ثقافة

عن موت سقراط داخل لوحة

عن موت سقراط داخل لوحة

هيا خاشوق/ كاتبة لبنانية

لوحة موت سقراط للفنان جاك لويس ديفيد، رسام فرنسي وأحد أبرز وأهم رسامين المدرسة الكلاسيكية الجديدة، لديه العديد من الأعمال المهمة مثل نابليون عابراً جبال الألب، يمين الإخوة هوراس، تتويج نابليون وغيرها من الأعمال المهمة التي تعد مراجع في المدرسة الكلاسيكية والفن خصيصاً في فترة الثورة الفرنسية.

بالنظر إلى لوحات ديفيد فإننا نجد أنه ابتكر نزعةً مهمة في الكلاسيكية من تجسيد الشعور والمشهد والمرحلة في أعماله
سنتحدث عن أحدِ أكبر أعماله لوحة موت سقراط، قبل قراءة اللوحة أو الحديث في تفاصيلها كنظرة أولى للوحة أول ما سيلفت انتباه المشاهد هو الرجلُ في منتصف اللوحة منتصب الجسد بجذع ممشوق وعضلاتٍ بارزة، سينتبه أيضاً إلى زوايا الضوء وتفاصيل الملابس والجدران الحجرية.

تمت محاكمة سقراط من قبل محكمة أثينا بحجة تضليل عقول الشباب وعدم تعبد الآلهة وبحسب كتاب “عزاءات فلسفية” فإن
ديفيد خطط لأن يرسم سقراط بعدَ تجرعه للسم لكن الشاعر الفرنسي أندريه شينييه اقترح أن يصور سقراط وهو يلفظُ آخرَ دروسه الفلسفية في لحظة مد يده لتناول السم وبذلك “فإننا نشهد اللحظات التثقيفية الأخيرة لكائن متسام” والجدير بالذكر أن نبذ سقراط من السلطة في أثينا لم ينشأ إلا بعد وفاة بيركليس حيثُ كان هذا الحاكم يشجع الفن والعلوم مهما بدت مثيرة للجدل أو متباينة مع ما هو شائع..

تحتَ ظل هذا النبذ لسقراط حكم عليهِ بشرب سم الشوكران، وبحسب أفلاطون فإن سقراط كان من الممكن أن يهرب إلى المنفى ولا يعود إلى أثينا إلا أنه اختار الموت معلماً بذلك تلاميذه أن الفيلسوف لا يخاف من الموت.

اختار الفنان رسم أوج المشهد عندما اقترب سقراط ليتناول السم وهو منهمكٌ في تأكيدِ أهمية الروح لتلاميذه ولا يبدو حتى عليهِ أي تعبيرٍ عن الخوف أو الندم من الموت بيده! بل تراه مندفعاً إلى أخذ الكأس بدون أي تردد.
نلاحظ أن الفنان رسمَ سقراط بمثاليةٍ واحترافية فتاريخياً يجب أن يكون عمر سقراط في ذلك الوقت حوالي السبعين سنة فنراه رجلاً قوياً متصدراً اللوحة والإضاءةُ أشد سطوعاً عنده -بطلُ المشهد- وبالنسبة للفنان إن سقراط يعتبرُ رمزاً على القوة والشجاعة التي تتغلبُ على الرغبة والخوف و أيضاً على الالتزام واليقين بالمبادئ والأفكار حتى في وجهِ المجهول المخيف الأكبر -الموت- كما نلاحظ أيضاً في لوحات ديفيد بشكل عام ولوحة موت سقراط بشكل خاص أنه يجسد أولئك الذين يتفانون اتجاه مبادئهم بحدَّةٍ ووضوح وقوة، على عكس باقي شخصيات اللوحة يغلبُ عليهم الانحناء والضعف.

بقراءة اللوحة من اليمين إلى اليسار فمن اليمين إلى اليسار نجدُ أتباع سقراط وتلامذته يتقلبونَ بين الألمِ والذعر خائفين من أن يتجرع معلمهم الكأس المسموم ثم الجلادُ الخائف والذي يشيح بنظره بعيداً.. أما بالنسبة للمرأة في المدخل الذي في الخلفية فإنها زوجة سقراط “زانثيبي” تقفُ بعيداً مفجوعة، والذي يمسكُ بقدم سقراط أحد أهم تلاميذه “كريتو” وسنلاحظ توقيع الرسام على الحجر الذي يجلس عليه كريتو مما يدل على نوعٍ من التأييد والتوافق معه ولو أن الفنان قوته الأخلاقية ليست بالمثالية إلا أنه كان يسعى إلى ذلك جاهداً.
بحسب الكثير من القصص التاريخية فإن الحاضرين في لوحة موت سقراط من المفترض أن يكونوا خمسةَ عشرَ شخصاً إلا أننا نجدهم الآن اثني عشر!
وهذا تحديداً عددُ تلامذة المسيح في لوحة دافنشي “العشاء الأخير ” بهذه الحركة نرى تجسيداً للولاء وأهمية المبادئ باختلافِ الاتجاهات، وأخيراً نرى رجلاً كبيراً في السن على طرف السرير كأنه خارج نطاق زمن اللوحة بلا أي حيلة والذي هو أحد طلاب سقراط -أفلاطون-
أفلاطون هو الذي جعلَ التاريخ يعرف سقراط وينشر تعاليمه ودروسه حيثُ عينه البطل في الكثير من أعماله الفلسفية، وبكل وضوح فإن ارتباط سقراط وأفلاطون ارتباطاً واضحاً جداً فبدون طرف لا يوجدُ الآخر حتى أن فلسفة الاثنين فيها نوعٌ من الانسجام لا نستطيع فصلها في كثيرٍ من المواضع، لكن في ذلك الوقت -وقت موت سقراط – فإن أفلاطون لم يكن موجود وحتى لو كان موجود فكانَ حينها شاباً إلا أننا نجده في اللوحة رجلاً منعزلاً ضعيفاً وهنا تكمنُ قراءة اللوحة من اليسار إلى اليمين.
في الحقيقة وبقراءة اللوحة بهذه الطريقة فإننا نجد أن ذكرياتٍ معينة تفجرت في عقلِ أفلاطون فولدت مشهد الموت الذي خلفه وبهذه الذكرى نرى المشهد بزوايا سلسة، ضوء مثالي، كأن شيئاً حصل بالواقع لاستحضارها كأنها تحدث توَّاً وفعلياً هذا ما حصل إذ أن بعدَ عدة سنوات من الحادثة ستتم خيانة أفكار الثورة الفرنسية من قبل الواقع المرعب حينها وهذا ما جعلَ ديفيد مرة أخرى يوقع على الحجر الذي يجلس عليه أفلاطون كأنه يؤكد ما يواجهه أو كنوع من الاتفاق معه بما يشعر.

في رأيي أن فإن الكثيرَ من الدروس والأحداث توجد في هذه اللوحة وفي أي عملٍ فني آخر وما نتعلمه ليسَ بالضرورة أن يكونَ كل الموجود لكن أعلمُ تماماً أنه من المهم أن يكون شيئاً نقدره بالواقع ونستفيدُ منه، أرى هذه اللوحة فيها تمجيدٌ وتمسك للمبادئ الذي يتطلبُ ذلكَ من أي إنسانٍ شجاعة وقوة حتى لا يتركها أو يتخلى عنها، ومن زاوية أخرى أرى كيفَ أن هذه المبادئ من الصعب في أوقاتٍ كثيرة أن تبقى ويتقبلها المحيط ومن مكانٍ آخر وأهم أرى أن الفن فيه الكثيرُ لنتجرعه ونفهمه كبشر ويستحقُّ تقديراً وتمعن لنرى الإنسان في مختلف الأزمنة والأماكن يسعى لوضوحه ووجوده.

زر الذهاب إلى الأعلى