فلسفة التشكيل الفردي للتاريخ

فلسفة التشكيل الفردي للتاريخ
بقلم: هاشم شلولة/ شاعر وكاتب فلسطيني
التاريخ ليس جماعاتٍ وشعوب فحسب، بل أفرادًا هم النواة التي نظّرت لجذرية الشعوب وأسست فكرتها، وكان لها المركزية في تشكيل الجماعة؛ لضرورة نفسية في المقام الأول وضرورة طبيعية ثانيًا وثالثًا ضرورة مصيرية.. لا تنفصل هذه النواة عن قوامةِ الفرد ووضعِه لقوانين البناء المُثبِتة للوجود الجماعي الذي تنبثق عنه التوازيع المختلفة لتصنيفات الفرد وعلاقته التأسيسية المُطبِّقة لمشهد الشعوب والجماعات تجسيديًا، ويكاد يكون الأمر منطِقًا إذا ما استثنينا الصورة التكوينية الأولى للإنسان في ظل تضارب وتباين روايات البداية.. من حيث بدأ الإنسان في البحث عن التاريخ ومحتوياته.. إن كينونة الشعوب دون ردّها إلى العوالم الفردية هي مجرد طرح يثيرُ السخرية، ويكأنّك تتكم عن فصيلة نباتية وجِدَت خضراء دون بذرةٍ غُرِسَت في الأرضِ فأنبتت.
يتقاطع التاريخ دائمًا ويتصادم مع حقيقة أن الفرد هو الذي شكّل التاريخ بوجوده كاملًا، ومن علاقة الفرد بالظواهر تشكّلَ التاريخ. (ومفردة حقيقة وُجِدَت لأنّه لا بديل لها في سياق رَدِّ التاريخ إلى جذوره). وهنا؛ هل يعود للفردية مجدها الذي سلبه المأرِّخون؛ لأكثر الأسباب تشوهًا ورمادية؟. من الممكن أنَّ الخطاب العصري ركز على أهمية الوحدوية وجدال الفرد الممتد لضرورتيّ التطوّر والتحوّل.. لكنَّ هذا الخطاب حالمًا، وفي تماثل أقل مع الواقع، والواقع اكتشاف مهم أيضا من اكتشافاتنا لأسباب إعاقة وضوح مشهد الفردية حاضرًا وتاريخًا.
المنطلَق الذي انطلقتُ منه نحو فكرة أنَّ الفرد أساس التاريخ هو الكيانية الفردية الواسعة والفضفاضة.. التي تحتملُ عالَمًا واسعًا وكبيرًا، وقد يصبح هذا العالم الذي تقاطع مع مدى أهمية الفرد لتقويم بُنية التاريخ هو جوهر الحالة التاريخية في حاضرها القائم والمتتابِع. انطلقتُ بهذا؛ لأنَّ الفرد ليس جزءً من كُل. الفرد هو الكُل بأسئلته، بتنقُّلاته، وانتقالاته بين الحِقَب بطابعه الوجوديّ كاملًا، بملامحه، بصوتِ خلوده وصناعته للوجود بمنهجية إنسانية عالية المستوى؛ تُختَزل في تصّوراتنا لمسارات التاريخ المختلفة، والسؤال حول تكوينها.. نحو؛ ما بديل المطروح النقلي لمشهد تأسيس التاريخ إذا كان الفرد استثناءً من معادلةٍ في أشدِّ مراحل الوضوح؟. نظل في حيرة؛ لأنَّ التاريخ ذوّب فرديتنا في أكاذيب ملحمية جامعة تتناقض مع الذات الواحدة التي خلقت الجميع.
إنَّ إنصاف الفرد في الحديث عن انطلاق التاريخ بشكله الموصول إليه مراحليًّا يتجلّى في طريقتين مختصرتين وهما، تقديم الفرد كمفهوم يحدد موقعه من الإعراب دون الغفول عن استدلالات من واقع التاريخ (تاريخ الجماعة) تقي تهمشيه، وتزيل قصديةً ما؛ كانت تحضر بقوة في كل قراءة لبداية التاريخ. هذا أولا، وثانيًا.. تحديد مكانة الفرد من الإعراب، حيث لا يتم الاكتفاء بالاستدلالات بل العمل على تحديد موضع له يؤخذ في الاعتبار إذا ما حاولنا فكفكة التاريخ.. إنهما طريقتان أساسيّنان لتحصيل مصداقية تاريخية فالفرد هو أصل الشعوب واستيلادها لوجودها.. لكنّ الراصدين لهذه الحقيقة تنكروا لتلك الأهمية، هذا التنكّر استلهَمَ حضورَه من مَقْتِ التدمير المُحدَث لأسبابٍ مغايرة لأجل الفرد واقتتالاته مع الأحداث والعوالم.. يكفي أن يكون الفرد هو المسؤول عن توالد الأفكار، ويخلق الأزمات لملء جدولة تحقيق وجود وحضور التاريخ كجزء دلالي مهم على حقيقة أننا كبشر بكل سقطاتنا، لنا مجد صناعة التاريخ والصدق والأكاذيب، نحن من يبني التاريخ كأفراد بداخل جماعات، وبالعكس، جماعات بداخل أفراد.. هذه الإزدواحية المُرهِقة مَلمَح مهم من ملامح سؤالية جديدة حول لغز التاريخ وإجابته على تملُّصه الواضح من فرديةٍ صنعته.
النجاة في قراءة الجهات (المُوثّقة) للتاريخ وبرأيها مستحيلة بقدر ممكنِها لو تزامن ذلك مع تضامُن الفرد مع ذاته وانتمائه إليها بكل ما أوتي من قدرةٍ على إجابة نفسه لنفسه على سؤال: هل ستتحقق نبوءة الظهور الفردي تاريخيا بصورته الموضوعية؟. ربما يحدث ذلك لو كفَّ السؤالُ عن السؤالِ. لقد تأخر كل شيء بعد هذه الصرخة الزمنية التي سمعناها فأصمَّتنا كأفراد وبشر إلى الأبد. قد يكون كذلك حين يهَبُ نَفْسَه لحقيقته، ويحدث ذلك حين يدافع التاريخ بابتكار تعابيره عن الأجزاء التي هي الكل، والكُلّ انبثق منها. يكون التاريخ صالحا حين يحترم هذه الكيانية الفردية الخالصة والمَحضة ويؤمن بها.. يكون صالحًا حين لا يكون ما هو كائنه. التاريخ يعجُّ بالضلال الذي أحدثته أداة الاستفهام “لماذا” لأنَّ هذا الأداة تُحدِث انكسار وخدش كبيرين في منطقة الاستيعاب للفرد واستثنائه كحدثٍ وجوديٍّ ضخم يتفوق على أدبيات الجماعة الطوباوية؛ هذه الأدبيات التي ساهمت على الدوام في تحطيم حضور الفرد في العرض الأحداثي الكبير والمنقول.
يقول مصطفى السباعي: “محكمة التاريخ تحكم بالإعدام على أولئك الأفراد والشعوب الذين يملكون من الحقائق أكثر مما يملكون من الوقائع” من يملك من الحقائق أكثر مما يملك من الوقائع هو جامد بصورة أو بأخرى، وسبب من أسباب التنكّر لذاته كمحور تأريخي، أو أساس تدوين الأحداث. إذن؛ الفرد نفسه ليس مستثنى من إشكاله مع التاريخ. العزاء في هذه الاستباحة الفردية الفاحشة؛ هو أنَّ حقائق الأفراد تموت أحيانًا. أدار الفرد دفّة وجوده كمكوّن مهم وأساس في الخطاب التاريخي المُقاد فيه بشكلٍ أشبه بالفاسد والتالف.. من خلال إصباغ الوجود الفردي في التاريخ بصبغة النزعة والتصوّر دون استثناء الأدلجة ومحايثات العرق والدين وغيرها من المفاهيم التوزيعية. على الفرد أن يكون أهلًا أو جديرًا بترتيب أفكار سؤاله الكبير حول وجوده أولًا ونتائج هذا الوجود في التاريخ ثانيًا، ويأتي هذا في حال أصبح الإنسان هو الأول على قائمة اهتمامات الإنسانية الخاصة بالغاية، وإذا ما نجح في إدراج نفسه على هذه القائمة فستنتحر الفردية وتُكمِل طريقها نحو المعقول من حدود ودرجات الاختفاء، وهذا ما لا يُرجى؛ لأجل الهوية الإنسانية قبل كل شيء فالفرد تحكمه لغة الإنسان إذا بلغ وصول الخطاب التاريخي ووجد نفسه فيه أو حتى حدث العكس، وفي ذات اللحظة لا يجب أن تكون الإنسانية هي الدافع وراء التواجد في الممكن التاريخي.
الفرد أصل التاريخ سواء كان هذا واقعًا أو لم يكُن فيما ما عدا الحفاظ على أهمية كينونة الإنسان من خلال إدراجه ضمن الجدولة التاريخية فيسقُط هذا الإدراج؛ لأنَّ غايته سقطت. التاريخ ليس أمانا ضمن اعتبارات فردية قد يطول تعدادها، لأنه بصيغةٍ ما عِبءٌ، ويحتاج إلى مسؤولية من نوع خاص وفريد للغاية، وهذا غير المرجو من قِبَل عمليات بحثِنا كبشر عن مصادر الأمان الهووي أو ما يكفل وجودنا كبشر. التاريخ غير مُطالَب بالصلاح بقدر مطالبته بالتجرد والحيادية وتقدير الجوهر الفردي في عملية وجود وتوزيعة الأحداث المرصودة تأريخيًّا. ثمّة ما يؤرقني حول هذه المُعادلة، وهو أنَّ مطالبة التاريخ من قِبَل الفرد بفرديته هي درب خَرِب نستوضح فيه عن احتمال صمودنا كأفراد أمام مكر تأريخ التاريخ. كان حريٌّ بنا كأفراد أن يكون مشروعنا في استقطاب مكانة لنا في التاريخ مشروعًا نزيهًا وإلى جانب ذلك، مُستقيمًا على الأقل في السياق الأخلاقي. كان الفرد دافعًا لموت فرديته، كان غامضًا أيضا وفاسد.