قراءة في قصيدة “خمسون” للشاعر د. زاهر حنني

قراءة في قصيدة “خمسون” للشاعر د. زاهر حنني
بقلم: عباس مجاهد
نظمت القصيدة في عام ١٩٩٨م بعد مرور خمسين عاما من النكبة الفلسطينية، والشاعر في هذه القصيدة يتبع أسلوب القصة، فهو يعرض أحداثا، وأنزل نفسه منزلة الراوي، يقول:
خمسون عاما في ظلال الموت نلتهم العذاب.
ويقول:
خمسون عاما يلهث الجندي خلف رياحنا.
فامتلك الشاعر تقنية التنقل من حدث لآخر، وامتلك القدرة على إعطاء معلومات حول كل ما في قصة الفلسطيني بكلمات قليلة، فشكلت القصيدة صناعة أحداث النكبة المؤثرة في نفس المتلقي.
وكثرت في القصيدة الإشارات الرمزية الدالة على الثبات والمقاومة، وعدم الخنوع للآخر: “الصنوبر، البطل الملثم، عواصف الأشبال، أنا الفلسطيني، يسوع، عاصفة الرجوع…”
والشاعر أحسن اختيار موضوعه، وأضفى عليه معنى جديدا حيّا قدمه في صور حسية وذهنية، فإن كان موضوعه النكبة، لكنه أضفى عليه وعيه ورؤيته العقلية المنطلقة من الواقع في عدم التنازل عن أحقية الفلسطيني بأرضه، وقدم هذا من خلال الصورة، فالصورة علاقة بين الذات المبدعة والموضوع، وإبداعه تكون في إيجاد التجانس بين طرفي العلاقة…، يقول:
يلهث الجندي خلف رياحنا
وعواصف الأشبال والبطل الملثم.
فجعل الجندي الذي يمثل المحتل يلهث، وهذه صفة للحيوان، بينما جعل للفلسطينيين رياح، والريح غير محمودة بينما الرياح محمودة في قاموسنا العربي، فالريح تحمل الشر، والرياح تحمل الخير، وجعل الشاعر للأشبال رغم صغرهم عواصف، وكأن الصور أينما حلت في القصيدة هي التي تسيطر على الأغوار النفسية عند الشاعر، وهي التي تمثل الإيحاء والتعبير غير المباشر عن كل الجوانب المستترة في الذات الشاعرة، فالشاعر يعبر عن شخصيته الثورية بطريقة غير مباشرة، وفي الوقت نفسه جسدت الصور عواطفه من دون الإعلان عنها بصورة ذاتية.
استطاع حنني في قصيدته إنشاء صلات لغوية ناجحة بين المفردات، ومما زاد من جمال المفردات المفردات الحاضرة في صوره الشعرية، وهذا الانتقاء يفصح عن قدرة الشاعر اختيار ألفاظه المناسبة للسياق الفكري الثوري والمقاوم عنده، واتسمت لغته بالتكثيف والتركيز والإضاءة ورصد أبعاد التجربة الشعرية، فهو اختار لنفسه معجما شعريا يناسب تجربته الشعرية الداعية للمقاومة رغم مخلفات النكبة وآلامها، يقول:
خمسون دهرا يا يسوع
خمسون مجزرة
ونهتف لا خنوع.
فالقناع التراثي “يسوع” هو في القصيدة رمز العودة، فإن كان يسوع وهو من أولي العزم سيعود في آخر الزمان، فقد شكل في القصيدة الفلسطيني الذي هجر من أرضه جراء النكبة، ولكنه رفض الذل والخنوع والتراجع والسقوط، فالقناع عند حنني واستحضاره في هذه القصيدة يشكل العودة والأمل المتجدد الذي لا يموت، يقول:
ونحن نهتف لا تراجع
رحلة المقهور (لا)
لا تنتهي إلا بعاصفة… الرجوع.
فالقناع يسوع هو رمز ديناميكي، فقد خلق الكثير من الدلالات والرؤى، لعلها تختلف من متلق لآخر، فالاستعمال الجيد للقناع هو قدرة الشاعر على التأثير في المتلقي، ففي قصيدة “خمسون” امتاز القناع بالفاعلية، ففيه كثير من الإشارات والتعددية الدلالية.
وإن الشاعر الحق الذي تتضح في نفسه تجربته، ويقف على أجزائها بفكره، ويرتبها ترتيبا قبل أن يفكر بالكتابة، وحنني يعبر عن تجربته بما فيها من صراع داخلي حيال القضية الفلسطينية ونكبة فلسطين، فالشاعر الناجح هو الذي يعبر عن تجربته في حسن اختيار الألفاظ وأن يستعملها بنجاح، وحنني لغته امتلكت طاقة شعرية بقدرته الذاتية، يقول:
خمسون عاما…يا فلاسفة الركوع
لا لم تكن خمسين عاما
إنما خمسون قرنا
واستمرت رحلة القهر المعشعش في الضلوع.
فهو حمل مأساة النكبة في نفسه وذاكرته، وصورها في قصيدته بألفاظ بنى منها وطنا من الكلمات، فأحسن من صياغة ذاته الداعية إلى تغيير الواقع رغم طول المدة من المعاناة التي لم يركع فيها الفلسطيني أينما تواجد، فإن سكن القهر ضلوعه وجسده، ما زال لسانه يهتف لا للذل والخنوع.
وإن كان للبشر منذ القدم ملاحمهم التي كانت خيالا وأساطير، وتحول أبطالها إلى رموز للشجاعة، ومواجهة الأمور العظيمة، فالشاعر حنني صاحب ملحمة حقيقية، فهو في القصيدة يمثل كل بطل فلسطيني أينما تواجد في رحلة ثباته رغم النزوح والهجرة، ورغم تكالب الكل عليه في الخمسين عاما التي سبقت نظم القصيدة.
ونص القصيدة:
خمسون عاما في” ظلال” الموت نلتهم العـذاب
خمسـون عامــــا ( لا عتـــــاب )
خمسون عاما ينحني شجر الصنوبر في العروق
وفي الذهــاب ولا إيــــاب
خمسون عـامـا .. يـا ريـاح الشرق هبي
للرجوع وللخشوع ولا غيــــاب
كبرت حقول الشوك في الزمن اليباب
وغدا الزمان اليعربي يسير في خطين مكسورين
يهوي ثم يهوي ..والضباب هو الضباب
… … …
خمسون عاما ظل ينتقم الجبان
خمسون عاما ظل يحلم بالأمان.. ولا أمان
خمسون عاما يا جهنم
خمسون عاما .. زور التاريخ.. والتاريخ معلم
خمسون عــامـــا كــان يعلم
خمسون عاما .. يلهث الجندي خلف رياحنا
وعواصف الأشبال والبطل الملثم
خمسون عاما ينسلون لخبزنا ولزيتنا
من برتقال الجنة الخضراء .. للدمع الميتم
… … …
خمسون عاما ، ملء أفواه الثعابين
تذوي الحياة ونرتجي عفو الشياطين
وأنا الفلسطيني ..
أقول : أنا الفلسطيني
… … …
خمسون عاما ..؟ ! يا فلاسفة الركوع
لا لم تكن خمسين عاما
إنما .. خمسون قرنا
واستمرت رحلة القهر المعشش في الضلوع
خمسون دهرا يا يسوع
خمسون مجزرة
ونهتف لا خنوع
نجتر ذل القهر تسقط من جوانحنا الدموع
ونحن نهتف :لا تراجع
رحلة المقهور ( لا )
لا تنتهي إلا بعاصفة .. الرجوع