ثقافةمقالات

قراءة في قصيدة خطاب من سوق البطالة للشاعر سميح القاسم

قراءة في قصيدة خطاب من سوق البطالة للشاعر سميح القاسم

بقلم نائل يوسف الشبراوي/ فلسطين

لو نظرنا بداية إلى عنوان القصيدة “خطاب من سوق البطالة”، نرى أننا أمام جملة اسمية توفر فيها الركنان المبتدأ والخبر، ” خطابٌ” المبتدأ، وخبره “من سوق البطالة” شبه الجملة من الجار والمجرور، سوق مضاف، والبطالة مضاف إليه، والسوق هو المكان الذي انطلق منه خطاب المتكلم نحو المخاطب وهو ما ستعرفه عزيزي القارئ في السطور القادمة.

لو أمعنا النظر في مضمون العنوان، سنرى معاناة حقيقة ربما وجدت في بيئة الشاعر، من خلال ذكره لكلمة “البطالة” وهي مشكلة سادت مجتمعه؛ نتيجة لظروف اقتصادية صعبة ومعاناة يتعرض لها الشباب خصيصًا، بفعل محتل غاصب يحاصر وطنهم ويحرمهم من أبسط حقوقهم في الحياة، تلك المعاناة يعبر عنها شخص ما بكلمات انفعالية غاضبة ثائرة، الأمر الذي يدلل على أنها مرتبطة به ارتباطًا كليًا، وتاركة أثرًا نفسيًا عميقًا بداخله، وهذا يدلل على أننا أمام قصيدةٍ خطابية اتسمت بعلو النبرة والصراخ الحاد المتفجر من أعماقٍ كادت تموت كل يومٍ الأمر؛ الأمر الذي دفعها إلى الصراخ والعويل طلباً للرحمة والنجدة لكن يبدو أن ذلك كان دون جدوى.

بدأ الشاعر قصيدته بالحديث عن فقدانه لأبسط حقوق الحياة الكريمة ألا وهو الحق في العمل، وهو ما يشكل مصدر عيش ودخلٍ لكل إنسان؛ الأمر الذي دفعه إلى بيع ثيابه وفراشه، والعمل كحجَّار وكنَّاس في الشوارع، والبحث في روث “فضلات” المواشي لإطعام حيواناته الجائعة، وغيرها الكثير؛ بحثاً عن قوت يومه المرير بكل شقاء وعناء، وهنا إشارة إلى مدى معاناة أبناء الشعب الفلسطيني وحرمانهم من العمل داخل أراضيهم، ودفعهم إلى بيع كل ما يملكونه، والتوجه إلى العمل في الشوارع والحجارة من أجل كسب قوت يومهم المكلل بالقهر والألم الحاد، كل ذلك عبر عنه الشاعر بقوله:

ربما أفقد -ما شئت- معاشي

ربما أعرض للبيع ثيابي وفراشي

ربما أعمل حجاراً وعتالاً وكناش شوارع

ربما أبحث في روث المواشي عن حبوب

ربما أخمد عريناً وجائع

يا عدو الشمس لكن لن أساوم

وإلى آخر نبض في عروقي سأقاوم!!

 

ثم تتنامى وتتفاقم تلك المعاناة بدءًا من فقدانه عمله وصولًا إلى سلب أرضه، وسجنه، وحرق كتبه وأشعاره، وحصاره، وسلب ميراث جده، وشتم أبناء شعبه، وتزييف معالم مدينته، وإطعام لحمه للكلاب وتجويعه، وحرمان الأطفال من فرحة العيد..إلخ، وكل ذلك بفعل مجرم لا يعرف للإنسانية طريق، لكن رغم كل تلك المعاناة التي تعرض لها إلا أنه لم يخضع للمحتل ولم يرفع راية الاستسلام، بل زاده ذلك عزيمة وإصرارًا على التمسك بالأرض والمقاومة والمضي نحو التحرير والجهاد، فبعد ذلك نجد أن تلك المعاناة لم تعد مقتصرة على الشاعر فحسب بل امتدت لتشمل جميع أبناء شعبه؛ لقتلهم في خندق واحد، وهذا ما جاء في قوله:

 

ربما تسلبني آخر شبر من ترابي

ربما تطعم للسجن شبابي

ربما تسطو على ميراث جدي

من أثاث.. وأوان.. وخواب

ربما تحرق أشعاري وكتبي

ربما تطعم لحمي للكلاب

ربما تبقى على قريتنا كابوس رعب

يا عدو الشمس لكن لن أساوم

وإلى آخر نبض في عروقي سأقاوم!!

رغم كل تلك المعاناة التي عاشها الشاعر إلا أن هناك شيئاً لا يفارقه أبداً وهو الأمل والتفاؤل في العودة إلى وطنه والتمسك بالسلاح، إيمانًا منه بأنه طريق الخلاص من هذا العدو الغاشم، وهذا كان حاضراً في النص بقوة وبشكل واضح، وفي ذلك إشارة إلى أن أمل وحلم وانتظار الشعب الفلسطيني قارب العودة إلى أرضه يومًا ما، سيرافقه السعادة والسرور والأهازيج والأناشيد الحماسية، فهو اليوم المنشود في حياة كل فلسطيني، وهذا ما جاء في قوله:

في الميناء زينات وتلويح بشائر

وزغاريد وبهجة

وهتافات وضجة

والأناشيد الحماسية وهج الحناجر

وعلى الأفق الشراع

كما ونلاحظ بأن الشاعر مزج بين الضمير المتكلم المفرد الذي كان حاضراً في البيت الأول، مثل: أفقدُ، أعرضُ، أخمدُ، أبحثُ، سأُقاوم، أوسامُ…إلخ، وبين الضمير المخاطب المفرد الذي كان حاضراً في البيت الثاني مثل: تطعم، تسطو، تحرق، تبقى، تطفئ…إلخ؛ ليرسم لنا لوحة فنية تجلت فيها أبرز معاني الألم والقهر، ليدفع بالقارئ إلى الهبة على المحتل واستنهاض الهمم العربية التي لا تزال في نومٍ وسبات عميق، وكأن فلسطين لم تعد تعني لهم شيئاً.

كما نلاحظ لجوء الشاعر إلى الخطابية غير مباشرة التي اتسمت بالبعد عن التصريح المباشر، فهي تكسب النص قوة ومتانة، وتبعده عن الضعف والركاكة، وتترك فيه نوعًا من الحيوية والحركة، كما أن الشاعر عمل على التقليل من الصور الفنية؛ لأن الإكثار منها في ظل أجواء حماسية قائمة تغمر النص قد يؤدي إلى إصابة النص الهادف إلى غاية معينة بضعف عام.

ونلاحظ بروز الرمزية بشكل واضح في القصيدة على الرغم من قلتها، فكان لها دوراً بارزاً في خدمة النص، حيث رمز الشاعر إلى المحتل بقوله “يا عدو الشمس” فالشمس هنا رمز للحرية، ولكن ربطها بالمحتل يدلل على تقييد العدو للحرية وهذه طبيعة المحتل، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن العدو الذي لا يعرف الإنسانية لا يعرف للحرية مكانًا، أما “عودة بوليسيز” فهي رمز لعودة الإنسان المبعد عن وطنه من المنفى، فهنا تعني عودة الشمس والإنسان المهجَّر إلى وطنه، وهذا ما تمثل في قوله:

إنها عودة بوليسيز

من بحر الضياع

عود الشمس وانساني المهاجر

ولعينيها وعينيه يميناً لن أساوم

وإلى آخر نبض في عروقي

سأقاوم

سأقاوم

سأقاوم

يبدو بأن اللغة الشعرية اتسمت بالسلاسة والبساطة مع المحافظة على كل من معنى ومبنى الكلمة، حيث أنك لا تحتاج عزيزي القارئ عند قراءة القصيدة إلى البحث عن معاني مفرداتها في بطون المعاجم اللغوية، فهي قريبة من القارئ العادي والمثقف، فالشاعر هنا قريب من الجماهير، ملتزم بالتعبير عن قضاياهم وقضية وطنه، يعاني ما يعانون، ويعيش ما يعيشون، فهو يحيا على أمل الخلاص في يوم قادم تتحرر فيه فلسطين من أيدي المحتل، وهذا ما تمثل في قوله: معاشي، شبابي، أطفالي، كنَّاس، شوارع، أعمل، ثيابي، فراشي…إلخ.

كما ونلاحظ توظيف الشاعر للاستعارة -أحد الصور البيانية- وهي ما حُذف منها أحد طرفي التشبيه “المشبه أو المشبه به”، حيث شبه السجن بالحيوان المفترس الذي ينهش شبابه وذكرياته وأحلامه، فذكر المشبه “السجن” وحذف المشبه به “الحيوان المفترس”، وأبقى صفة من صفاته وهي “الافتراس”، وبالتالي تكون هنا استعارة مكنية، ليخرج لنا الشاعر بصورة مؤلمة عن معاناته داخل سجون الاحتلال القائمة على القمع والتعذيب والتنكيل وطمس ذكرياته، وهذا ليس مقصوراً على الشاعر بل على أبناء الشعب الفلسطيني كافة، الذي لا يزال يعيش تحت الاحتلال على مدار ٧٣ عاماً، وهذا كله تمثل في قوله: ربما تطعم للسجن شبابي.

كما ونلاحظ بروز عنصر التكرار في القصيدة بشكل واضح، والذي يفيد التوكيد والإصرار على التشبث بالأرض والمقاومة، وهذا ما أورده في قوله: “يا عدو الشمس لكن لم أساوم – وإلى آخر نبض في عروقي سأقاوم”، والتي قام بتكرارها أربع مرات في القصيدة، وقام بتكرار “ربما” عشرين مرة، جميعها للتوكيد على المقاومة والتمسك بالأرض وعدم التفريط بها عزيزي القارئ.

ويبدو أن الحالة النفسية التي كانت تسود نفس الشاعر عندما كتب القصيدة كانت مشبعة بالهموم والمعاناة والقهر والألم، فكانت ذات نبرة صارخة، فهو لم يعد يحتمل ما يتعرض له كل يوم من قهر ومعاناة وذل وإهانة، وهذا يعكس صورة واضحة عن مدى معاناة أبناء الشعب الفلسطيني في عيشهم، فكل يوم هم يذبحون، ويحصارون، ويُجوَّعون، ويقتلون، ويسجنون في جدرانٍ تنهش شبابهم، وفي ذلك أراد الشاعر دفعهم للهبة الجماهيرية على المحتل من أجل خلق واقع قائم على الكرامة والعدالة، والعيش كباقي الشعوب العالم بحرية وكرامة تامة.

إن هذه القصيدة التي بين أيدينا ذات ألفاظ نارية مشحونة بغضب الشاعر، لكن ليس بغضبه وحده بل بغضب جماهير شعبنا الفلسطيني بأكمله، فاتسمت بعلو النبرة والصراخ الحاد من أجل الاستنهاض على مد يد العون والمساعدة في الخلاص من المحتل، ولكن يبدو بأن العالم كله في نوم عميق أرهقته ملذات الدنيا والتطبيع مع المحتل.

وختاماً يمكننا القول بأن القصيدة اختتمت برسالة واضحة ألا وهي الإصرار على المقاومة وحمل البندقية إلى أن تعود الأرض، والسعي في الخلاص من المحتل، واقتلاع الخيمة رمز الذلة والإهانة، وتصويب البندقية نحو المغتصبين، وبناء دولتنا الفلسطينية عاصمتها القدس الشريف، فنحن أمام قصيدة تجلت فيها أبرز معالم القوة والإصرار والتحدي، ذات الكلمات النارية الخارجة من أعماق مشحونة بالقهر، فالشاعر يحثنا على الاستمرار في القتال والدفاع عن أرضنا واسترداد حقوقنا، وهذا ما عبر عنه في نهاية القصيدة بقوله:

 

سأقاوم

سأقاوم

سأقاوم

زر الذهاب إلى الأعلى