ملفات اليمامة

الناقد عبد الرحيم حمدان يكتب “لملفات اليمامة”: قراءة في نموذج من المجموعة القصصية “ممنوع الدخول يا حضرة…”

قراءة في نموذج من المجموعة القصصية (ممنوع الدخول يا حضرة…).

للكاتب أ. عبد الحليم يوسف أبو حجاج

إعداد: د. عبد الرحيم حمدان 

“ممنوع الدخول يا حضرة…” مجموعة قصصية من تأليف ا. عبد الحليم يوسف أبو حجاج صدرت حديثاً عن مكتبة “كل شيء” بحيفا ٢٠٢٣م، وقد أهداها الكاتب للسيد مرزوق الغانم ؛ رئيس مجلس الأمة الكويتي ، وتقع في مئتين وإحدى وتسعين صفحة من القطع المتوسط، وتضم اثنتي عشرة قصة، تنوعتْ مضامينُها وأفكارُها، وتناولتْ في مجملها حكاياتٍ ترصد معاناة الإنسان الفلسطيني، والوجع الإنساني، وواقع الحياة المعيش في ظل ظروف قاسية تستعصي على اللبيب، وما يعانيه من واقع الغربة والتشرد والشتات الذي فرضه ذلك الظرف على الكثير من أبنائنا، ممن دفعوا ثمنه من دمائهم، وقوت أهليهم، بحثاً عن متنفس، أو فرصة يحققون من خلالها شيئاً من أحلامهم، التي ديست تحت وطأة الاحتلال، وما تبعه من مجريات وأحداث.

قرأتُ المجموعة القصصية بتمعنٍ، وشدتني بعض القصص فيها، والتي تعبر عن تجاربي التي مررتُ بها في حياتي، إذ كانت في مجملها قصصاً واقعية صادقة، سواء في البنية أم المضامين؛ الأمر الذي جعلني أرى أن الكاتب قد اطلع وتأثر بجيل الرواد الذين كتبوا القصة القصيرة من أمثال الأديب يحيى حقي وغيره.

ستتناول هذه الدراسة القصة القصيرة الأولى التي تحمل عنوان المجموعة، فعتبة العنوان تغدو تعبيراً مختزلاً وافر المعنى، ويمثل التعبير الأمثل داخل الكيان القصصي؛ بوصفه شكلاً من أشكال البلاغة التركيبية للمعنى العام.

تدور  أحداث هذه  الحكاية حول مدرس فلسطيني وزوجه وطفلهما الرضيع وصلوا إلى مطار القاهرة يرغبون في دخول مصر، وبعد انتظار طويل في المطار، ومشقة بالغة يُسمح لهم بالدخول إلى أرض مصر.

من الملاحظ أننا إزاء كاتب يميل إلى شكل الحكاية، باعتبارها الجدة الكبرى للقصة القصيرة، فغالبية القصة تنويعات على ذلك القالب الحكائي الأثير.

تعالج هذه الحكاية حدثاً من الأحداث التي تجري للمواطن العربي على يد رجالات الأنظمة العربية في مطار القاهرة الدولي من السماح لجميع الجنسيات بالدخول إلى أرض مصر فوراً على اختلاف أعراقهم وألوانهم وجنسياتها باستثناء الفلسطينيين – حاملي وثيقة السفر الفلسطينية – الذين يحتاجون إلى الانتظار ساعاتٍ طوال؛ حتي يُسمح لبعضهم بالدخول من مطار القاهرة، كان ذلك زمن الرئيس المصري الراحل أنور السادات .

وعلى الرغم من استقلال كل قصة منها، منفردةً، بأجوائها الخاصة بها سردياً، فإنها تضمر خيطاً سردياً رقيقاً يربط بين قصص المجموعة أو غالبيتها، ويجعلها أقرب ما تكون إلى لون من السرد الروائي.

ومما يزيد من جماليات تلك الحكايات أن الكاتب استطاع أن يرصد واقعاً فلسطينياً من وجهة نظره ككاتب، وأن حكايته تجعل القارئ يتفاعل معها، وكأنه جزءٌ منها، وجرى معه ما جرى مع السارد من وقائع.

وربما تحمل الحكاية في طياتها سيرة ذاتية لبعض القارئين، إذ عبّر الكاتب بكثير من المرارة والصدق عن قضية الحكاية فيما كتبه من هذه القصص، فجعل المتلقي يتعاطف مع شخوصها من المقهورين والمهمشين والمعذبين في هذه الأرض الجحيمية . وكان الهدف منها توجيه اللوم والنقد  وتعرية تلك الأنظمة التي تنظر للإنسان الفلسطيني نظرة غير إنسانية؛ بوصفه – من منظارهم- سبباً من أسباب مأساة العرب ومعاناتهم .

بعض مكونات الخطاب القصصي في المجموعة:

وُفق الكاتب في استخدام عدد من التقنيات الفنية التي كان المقصود بها إحداث تراكم نفسي لحياة الشخصيات مع الحدث والواقع المباشر؛ لتقدمَ رؤية شفيفة راصدة وواعية للواقع المعيش، وتحدث نوعاً من التواصل والتلاقي مع المتلقي، تاركةً لهذا الأخير تفاعله مع النصوص بحرية وتواصل دائم.

لقد كان أسلوب الكاتب في بناء قصته أسلوباً متماسكاً، وكانت أحداث روايته متسلسلة متدفقة لها بداية ووسط ونهاية، وكأنها حلقات يأخذ أحدها برقاب الأخرى، يقول السارد في القصة رقم (1) التي جاءت تحت عنوان:(ممنوع الدخول يا حضرة …).

هبطتِ الطائرةُ أرضَ مطار القاهرة الدولي، ونزلنا – أنا وزوجي وطفلي الرضيع صالة الوصول، عبأنا البطاقات بالبيانات المطلوبة وسَلَّمناها مع جوازات السفر (وثائق السفر الفلسطينية) لضابط مصلحة الجوازات في شُبَّاك رقم(7)، فأشار بيده يطلب منا الجلوس والانتظار، فجلسنا في الصالة على مقاعد بلاستيكية ننتظر ردًّا بالموافقة على دخولنا مصر، وكان الوقت عصرًا ليوم من شهر يونيه/ حزيران١٩٧٨م”  (المجموعة، ص:7).

نجح الكاتب -أيضاً- في استخدام تقنية وصف المكان لا سيما وصف مطار القاهرة الدولي من الداخل، يقول:

“المطار مجموعة خلايا حركية نشطة، تسمعها تُدوّي بغَمْغَمَات، وتَيْزُ بأصوات تفرض عليك الشعور بهيبة المكان ورهبته، فالخروج بنظام والدخول بنظام رغم كثرة الطائرات التي تَعرُجُ إلى السماء، وأخرى تهبط على الأرض، فتَخرُجُ من بطونها أشكالٌ وألوانٌ من البشر تغدو وتروح في حركة دءوب، ونحن جلوس على المقاعد البلاستيكية ننظر وننتظر ونتحسر)”  المجموعة، ص:7 ).

يبدو أنّ للكاتب قدرةً بارعة في تصوير المكان، حتى إن القارئ يشعر أن الوصف المكاني مقصود لذاته،  وهي صور تنبض بالحياة والحركة، وتساهم في تطوير الحدث ونموه، إنّ وصف الكاتب للمطار يؤدي دوراً مهماً في نمو الحدث أو استكناه الفكرة أو توضيح الموضوع أو استكشاف المغزى العام للقصة.

المتأمل في هذه المجموعة يكتشف أن الكاتب في أسلوبه لا يعدو كونه أحد تلاميذ الكاتب يحيى حقي في كتابة القصة القصيرة([1])، وكأنه تخرج من تحت عباءته، فهو صاحب الأسلوب الوسطي البسيط، وقد حقق المعادلة في التمكن من استعمال اللغة العربية الفصيحة، واستخدام العامية في مكانها المناسب، وكان لإبداعه الأدبي قيمة فنية وفكرية وجمالية.

وقد خرجت هذه المجموعة القصصية في لغة متميزة في إيقاعها وتراكيبها، متوهجة بالمشاعر والأحاسيس، متدفقة بالحركة، نابضة بالحياة، ذات قدرة فائقة على الإيحاء والتجسيد، والتأثير في المتلقي،  من حيث جمال الصياغة والسبك، ومتانة الأسلوب، وحسن الديباجة، كما تميز أسلوبه القصصي بفيض من المشاعر والخلجات، يتلمسها المتلقي من خلال التجارب البسيطة التي استوقفت نظره، وقد تبدى ذلك في الوسائل والأدوات الفنية التي وظفهاُ؛ لينقل للقارئ تجربته القصصية.

استعان الكاتب باللغة الفصيحة في السرد والوصف، ولكنه نحا في الحوارات – في قصته هذه -صوب استخدام اللغة المحكية لغة الحياة اليومية المصرية؛ الأمر الذي يجعل مَنْ يجهل هذه اللغة يجد صعوبة في فهم ما يريد أن يوصله الكاتب، على الرغم من محاولات الكاتب تفسير بعض الكلمات والمفردات مصرية النطق  ووضعها بين قوسين مثل:

حيس كده بأه، ابنك مش أعز من يوسف السباعي. اللي أتلتوه (قتلتوه).

وفي موضع آخر يقوم بشرح بعض المفردات المصرية العامية، فيقول:

وضعت كفي على جبهته، فكانت حرارته مرتفعة جدًا، فرشنا له ملحفته الصغيرة على البلاط، وكشفنا عنه غطاءه، وذهبت فأحضرت زجاجة ماء وأخذتُ أبلل محرمتي (منديلي) بالماء وأعصره، ثم أمسح وجهه ورأسه؛ لتبريد جسمه( المجموعة، ص: ١٧).

والمتأمل فيما قاله الكاتب في هذه القصة يكتشف حرصه على اللغة البسيطة السهلة المطعمة أحيانا ببعض المفردات أو التعبيرات العامية أو بالحوار العامي، فضلاً عن غني اللغة وثرائها، فهي تمتاح من منابع تراثية لا سيما القرآن الكريم بأسلوب فني غير مباشر، بحيث تذوب النصوص القرآنية في السياق، وتتفاعل معها، وتغدو جزءاً منها، ولا يدرك معناها إلا من يحفظ تلك النصوص القرآنية، ومثال ذلك قول السارد: “…فتخرج من بطونها أشكالٌ وألوان” فهذا النص مستوحىً من قوله تعالى عن النحلة: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ (النحل: بعض آية ٦٩ ).

وقول السارد: “وما كدنا نتنفس الصعداء، عند هبوطنا أرضها حتى خاب مسعانا”.

وهذا النص مستوحىً من قوله تعالى: اهْبِطُوا مِصْرًا، فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ(البقرة: بعض الآية١٤٤)، وقول السارد: و”كشفنا عنه غطاءَه”(المجموعة، ص:١٧)، هذه العبارة مقتبسة من قوله تعالى: “لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ، فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ” (ق: بعض الآية٢٢)، وقول السارد: “وسكت كلانا عن الكلام”، وهذا الكلام مأخوذ من قصة ألف ليلة وليلة، إذ ورد فيها: “عند بزوغ فجر الليلة الأولى بعد الألف، صاح الديِّك معلِنا بأن الصباح قد لاح، فسكتت “شهرزاد” عن الكلام المُباح”(المجموعة، ص: ٢٨).

وقول الكاتب: “وفي الصباح، بكرنا بكور الطير، نستقبل الفجر” (المجموعة، ص:٢٩)، يقيم الكاتب هنا تناصاً واضحاً مع بيت الشاعر إبراهيم ناجي([2]):

شباب إذا نامت عيــتـــون،  فإننا

بكرنا بكور الطير نستقبلُ الفجرا.

ومن الأمثال الشعبية التي وظفها الكاتب في متن حكايته المثلُ الشعبي القائل: ” البلاء عام، والرحمة تخصص”، (المجموعة ص: ٢٢ )، والمثل الشعبي الآخر الذي يقول: “ويا مَا كَسَّر الجمل بطيخ” (المجموعة، ص: ٢٣)، وقد جاء هذان المثلان الشعبيان مندغمين في الحوار ومتماهيين مع السياق.

إن مثل هذه المتناصات تكشف عن غزارة ثقافة الكاتب وعمقها، واتساع مخزونه المعرفي.

ومن خصائص لغة القصة؛ جنوحُ الكاتب لاختيار الكلمة الموحية، وانتقاء العبارة بما يناسب السياق؛ حتى يشعر المتلقي أن اللفظ عنده ثمرة إحساس، وتفكير طويل، مع الميل إلى التصوير الفني: التشخيص والتجسيد؛ لذا، فإنه يحرص على تصوير ما هو موجود فعلاً، بكل تفاصيله، ولو كان الأمر غير ذلك؛ لعبّر عما يحبه ويرضى من خلال نظرته وتفسيره وتحليله للواقع الخارجي من خلال إحساسه به.

إن التعبير بالصورة في هذه القصة قد أضفى لمسات من شاعرية التعبير على أسلوب القص، فالكاتب المبدع تمكن من إيصال الرسالة للمتلقي من خلال نصوص قصصية تعتمد على التكثيف والفنية، وجمالية اللغة وبلاغتها ، يقول السارد:

“الطائرات التي تَعرُجُ إلى السماء”، فبدلاً من أن يقول” الطائرات التي تَصعد إلى السماء“،  فضَّل الكاتب توظيف التعبير المشار إليه أعلاه، والمستمد كذلك من النص القرآني الذي أضفى عليه مسحة من القداسة والطهر()؛ وذلك لإضفاء جمالية على اللغة؛ لشّدِ القارئ إلى المقروء، وجعله يتخيل الوضع الذي توجد فيه الشخصية، وعليه، فإن أول ما تزدهر به النصوص الموجودة بين دفتي هذه المجموعة؛ قوةُ لغتها في تصوير المشاهد، ورسم الشخصيات في أقل الكلمات الممكنة، وتتميز علاوة على ذلك بوحدة الحدث، وهي خاصية أساسية من خصائص القصة القصيرة التي ينبغي أن تشتمل على فعل وحدث واحد فقط. فاللغة الشعرية التعبيرية عنده تتكئ على المجازات من استعارات وأخيلة، يقول:

عُدنا إلى شواطئ صمتنا، وانشغال فكرنا، وأطرق كلٌّ منا يحادث نفسه ويتجرع القلق من نهر الانتظار. وأخذت ألوك أفكاري المُعتمة“(المجموعة، ص: ١٥).

وقد حالف التوفيق القاصّ باعتماده في حواراته على الجملَ ذات النفس القصير؛ لأنها كانت الوسيلة الأنسب لاستيعاب ما تنوء به ذاته من هموم ثقيلة مؤرقة، وما يمتلئ به واقع الإنسان من مآسي ، تحتاج إلى حيز لغوي أرحب للتعبير عنها.

وقد استعان الكاتب بتقنية الحوار الداخلي الذي كان يدور في خلد السارد حرصاً منه على التحليل النفسي، وقدرة لغة السرد على الكشف عن مكنونات النفس وما يجول في خواطر شخصيات القصص، يقول محاوراً نفسه:

 “أبَعْدَ كل هذا العناء، وهذا التعب ستغلق مصر أبوابها أمامنا ونرجع عنها مطرودين؟ أبعد كل هذا التطواف بالطائرات والمرمطة في المطارات لن يُسمح لنا دخول مصر ؟ والله كارثة، مصيبة. لا … ليس من المعقول أن ترفضنا مصر ، وهي طول عمرها عبر التاريخ مأوى لأبناء السبيل، وموطن اللجوء الآمن لكل الهاربين من ظلم الحكام، وملاحقة الاستعمار”(المجموعة، ص: ١٥).

إن أسلوب الكاتب – إجمالا – هو أسلوب واضح، وبعيد عن الغموض والتعقيد.

وقد وظف تقنية الحوار الخارجي، ومن أمثلته ما دار من حوار في مطار القاهرة بين اثنين من الفلسطينيين، جاءا؛ ليدخلا مصر، بدأ أحدهما الحوار قائلاً:

– اعتقد إنو كل الموجودين في الصالة فلسطينيين. 

فأجبته بلا اكتراث، وكأن الأمر لا يعنيني: 

– هو في ناس تعساء مغضوب عليهم غيرنا؟ 

– عارف يا أستاز، لو رجعونا تبقى مصيبة. 

– تفتكر ممكن يرجعونا؟

 – مَبِيدَخُلُوش إلَّا اللي معاه خروج نهائي من البلد اللي جاي منها. إنت جاي من وين؟ 

– من ليبيا. 

– وانت؟ 

– من البحرين. 

– ربنا يستر. 

وساد بيننا صمت كئيب، فضضتُّه متسائلاً : 

– وين كنت تسكن في قطاع غزة يا باشمهندس؟

 – في مخيم الشاطئ

 – وانت؟

– في مخيم النصيرات.

– أنعم وأكرم.

والحوار الخارجي هو الذي یدور بین شخصیتین أو أكثر في إطار المشهد داخل العمل القصصي بطریقة مباشرة، وأطلق علیه بـ (الحوار التناوبي) ، أي الذي تتناوب فیه شخصیتان أو أكثر  بطریقة مباشرة إذ إن التناوب هو السمة الإحداثیة الظاهرة علیه وتربط المتحاورین وحدة الحدث والموقف([3]).

في هذا النموذج نجد الحوار الممتد بین اثنين من الفلسطينيين في مطار القاهرة، والذي لیس فیه رؤى خاصة أو عمیقة بدلیل سرعة ردة فعل المحاور، وكانت إجابته بطریقة مباشرة عن تساؤلات رفيقه.

ينفتح المقطع الحواري السابق على حوار درامي متدفق، يقدم معلومات جديدة، ويكشف ما جاء من عبارات سردية تتخلل الحوار عن منح السياق أبعاداً وأعماقاً ذات دلالات اجتماعية وفنية. لقد طالت الحوارات في الحكاية؛ الأمر الذي يجعلها تثقل كاهل القصة القصيرة ، بيد أنها جاءت هنا موظفة توظيفاً جيداً مكثفة، لا زيادة فيه على متن الحكاية ولا نقصان، وتساهم في نمو الأحداث وتطورها.

عبّر الحوار في المقطع السابق عن الحالة النفسية التي كانت تعيشها الشخصيتان من الشعور بالقلق والتأزم والاضطراب، فضلاً عما يؤرق ويبعث على السخط والحزن والألم واليأس والرعب ، والإحساس بالضياع والعبث وقسوة الحياة.

ومن التقنيات الفنية التي استعان بها الكاتب في بناء أسلوبه؛ تقنيةُ التذكر، التي يسترجع القاص فيها بعض ذكرياته، يقول السارد مستذكراً أيام الماضي:

“وارتفعت بي أجنحةُ الخيال إلى شرفة أخرى تمكنني من أن أرى بعين التذكَّر ما لقيناه وتجرعناه من عذابات السفر والترحال في ديار الغربة .

 وفي موضع آخر يتذكر، بعض الأحداث الماضية حرصا منه على الوحدة الزمنية في الحكاية.

فيقول: “وسرحتُ ممتطياً صهوة خيالي، فوجدتني أرقى إلى شرفة تطل على صور القهر، ومشاهد الظلم التي عشناها. يا إلهي ما أفظعَ حياةَ الوحدة! وما أصعبَ العيشَ مع أناس: إما ينظرون إليك بعين العطف والشفقة، أو يحتقرونك ويستضعفونك؛ لأنك غريب” (المجموعة، ص ١٥).

يتجلى في تقنية التذكر أسلوبُ الكاتب واضحاً، والذي جمع بين جمال الصياغة والسبك، وروعة الفكرة والإحساس المرهف، مع الاهتمام بإبراز معاناة الفلسطينيين في شتى الميادين لا سيما السفر والارتحال وما ينجم عن  شعور، بالقلق والاضطراب والترقب؛ الأمر الذي أضفى على المتن القصصي سحرًا فريدًا. ويلحظ القارئ سلامة لغة المؤلف من الأخطاء اللغويَّة نحوًا وإملاءً في وقتٍ أصبحت هذه الأخطاء قاسمًا مشتركًا يشوِّه كتابات بعض من الكتاب.

إنَّ عناية المؤلف باللغة وصلت إلى حرصه على كتابة علامة (الشدَّة)، وكتابة علامات (التنوين)؛ الأمر الذي يتناساه كثيرٌ من الكتَّابِ بالرغم من أنَّه من مقتضيات اللغة العربية عند كتابتها، فضلاً عن توظّيفه لعلامات الترقيم المتنوعة توظيفًا ذكيًّا، جعل منها فاعلةً في البناء القصصي، مُعِينةً له في تحقيق شرط التكثيف، فقد وفَّرت عليه استخدام كثيرٍ من الكلمات، وعبَّرت عن تتالي الأحداث، ونموها، ومثال ذلك يجده المتلقي في قوله:

“ترکتْ سيادةَ العقيد في حيْرة من أمرها، واتجهت تخطو نحو زوجها ووليدها، وهي تتمتم بصوت عال: – أمال فين شعارات القومية والوحدة العربية ومصر أم العروبة؟! وفين الأغاني الوطنية: «يا فالسطين جينالك!» و «إلى فلسطين خدوني معكم». ثم سالت من بين شفتيها ابتسامة ساخرة، وعقبت):

يبدو كله كان كلام في كلام .

اخترقت كلماتها أُذُنَي الضابط الكبير، فطأطأ رأسه مُغضَبًا، ورَدّد في همس شدید:

ملعون أبو “كامب ديفيد” (المجموعة، ص ١١ ).

لم يكتف القاص بتوظيف علامات الترقيم لخدمة غرضه، بل مضى قدمًا، ووظف تقنية الفراغ (كلمات فارغةً) دالةً على كلامٍ مفقود أو أحداثٍ مسكوتٍ عنها تستبين من خلال ما قبلها وما بعدها، أو من خيال المتلقي؛ لما يحتمل أن تكون، ومثال تقنية الفراغ قول الكاتب:

– أنتَ من فين يا….؟ 

– وكذلك عنوان الحكاية: “ممنوع الدخول يا حضرة …”( المجموعة ص 8).

اعتمد الكاتب كذلك على تقنيّة المفارقة في بناء الشخصيات والموضوعات والصور الوصفيّة والسرديّة والنسيج اللّغوي والبناء الفني. وكانت المفارقة عنصرًا تكوينيًّا مهمًّا من عناصر الكتابة، إذ ليس من حياة بشريّة أصيلة ممكنة من دون مفارقة، أمّا على صعيد جماليّات التلقّي، فإنّ قوّة المفارقة تتجلّى من خلال المتعة التي تولّدها مفارقة الشخصيات، فبعض الضباط يتصفون بالتعاطف مع المسافرين، ويُقَدِّرُون ظروفَهم، وبعضهم الآخر يتصف بالتعالي والحقد عليهم، كذلك تتجلى في المفارقة بين موقف مصر من الفلسطينيين قديماً وحديثاً .

ومن مظاهر المفارقة في الخطاب القصصي قول الكاتب في حوار داخلي يبرز فيه حنينه إلى  مصر متذكراً الأيام  الحلوة التي ربطته بها:

“الله يرحم أيام زمان لما كُنا نسافر بالقطار من محطة غزة إلى بوابة الحديد بالقاهرة مباشرة.

ويرحم أيام زمان لمَّا كُنَّا في مدارسنا نهتف لمصر مثل هتافنا لفلسطين بالعودة والحرية والنصر المبين، ونهتف بحياة عبد الناصر زعيم العرب”  (المجموعة، ص: ٢٨ ).

إنّ توظيف تقنية المفارقة يدفع المتلقي إلى الاستنتاج بأنّ وظيفتها تختلف من نصّ إلى آخر فهي أحيانًا تُعيد إلى الحياة توازنها، لكنّها في أحيان أخرى قد تُقلق ما هو شديد التوازن في نهج الحياة.

الخاتمة:

على الرغم من أنها تعدُّ مجموعته القصصية البكر، وَفقًا لمحتواها؛ قصص قصيرة، فإنَّها تبشر بقدوم مبدعٍ بقوةٍ له حظه الوافر من الموهبة والمهارة والمعرفة بفن السرد، يحتاج فقط إلى طرق موضوعاتٍ أكثر تنوعًا وعمقًا، ومعانقةً للهمِّ الإنساني عموماً، ولعلَّه يثري تجربته أكثر بالاطلاع المكثف على النتاج الإنساني العالمي في هذا المجال. والواقع.

  • نبذة عن الكاتب:

هو/ عبد الحليم أبو حجاج كاتب فلسطيني معاصر، من مواليد صُمِّيل الخليل، 1946، يقيم في النصيرات بقطاع غزة . أصدر روايتين،  هما: السَّبِيَّة 2010، واليتيم2016م.

[1] ) يحيى حقي ولد 1905م – وتوفى1992م، كاتب وروائي مصري، ورائد من رواد القصة القصيرة.   ويعد من كبار الأدباء المصريين في مجاله الأدبي نشر أربع مجموعات من القصص القصيرة، ومن أشهر رواياته قنديل أم هاشم، وكتب العديد من المقالات والقصص القصيرة الأخرى (ينظر: يحيى حقي – ويكيبيديا https://ar.m.wikipedia.org)

[2] ) ديوان إبراهيم ناجي، إبراهيم ناجي، العودة ، بيروت ، 1980 ص45  .

[3] ) ینظر: غائب طعمة فرمان روائیاً ، فاطمة عیسى جاسم ،دار الشؤون الثقافیة العامة ، بغداد ، 2005م،  49.

زر الذهاب إلى الأعلى