقل الكامل لا يعرفون عنه زلة في تاريخه الطويـل، فما من شبهة من هذه الشبهات يمكن أن يكون لها أصل، وإنما هي كراهيةُ أكثرهم للحق.

إنَّ ما ذكر أشد تنفيراً من السوء وأعظم تقبيحاً له وتحذيراً منه )أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ( ما هو أفحش عاراً من التناقض( تقوله ) أي: تكلف قوله من عند نفسه كذباً، وليس بشعر ولا كهانة ولا جنون، وهم على كثرتهم وإلمام بعضهم بالعلم وعرافة آخرين في الشعر والخطب والترسل والسجع يعجزونه عن مثله، بل عن مثل شيء منه.

وكثيراً ما كان المولى- تعالى- يتخذ من المناظرة أسلوباً من أساليب الدعوة والإقناع وإقامـة الحجة عليهم، حتى لا يبقى لهم أدنى عذر للتولي عن الإيمان والعكوف على الضلال؛ لإثبات العقائد التي جاؤوا بها، وإبطال عقائد الشرك وأعماله؛ حتى وصل بهـم إلـى درجة الإفحام فلم يملكوا شيئا يقولونه.

ومن أمثلة المناظرة  قوله تعالى: )أم له البنات، ولكم البنون(  (الطور: 39)، سفَّه المولى -عز وجل- أحلام المشركين وعقولهم توبيخاً لهم، وتقريعاً سائلاً لهم في تهكم واستهزاء واستخفاف : أتضيفون إلى الله البنات مع أنفتكم منهن؟! ومن كان عقله هكذا فلا يستبعد منه إنكار نبوة محمد -عليه الصلاة والسلام-وإنكار المولى الخالق الرازق ([12])، لم ينتظر الرسول – عليه الصلاة والسلام – جوابهم على أسئلته لهم، احتقاراً لهم، وحطاً لمكانتهم، وازدراء لمنزلتهم.

ومن الفوائد التي يجنيها المتلقي من المناظرة -أيضاً-؛ إفحامُ الخصم بالتحدي، ولو أن المتلقي قرأ أواخر سورة الطور ، لوجد فيها شيئاً غريباً من المناظرة من قولِه: ) فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ ( إلى قوله: ) حتى يلاقوا يومَهم الذي فيه يصعقون ( ، ذلك في قوله تعالى: )أم لهم سلم يستمعون فيه ( إن كان الأمر ) فليأت مستمعهم بسلطان مبين( ، وفي قوله: (أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون(  إن كان الأمر كذلك، ) فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين(،   فالمناظرة تعني أنَّ الله – سبحانه وتعالى-

في ختام المناظرة يجعلُ الخصم مُفحَماً بتحديه بما لا يستطيع، فهنا لا يستطيع أن يأتي بمثله، فتقومُ بذلك عليهم الحجة ([13]).

ومن الردود على افتراءات مشركي قريش ما جاء في قوله تعالى: )أم عندهم خزآئن ربك أم هم المسيطرون(، يعني بل أعندهم خزائن الله، يعني خزائن رزق الله – عز وجل – حتى يمنعوا من شاءوا، ويعطوا من شاءوا، والجواب: ليس عندهم ذلك، ولا يملكون شيئاً من هذا، بل الذي يملك الرزق عطاء ومنعاً هو الله تبارك وتعالى، ولما نفى أن يكون عندهم خزائن الله، قال: )أم هم المسيطرون( يعني بل أهم الذين لهم السيطرة والغلبة والسلطان والكلمة؟ والجواب بالنفي: لا، فإذا لم يكن لهم شيء من هذا صاروا مربوبين، وصاروا أذلاء أمام قوة الله – عز وجل –([14]).

ومن هذه اتهامات التي ليس لها إلا جواب واحد تصعب المغالطة فيه، ورود السؤال الاستنكاري في قوله تعالى: )أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لا تُبْصِرُونَ، اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ( (الطور16 ، 17)، إنه سؤال ليس له إلا جواب واحد، لا ، لا يكون ذلك، فالمشركون يَدَّعُون أنّ عذاب جهنم ليس إلا سحراً، وليس حقيقةً، إذ لا يجـوز في عقل ولا في عدل أن يكون عذاب جهنم سحراً، وإنما المشركون كانوا لا يبصرون هذا في الدنيا ولا يعقلونه([15])!  .

يتضح مما سبق أن  المولى -عزّ وجل- يدخل مع المشركين في جدل لا تعقيد فيه، ولا تركيب، ويتحداهم ويحرجهم بالسؤال تلو السـؤال عن القرآن بأنه سحر وعن الرسول بأنه ساحر، وعن يوم القيامة بأنه سحر وخيال لا حقيقة.

حاول المولى -عز وجل- في مناظراته باستخدام أسلوب الحجاج، وذلك بأن يغلق كل المنافذ على الخصم المحاور، فكلامهم باطل واتهامهم للنبي بالكهانة والمجون والشعر والكذب اتهام غير مقبول عقلاً وفهماً.

المتأمل في هذه الآيات يدرك أنه يتعين على المسلمين أن يجتهدوا في نفي الاتهامات والادعاءات التي يتم نشرها حول النبي محمد – صلى الله عليه وسلم-، وتوعية غير المسلمين بصفات سيدنا محمد – عليه الصلاة والسلام- والأخلاق الحسنة التي تميز شخصيته، وتفكيره الصائب والحكيم في مختلف أمور الدنيا، والدفاع عن الرسول الكريم بالسبل كافة.

ثانياً –  أسلوب الترقي:

يُعرَّف الترقي بأنه: تناول المعنى الأدني فالأعلى، والترقي من أساليب الحجاج في القرآن، فكان تارة يبتدئ بالأدنى فالأعلى، وكل ذلك بحسب ما يقتضيه الموقف ويفرضه الحـال، بما يجعل الحجة أبلغ في التحدي والإلزام، وأقرب إلى التسليم والإفحام.

ومن الأمثلة على أسلوب الترقي من سورة الطور قوله تعالى: )أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ* أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ  ( ( الطور 35 – 39 ). 

بدأ الترقي/ التدرج بقول المولى -عز وجل- ، دع خوضهم فيك يا محمد- عليه الصلاة والسلام -، وعدم احترامهم لك وطعنهم فيك، وعدم الاعتراف بنبوتك ورسالتك وبكتابك الكريم، إنهم قالوا عنك كاهن ومجنون وشاعر وكاذب. وانظر ماذا يقولون عن خالقهم، كيف يطعنون في الخالق، وإنهم خلقوا عبثاً من غير خالق من غير موجد، من غير صانع، ويدّعُون أنهم خَلقوا أنفسهم، وأنهم خَلقوا السموات والأرض، وهذا -في حد ذاته-  ترقٍ في تبكيتهم وتقريعهم وتهكم بهم منقطع النظير.

انتقل الله – تعالى- بعد ذلك إلى البدء بالحديث بالأدنى؛ لغرض الترقي (التدرج)، فلو تصورنا أن المشركين كما يدعون أنهم خلقوا من غير خالق، من عدم، أو بالصدفة، ثم انتقل المولى وترقى معهم في الادعاء، هل يتصور أنهم خلقوا أنفسهم، ثم تدرج معهم في الادعاء، هل هم خلقوا السموات والأرض؟

الرد في الحالات الثلاثة لآن لا يمكن ذلك، لأن قدرتهم في الأمر الثالث أعم من قدرتهم في الثاني، فهو أشرف منه، وقدرتهم في الثاني أعم من قدرتهم في الأول، فهو أشرف منه .

وفي هذه الحجة أثبت الله تعالى أن قدرتهم على الخلق والإيجاد مستحيلة، وأبان لهم ذلك بالتدرج،  ولا شك أن البدء بنفي الأضعف عنها أبلغ، لأن نفي الأضعف نفي لما هو أقوى منه بطريق الأولى، ولو بدأ بالأعلى لبقي عند السامع احتمال أن تتصف بما هو أدنى، فكانت الحجة بهذا الأسلوب أقطع وأبلغ وألزم في تأدية الغرض المطلوب، أي لـم بـدا بالأدنى إلى الأعلى؟ فكان استخدامه للترقي رعاية للمقام، إذ المقام مقام استدراج واستلطاف للمخاطبين، ولو بدأ بخلق السموات والأرض لنفروا عنه.

إن المولى ترقي بهم لأنهم لا يوقنون، وفي ترقيه سخرية وتهكم، لأن ادعاءهم كلام فارغ بغير يقين، بدون فهم، إنه كلام تلوكه الألسنة، وقد ألقمهم الحجر، فلا يتكلمون، إنه ترقي في تبكيتهم والهزؤ بعقولهم.

ومن صور الترقي في سورة (الطور) المباركة؛ اتهامُ المشركين الباطل للنبي الكريم بالكهانة والجنون والشعر والكذب، فرد الله عليهم مبكتاً .

فبعد أن اتَّهم مشركو قريش الرسول عليه- الصلاة والسلام- بصفات ونعوت سيئة متناقضة، ذلك إنهم اتهموه بالكهانة والجنون في آن واحد، وهما صفتان متناقضتان، تدرجوا في اتهاماتهم ومزاعمهم، فوصفوه بأنه شاعر، ثم ترقى المولى -جل شأنه- في تكبيتهم والسخرية منهم، فاتهموه بتقوله القرآن الكريم،  ثم ترقى الله في تكبيتهم وتقريعهم وذمهم، والسخرية منهم، وذلك في قوله) : أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ( (الطور:  32 )، ذلك أنهم اتصفوا بين العرب بأنهم أصحاب عقول راجحة، وأحلام وازنة، ولكنهم قوم تجاوزوا الحد في الطغيان.

ثم ترقى الله في تقريعهم وتكبيتهم والتهكم بهم حين زعموا عناداً واستكباراً أن الرسول – عليه الصلاة والسلام -، افترى القرآن وتقوله، وخاطب النبي – عليه الصلاة والسلام – منزهاً ومدافعاً بقوله:  لا تبال يا محمد – عليك الصلاة والسلام – بتقوّلهم الباطل، فقد برّأكَ الله منه، وذكّر فيهتدي المؤمنون، وتقام الحجة على المكذبين.

لقد اتبع المولى مع المشركين أسلوب الترقي في إقامـة الحجة، رعاية للإيجاز والاختصار، فبدأ من الأدنى إلى الأعلى مبالغة في التقرير والإلزام على  ما هو اللائق بذلك المقام .

ثالثا : التحدي:

كان التحدي من أهم الأساليب التي اتخذها القرآن في الحجاج، ويقصد بالتحـدي أن يطلب القرآن من أصحاب الضلال ومثيري الشبهات والشكوك أن يأتوا بفعـل معين، فإذا قاموا به كان دليلاً لهم على صدق دعواهم، وان عجزوا دل على كذبهم وقيام الحجـة عليهم .

لم يقتصر تطاول قريش على النبي – صلى الله عليه وسلم- عند الحد الذي اتهموه فيه  بالكذب، حين ادَّعوا أنه اختلق القرآن، وأنه ليس وحياً من عند الله ، قال تعالى: ) أم يقولون تقوله، بل لا يؤمنون(( الطور : 33 )، والتقول لا يستعمل إلا في الكذب، فهم يقولون: إنه اختلق القرآن، بل هم لمكابرتهم لا يؤمنون، فعدم تحسسهم بالإيمان هو الذي يملي عليهم مثل هذا الافتراء، ولو تخلوا عن كبريائهم، وأمعنوا في القرآن إمعان عقل وفكر، لأدركوا أن القرآن ليس من تأليف بشر.

وقد جاء الرد على اتهامات المشركين من عند الله بالنفي لا ، لا ، إنك معصوم عن ذلك وأعقبه بطرح التساؤل الآتي:

أيقولون عنك- أيها الرسول الكريم- إنك افتريت هذا القرآن، واختلقته من تلقاء نفسك، لا ، لا، أنت ما نطقت إلا بما أوحيناه إليك، ولكنهم هم المفترون للكذب عليك، وما حملهم على ذلك إلا عدم إيمانهم بالحق، وانغماسهم في الباطل، وإصرارهم على الجحود. وإذا كان الأمر- كما زعموا- فها هو ذا القرآن أمامهم يسمعون آياته … فليأتوا بحديث يشابه القرآن في بلاغته، وهدايته، وسمو تشريعاته وآدابه. وقد تحداهم- سبحانه-، قال تعالى : )أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ  * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ( ( الطور 33 ، 34 ).

وفي آيات أخرى تحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله فقال: )أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ(.

ثم تحداهم سبحانه- أن يأتوا بسورة واحدة من مثله فقال: )وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ(، ولكنهم في جميع مراحل التحدي، وقفوا عاجزين مبهوتين، فثبت أن هذا القرآن من عند الله، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.  ثم وبخهم-  في غاية السهولة عليهم، فليؤلفوا إذن مثل هذا القرآن طالما أنه من تأليف محمد على حد زعمهم.

حار الكفار في أمرهم لا يدرون كيف يأتون بكتاب مثل القرآن، حاولوا أن يردوا على هذا التحدي فعجروا، ولذا نرى القرآن يخاطبهم بقوله:  )قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَاعلى أن يأتوا بمثله، لا يأتون أبدا بمثله، ولو كان بعضهم لبعض عونا وظهيرا.( (الأسراء: 88 ، 89 ).

المتأمل في الآيات يكتشف كل الاتهامات التي وجهت للرسول –صلى الله عليه وسلم- رَدَّ عليها القـرآن الكريم بأساليب دفاعية مفحمة، تنفي تلك الافتراءات والشبهات الموجهة للنبي  –صلى الله عليه وسلم-.

وهذه التهمة يرددها في العصر الحاضر كثيرٌ من أعداء الإسلام لتشويهه والتنفير منه، ولكنَّ القرآن قدم أعظم ردٍّ على هؤلاء جميعاً في الماضي والحاضر والمستقبل، وهو التحدي بأن يأتوا بمثل هذا القرآن . وقد تضمن القرآن كثيرا من الحجج التي جاءت بهذا الأسلوب منها: فقـد تـحـدى الله تعالى المشركين وأمة العرب، بل الناس كافة([16]).

وقد تضمن القرآن كثيراً من الحجج التي جاءت على صورة هذا الأسلوب منها: تـحـدي الله تعالى المشركين وأمة العرب، بل الناس كافة.

رابعاً – أسلوب التشهي والتحكم:

وهو أسلوب من أساليب الحجاج يُعرَّف بأنـه: إبطـال دعـوى الخصم، بإظهار أن ما ذهب إليه؛ إنما كان اتباعاً للشهوة من غير دليل، فإن جاءه مـا لا يشتهيه دفَعه ورَدَّه ، وإن جاءه ما يشتهيه ويهواه أجازه وقبله، فيرد ما خالف هواه، ويقبل ما يوافقه([17]).

ومن حجج القرآن الكريم على الكافرين بهذا الأسلوب قوله تعالى مخبراً عن شدة طغيانهم، وفرط عنادهم فقال ) : وإنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ( ( الطور: ٤٠( أي: لو سقط عليهم من السماء من الآيات الباهرة كسفٌ أي: قطع كبار من العذاب، يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُوم بعضه فوق بعض.

وعن مناسبة نزول هذه الآية قال أبو حيان: كانت قريش قد اقترحت على رسول الله فيما اقترحت من قولهم لو تسقط السماء كما زعمت كسفا، لن نؤمن لك([18]).

وهذا فعل المعاند أو فعل من استولى عليه التقليد، وقد اجتمع في المشركين هذان القسمان العناد والتقليد”([19])، فلا يتعظون، ولا يؤمنون، إنهم كانوا يزعمون أنهم على حق، غير مستحقين للعذاب، إنه لو رأوا العذاب ، لقالوا عنه سحاب متراكم فوقه فوق بعض قد سقط علينا، فأخبر تعالى أنهم لو رأوا ذلك عياناً جهاراً نهارا حسب اقتراحهم، لبلغ بهم عنادهم وجهلهم أن يغالطوا أنفسهم فيما عاينوه لقالوا سحاب مركوم وليس بكسف ساقط للعذاب، فذرهم يا محمد يتمادون في غيهم وضلالهم . ([20])

وهذا شبيه بقول الكفار المعاندين المتكبرين من قريش، يقول تعالى:) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مّنَ السّمَاءِ فَظَلّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنّمَا سُكّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مّسْحُورُونَ( (الحجر: 14 ، 15).

يقول ابن عاشور في تفسير هذه الآية: إنهم لو فتح الله باباً من السماء حين سألوا آيةً على صدق الرسول ، أي بطلب من الرسول فاتصلوا بعالم القدس والنفوس الملكية ورأوا ذلك رأي العين لاعتذروا بأنها تخيّلات وأنهم سُحِروا فرأوا ما ليس بشيء شيئاً ([21])  .

وقريب منه قول مشركي قريش لمحمد : )أو تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفًا( (الأسراء : ٩٢)، وفي كلتا الحالتين لَنْ يؤْمِنَ أقوام الأنبياء برسالتهم .

وشبيه بآية سورة الطور قَوْلُ قوم شعيب الذين سألوا نبيهم أن يعجل الله لهم العذاب،  فعاقبهم اللّه بعذاب يوم الظلة، إنه كان عذاب يوم عظيم، إذ قالوا له: )فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(.(الشعراء: ١٨٧).

وقد سبقهم إلى ذلك قوم عاد، فإنهم حين رأوا العذاب مقبلا نحوهم: )لَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقبلَ أوْدِيَتِهِمْ قَالُوا: هذا عَارِضٌ مِمْطرن(،فرد الله- تعالى- عليهم بقوله: ) بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذَاب(...( الأحقاف 24 ).

وهذه الآيات تذكر بالمثل الشعبي الذي يقول: “عنزة ولو طارت”([22]).

المتأمل في هذه الآيات الكريمة: يراها قد حملت على المشركين حملة شديدة، حيث وبختهم على جهالاتهم، وتحدتهم بأسلوب تعجيزي أن يأتوا بمثل القرآن الكريم، وتهكمت بهم وبعقولهم الفارغة التي انقادوا لها بدون تفكر أو تدبر، وبينت أنهم قوم متناقضون مع أنفسهم، لأنهم يقرون أن الله- تعالى- هو الخالق لهم ولغيرهم، ومع ذلك فهم يعبدون غيره، وينسبون البنات إليه دون البنين([23]) .

وقد بيّن الله في كتابه أنه لا يجوز أن تكون الشرائع والأحكام والعقائد تابعة للشـهوات ،إذ لو كان الشرع تابعا للهوى والشهوة لكان في الطباع ما يغني عنه ،وكانت شهوة كل واحد وهواه شرعا له .وعند ذلك سيحصل الفساد الذي ما بعده فساد فـي السـماوات وفـي الأرض .قـال تعالى: )وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ( (الأنعام :101 ) ([24]).

إن المشركين المكذبين بالحق الواضح، قد عتوا عن الحق وعسوا على الباطل، وأنه لو قام على الحق كل دليل لما اتبعوه، ولخالفوه وعاندوه، فلا يبالون بما رأوا من الآيات ولا يعتبرون بها، وهؤلاء لا دواء لهم إلا العذاب والنكال([25]).

وقد يجتمع غير أسلوب في الموضع الواحد، ففي أسلوب المناظرة يجتمع معه أسلوب الترقي وهذان الأسلوبان يعمقان المعنى، ويبرزانه في صورة جلية،. فبعد أن اتهم مشركو قريش الرسول بصفات ونعوت سيئة متناقضة، إذ اتهموه بالكهانة والجنون، وهما صنفان متناقضتان، تدرجوا في اتهاماتهم، فوصفوه بأنه شاعر، ثم ترقوا، فاتهموه بتقول القرآن الكريم، وعدوه سحراً) : أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ*  اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( ( الطور : 15 ، 16  . (    

يُحتمل أن الإشارة إلى النار والعذاب، كما يدل عليه سياق الآية أي: لما رأوا النار والعذاب قيل لهم من باب التقريع والتهكم: أهذا سحر لا حقيقة له، فقد رأيتموه، أم أنتم في الدنيا لا تبصرون، وقد ترقى الله تبكيتهم والسخرية والاستخفاف بهم، بقوله ساخراً منهم: لا بصيرة لكم، ولا علم عندكم، بل كنتم جاهلين بهذا الأمر، لم تقم عليكم الحجة؟ والجواب انتفاء الأمرين:  أما كونه سحراً، فقد ظهر لهم أنه أحق الحق، وأصدق الصدق، المخالف للسحر من جميع الوجوه، وإما كونهم لا يبصرون، فإن الأمر بخلاف ذلك، بل حجة الله قد قامت عليهم، ودعتهم الرسل إلى الإيمان، بذلك أقامت من الأدلة والبراهين على ذلك، ما يجعله من أعظم الأمور المبرهنة الواضحة الجلية.

وفي الجملة، فقد سلك القرآن الكريم أساليب عديدة في الاحتجاج، إذ أولى العقل البشري في دعوته أهمية عظيمة، واستحثه على التفكير بمختلف والوسائل والآليات، ونعى علـى الذين حجبوا عقولهم عن العمل والتفكير،  وبيَّن أن للمعرفة وسائل وآليات محددة تُوصِل إليها، بعضها مُسَلَّم بقبول المعرفة عن طريقها، وأخرى تصـلح أن تكـون مصـدراً للمعرفة للشخص ذاته، لكنها غير ملزِمة للآخرين، وتتميز الأدلة القرآنية بخصائص كثيرة لا يمكن أن يضاهيها شيء من صنع بشر، مهما علا في العلم والفكـر، فهـي أدلة تهدف إلى إثارة القلب وإنارة العقل معاً، سهلة واضحة، قاطعة للشك، شاملة، ومتكاملة، ذلك أن الحجاج في القرآن الكريم له علاقة متينة ومميزة بمخاطبة العقول وإقناعها،  وقد جاء الحجاج العقدي في القرآن، – أحياناً – جواباً لبعض الأسئلة أو توضـيحاً لـبعض المفاهيم التي تشوبها الشكوك والظنون.

أسأل الله -تعـالى- أن يتقبل هذا العمل، وأن ينتفع به المؤمنين، وأنه نعم المولى، ونعم النصير، وصـلى اللهـم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.[26]

[1] ) تفسير مجمع البيان، الطبرسي ، ج ٩ / ص ٢٧٠.

[2] ) ينظر: صحيح ابن ماجه، ابن ماجة، رقم الحديث: (686 ).

[3] ) هو جبير بن مطعم بن عدي أبو محمد، ابن عم النبي -صلى الله عليه وسلم-، من الطلقاء الذين حسن إسلامهم، كان موصوفا بالحلم، ونبل الرأي، مات سنة 59هـ(تهذيب سير أعلام النبلاء، الذهبي، 1/ 87).

[4] ) البخاري، رواه البخاري، كتاب التفسير، باب سورة الطور، رقم الحديث (4854).

[5] ) ابن سيدة المحكم والمحيط الأعظم،  مجلد ٢، مادة (حجج).‏

[6] ) توفيق الطويل، أسس الفلسفة ، القاهرة، دار النهضة العربية 1979م، ص140 .

[7] ) هيئة تأليف ، ندوة الإسلام والحضارة ودور الشباب الاسلامي، أبحاث ووقائع اللقاء الرابع للندوة العالمية والشباب الاسلامي، ط3 ،الرياض، ج1 ، 1982 ، ص562 .

[8] (ابن القيم، إرشاد القرآن والسنة إلى طريق المحاورة وتصحيحها وبيان العلل المؤثرة، ج١، تحقيـق أيمـن عبـد الـرزاق الشـوا ، ط1، بيروت، دار الفكر المعاصر، 1996م، ص114.

[9] ) المرجع السابق، ص115.

[10] ) محمد على التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم ، تحقيق: علي دحروج ، ترجمة: عبدالله الخالدي، مكتبة لبنان، بيروت، 1996م، ص1652.

[11] ( طه عبد الرحمن،  في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط2 ،2000م، ص46.

[12] ( القرطبي ، 17 / 45 .

[13] ) تفسير سورة الطور، ابن عثيمين:  الموسوعة الشاملة للتفسير، ابن عثيمين ص ١٩٥.

[14] ) ابن عثيمين ص ١٩٧

[15] القرطبي ١٧ / ٢٥

[16] ) انظر: عفيف عبد الفتاح طبارة، تفسير جزء الذاريات، دار العلم للملايين، بيروت،  ط١ ، ١٩٨٢ ، ص٤٧ ، ٤٨.

[17] ) انظر: ابن القيم، إرشاد القرآن والسنة إلى طريق المحاورة وتصحيحها وبيان العلل المؤثرة، ج١، تحقيـق أيمـن عبـد الـرزاق الشـوا ، ط1، بيروت، دار الفكر المعاصر، 1996م، ص114.

[18]) ابن حيان، تفسير البحر المحيط ٨ / ١٥٣

[19]) ينظر: تفسير القرطبي ١٧ / ١٦٠ .

[20] ( ينظر: محمد على الصابوني، صفوة التفاسير ٣/ ٢٦١  .

[21] ) ابن عاشور: التحرير والتنوير، 28 ، 85

[22] ) يروى أن رجلين خرجا معاً للصيد، فشاهدا سواداً من بعيد، فقال أحدهما للآخر: إنّ هذا السواد البعيد غراب، وقال صديقه الثاني لا.. إنها عنزة، وأصر كل منهما على رأيه بشكل شديد، فقام الرجلان بالتحرك في اتجاه هذا الشيء الأسود، حتى اقتربا جداً منه، فإذا بهذا الشيء الأسود غراب، وقام بالطيران خوفاً منهما، وحين طيرانه أفزعهما أيضاً، فولى كلاهما هاربين، وفي أثناء جريهما بعيداً، قال الرجل الأول لصديقه: أرأيت، ألم أقل لك من البداية أن هذا الشيء الأسود الذي رأيناه غراب؟! فردَّ عليه الآخر بإصرار، وقال: عنزة ولو طارت، ويضرب هذا المثل للدلالة على الجهل والعناد، والتمسك بالرأي على الرغم من وضوح الحقيقة.  (ينظر: عنزة ولو طارت” – صحيفة الاتحاد ١٨‏/٠١‏/٢٠١٩ https://www.alittihad.ae .).

[23] ) محمد سيد طنطاوي، التفسير الوسيط للقرآن الكريم، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، الفجالة، القاهرة، ط أولى، ١٩٩٨ م ص 45.

[24] (  انظر :  محمد أبو زهرة ، تاريخ الجدل ، ط2، بيروت، دار الفكر العربي ، ١٩٨٠ م ، ص ٧١ .

[25] ) انظر: تفسير السعدي، تفسير الكريم الرحمن، عبد الرحمن السعدي ٨١٧. 

زر الذهاب إلى الأعلى