ثقافة

غسان كنفاني وساعته الأبديّة

غسان كنفاني وساعته الأبديّة

صفاء حميد- اليمامة الجديدة

لا تزال على سطح إحدى عمارات بيروت عقارب ساعة تتحرك صيفاً وشتاءً، سلماً وحرباً، رضا وغضباً، تظل الساعة تجري بعقاربها ذات اليمين وذات الشمال حائرةً كيف وأين تضع رحالها؟، بعدما توقف القلب الذي كانت تدق له منذ زمن، وصار مالكها أشلاءً متناثرةً هنا وهناك.
يقولون إنّ ساعة غسان ظلّت سليمة وتدق بعد أن تطايرت إثر انفجار سيارته التي تسببت بها عملية اغتيال غاشمة نفذها الموساد الاسرائيلي، وأخالها لا تزال تدقُّ حتى الآن، لتقول: إن غسان لا يموت، فهو لم يعد بعد إلى حيفا، وكيف له أن  يموت قبل أن يعود؟!

في عكا نبتت روح غسان قريبة من البحر والشمس وحكايات الثائرين على الجدران والمنهزمين عنها، أعوام قليلة مرت قبل أن تغير الأقدار مصيره، فتدفعه النكبة بعيداً إلى لبنان.

حطّ غسان رحاله في صيدا فتى في الثانية عشرة من عمره، وسيم وهادىء وصامت، تعتمل في دواخله حكايات التهجير، وتتراءى له صور دير ياسين وغيرها من القرى المضمخة بالدم والبارود.

من صيدا إلى دمشق، حيث استقر غسان الفتى مع أسرته، وبدأ هناك يترجم ما كان يحمله معه طيلة الوقت من صور وذكريات وحكايات، احترف تحويل الهواجس والافكار والذكريات إلى كلمات، بسيطة سلسة ومشحونة بالدم والحنين.

كبر غسان والتحق بكلية الأدب العربي في جامعة دمشق، حيث برزت موهبته الأدبية وصُقِلت، كما أتيح له هناك إظهار موهبة أخرى كان يمتلكها وهي موهبته في الرسم.

في تلك الأثناء كان غسان قد بدأ ينخرط في العمل السياسي، وتحديداً مع حركة القوميين العرب الحاملة للأفكار القومية الاشتراكية والتي كان من أبرز مؤسسيها: جورج حبش، ووديع حداد.

أتيح لغسان بعدها فرصة العمل في دار المعارف الكويتية، وهناك مارس النشر في المجال السياسي الساخر  تحديداً، حيث كان يكتب تحت اسم مستعار هو: أبو العز.

وفي الكويت بذر أول زرعه، قصته المعنونة بالقميص المسروق، ليتوالى بعدها إنتاجه الأدبي المتنوع بين القصص والروايات والمسرحيات، نشر بعضها أثناء حياته، ومكث البعض الآخر منتظراً حتى ما بعد استشهاده، كما نُشِرَ جزء منها غير مكتمل، كروايات: العاشق، وبرقوق نيسان، والأعمى والأطرش.

كتبَ غسان خيالاً، لكنّه خيال واقعي، مقتبسٌ من المشهد اليوميّ، والممارسات الحياتية العادية للفلسطينيّ اللاجىء، فلسطينيّ ما بعد النكبة.

كتب عن الفلسطينيّ الباحث عن الرجوع إلى الذات قبل الرجوع إلى الوطن في رائعته وأشهر رواياته رواية: عائد إلى حيفا.

وكتب عن الفلسطينيّ الضارب في الأرض بحثاً عن  فسحة أمل، الفلسطينيّ المحبوس في الخزان، الذي خاف الحياة كما خاف الموت، فقتلته الحياة قبل أن يقتله الموت، في رجال في الشمس.

وكتب حكاية الأم الفلسطينية، الصورة والمثال، الشجرة والخيمة والوطن، المجروحة والحرة، في رواية أم سعد.

كما و تطرق إلى مواضيع قومية، بروح خفيفة وقلم بارع سلس، كما في الرواية غير المكتملة: الأعمى و الأطرش.

كتب غسان الفقر والجوع والحنين و التيه والطرق المسدودة، كتب الحبّ اليابس وكتب النضال و البنادق و البرتقال الباقي على العهد.

كتب غسان الوطن وسؤال الوطن.
وحتى بعد غسان بتسع وأربعين سنة، سيظل سؤاله حاضراً في كلّ محفل ومناسبة.

أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟
وتظل الإجابة اللاذعة حاضرةً كذلك، الوطن هو ألا يحدث هذا كلّه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى