عدسة جذَّابة تغازل الأساطير

عدسة جذَّابة تغازل الأساطير
خالد جهاد/ كاتب فلسطيني
الضوء هو انعكاس لإحساس الفنان الدافئ الذي يشع حميميةً في صوره، هو حارس لحظاته المتربصة للحلم والتي تنقِّب معه عن الجمال، فالتصوير هو وسيلةٌ يعكس بها الفنان شعوره الذي يتقاطع مع انكسار الضوء وتعامده على شغاف القلب لينتج عملاً فنياً، والفنان الحقيقي هو إنسانٌ عادي يختلف عن باقي البشر في نظرته للتفاصيل البسيطة التي قد لا تلفت معظم الناس، فيعبِّر حسب نوع الفن الذي يحترفه عن شعورٍ يخالج الكثيرين لكنهم يعجزون عن صياغته أو تفسيره أو التعبير عنه، فيلمس منطقةً مليئةً بالذكريات والأشجان تشبهنا أو تشبه أحلامنا، أو صورةً تشكَّلت في مخيلتنا وحوَّلَها هذا الفنان بإبداعه إلى واقعٍ ملموس ومُجَسَّد من خلال أعماله تجعلنا نقول (هذا أنا)، فبصمة الفنان هي ما تميزه وتجعل إنجازه قيماً مهما كان بسيطاً، ويجعلنا نعرفه لأنه صنع لنفسه خطاً وأسلوباً أصبح هويةً فنيةً تشير إليه دون ذكر اسمه حتى، وهذا ما نجده في بصماتٍ بتوقيع الصحفية والفنانة المصرية دعاء أبو سعدة.
حيث إن الألوان تتخذ اتجاهاً مختلفاً في أعمالها فتتعاطى معها بطريقةٍ تُضفي لمسةً جماليةً مطعَّمةً بالسحر والغموض، فوجودها في مناطق جغرافية عديدة في أوروبا سمح لفكرتها وتجربتها بالتبلور بعد سنواتٍ من العمل في مصر في قالبٍ فني رشيق، وأعطى بعداً جديداً لها دفعها لاكتشاف مساحاتٍ مختلفة داخلها، فلا يستطيع أن ينكر من يرى طيفاً واسعاً من صورها إلا أن ينتابه شعورٌ بالعودة إلى شخصياتٍ وأجواءٍ قرأنا عنها في كتب الفلسفة ومراجع التاريخ، ولحظات التبدل والصعود للفكر في أوروبا في مختلف الميادين، فيخلق إحساساً مضاعفاً بها يعطيها روحاً ورونقاً يميزها، ويضفي طابع الغرابة والرهبة عليها.
فكثيرةٌ هي الصور للتماثيل والمتاحف وأنماط المعمار، لكن العدسة التي تجعلها نابضةً وفي حالةٍ من التفاعل البصري والحوار الخفي مع المشاهد هي شيءٌ نادر، فنرى العديد من المنحوتات في صورها بأكثر من تعبيرٍ يرتسم على ملامحها مع أنها ثابتة، لكن طريقة المعالجة وتكثيف الألوان والتقاط الصورة بذكاء من عدة زوايا أحياناً لنفس التمثال تجعلنا نراه بشكلٍ مختلف في كل مرة، كما أن هناك حالةً من السحر فيها تجذب العين وتثير الفضول وتجعلها عالقةً في الأذهان، فنشعر لبرهةٍ أن هذه التماثيل تُحدِّثُنا أو تُحدِّق بنا وتجعلنا في حضرة الأساطير والحكايات الشعبية التي كنا نشعر بالإثارة عند سماعها وتداولها في طفولتنا ومراهقتنا، وتُذكِّرنا برائعة لويس كارول (أليس في بلاد العجائب)، وهذا جزءٌ طبيعي من كينونتنا كبشر؛ نسعى لمعرفة ما هو أبعد من إدراكنا وما تبصره أعيننا، فنرى هالةً ضبابية تحيط بأعمال فنانتنا وتميزها كحالةٍ خاصة.
ونلاحظ في صورها حضوراً مغايراً للطبيعة، فنجد مشاهد الغروب والمساء في حالةٍ من التناغم والانسجام اللوني والصوفي كمقطوعةٍ موسيقية كلاسيكية، تمتد لتشمل بأنغامها البحر والجبل والسماء فتضفي عليها مسحةً من الحنين، وتترك مساحاتٍ للتأمل مع صورٍ حالمة تتخذ الظلال فيها دوراً رئيساً يمكِّنها من جعل كلٍ منها أكثر جاذبيةً ويعطيها نوعاً من الألق والديمومة، فتتداخل مع مجموعة من الأفكار والأحاسيس مازجةً أجواء الضباب الأوروبية بالشجن المصاحب لمزاج شعوبنا عموماً.
ونجد أن نضج تجربة الفنانة المصرية دعاء أبو سعدة وتراكم الخبرة في مسيرتها المهنية بين الصحافة والتصوير جعل مزاجها الفني خاصاً ومميزاً، فأهَّلها لنيل العديد من الجوائز، ناقلةً صورةً جامعة لباقةٍ من الأحاسيس والانطباعات في مشهدٍ فني يغلب عليه النَفَس الشاعري الذي يمتاز بالأناقة والجاذبية المفعمة بالغموض، المتناغمة مع الظلال والمُبْحِرة في عالم الروح بموسيقى من الصمت.