في ملف “في الحرب وعنها”: حينما تُضِلُ الحرب أروقة الزمان وتُضلُنا

حينما تُضِلُ الحرب أروقة الزمان وتُضلُنا
بقلم: سوسن خالد خضورة/ غزة
الحرب تعيشني، تصفعني صفعة أخرى، أستيقظ دون سابق إنذارٍ على أربعة عشر شهيداً دفعة واحدة، يومي الذي رَسمْتُ خارطته قبل أن أنام، غَرِقَت في بحر من الدم، كان الصباح مُشْبَعاً برائحةِ مسكٍ تفوح من الشهداء، بأجساداً نقش عليها الحرب عبثية الزمن الضال، سَلبٌ مفاجئٌ للأرواح، زملائنا في الجامعة اليوم شهداء، وربما غداً نحن، تُعكّر الزنانة صَفوَ نصّي، تتخذ من حرفي سطرًا مبعثرًا، تندثر أصوات الصواريخ في قصيدة، تُقنع القصيدة الليل بأن يحمل شرّه ويرحل عنا، تسأله لِمَ تعطي الحرب وقتاً للبداية وأنتَ النهاية!
تسأله لماذا سبقتها الحرب؟
ألأن القصيدة ولدت في غزة فاعتبرتها الحياة ابنة عاقّة لها فتركتها فريسة للموت؟ أم رمتها في مضمار السباق مع الحرب؟ أيهما أسرع؟، أيهما أوجع؟، أيهما سيرحل أولاً؟
ترحل الحرب وتبقى القصيدة، وينزف الحرف، ويضمحل القمر، وتنثر الشمس شعاعها على البحر العاري، وتسرق الحرب القصيدة، وتسرق قلبي المليء بالحروف قبل أن يكتب، وتسرق دمية طفلة، وقلب أم، وذراع أخ، وتترك الأباء في حضرة الألم، وتسرق ورقتي الأخيرة التي تركتها أمام البحر، ليس البحر العاري، أنا العارية مني ومن الحرف واللغة والكلام، البحر أرقى من أن يتعرى!
ربما بعد دقيقة أو غداً أو بعد سنة تسرقني الحرب، فليتحدث نصي، وليبقى حرفي حيٌ على الورق، ولتشهد الحرب أنني شهيدةٌ أخرى بين الكتب وتختلف طريقة الولوج لله، ولتشيعني الكلمات فأكون حية وحُرّة حين أموت، أنا ابنة النخيل الملون بلون الدماء، من داخل بؤرة الشهداء غزة الأبية، أنا المحرومة من لون الذهب في القبة أنا المحرومة من راحة الصلاة في الأقصى، ومن رائحة برتقال يافا، أنا المسلوبة الوطن لا الهوية، فلسطينية يافوية، ولدت على صوت قنبلة ورصاص، ودعت شهداء، وربما أكون غداً شهيداً، فلتُذَكّروا النورس بقصائدي التي رقص عليها، ولتسألوا البحر كم سرقت من مائه حبري، ولا تسألوا الشمس عن عدد المرات التي أخبرتها فيها أنني أغبطها لأنها تتجول حرّة في سماء فلسطين، لا تسألوا الشمس كم مرة أخبرتها أن حَرّها أخفُ وطأةً عليّ من محاولاتي في أن أكتب عن وطنٍ مسلوب، في غزة ترى الدم نازفٌ من عروق الحجر، ونافذةٌ تُطِل على رصاص البحر، تنحني لتمرّ قنبلة، في غزة تمشي بين قنبلتين كل يوم، في الصباح خِلْسَةً نُنشد: أنا ابنة فلسطين وإليها أنتمي وإن علقوني على المشانق لن أنحني وُلِدت حُرّة ..، وُلِدت حُرّة حتى وإن حَجَب العالمُ الصوتِ في نصّي، حتى وإنّ كُبّلت شفتاي، سَأقول القصيدة، وسَتنقل القصيدة صوت صرخة طفل فقد أباه، فَقْدُ روحان في جسد، يبيت الليلة في سرير الفقد، ضيفٌ لليتامى، أُضيف اسم والده للشهداء، بُتِر ذراعه، استَسْلَمَ لناقوس النوم الذي بدأ يدقُ في رأسه بعد يومٍ من البكاء، والعويل، والحرب، والفقد، والاستسلام لدودة الواقع القذرة، وإخبار الناس له بأن الجنة تنادي أباه، أقبل، أقبل، أُحلّت لك دار المُقامة!
ما زلنا نفقد تعريف الحياة، فلَمْ نَعِشْها، كل ما نعرفه عنها أنها نقيضُ الحَرب.
الثلاثاء، ٢٠٢٣/٥/٩