نصوص

قصة قصيرة: سرقة 

قصة قصيرة: سرقة

بقلم: صفاء حميد

القاعة موضبة بعناية لكن بحدة، الإضاءة ممتازة، كل شيء نظيف ولامع، أما الوجوه فبعضها صارمٌ جداً وبعضها الآخر متشكّك، وجه واحد فقط كان يفيض أسى، كان هذا هو وجه أسيل، الفتى الذي جرّه البستاني من أذنه مسافة كيلومتر كاملة ليلقي به قرب طاولة القاضي، في قاعة محكمة القرية المصغرة و دائمة الانعقاد أيام الآحاد والخميس.

هناك حيث رفع أسيل عينين سوداوين صغيرتين كعينيّ عصفور وحادتين كعيني ثعلب، ليبصر في أيّ هاويةٍ أودت به يداه، شاهد القاضي، الرجل الموقر الذي طالما تجنب العبور إلى جانبه في الطريق، يجلس إلى يمينه شيخ القرية بلحيته البيضاء الطويلة، وعمامته التي تندر عليها أسيل كثيراً حين كان في الكتَّاب، وإلى جانب الرجلين، يجلس رجل ثالث، يرتدي بذلةً رمادية داكنة، ويضع نظارتين دائريتين، وينظر دون أن يكون لنظره اتجاه محدد.

عرف أسيل فوراً، أنّه وقع أخيراً في براثن القانون، وأنّ يد رجب المقطوعة التي رافقته في كوابيسه ردحاً طويلاً من الزمن، قد تصير اليوم يده هو.

رجبَ، الذي أمرت المحكمة بقطع يده، حين سرق دلوَ حليب، هل سيكون أسيل اليوم، رجب آخر!

بصوتٍ مفعمٍ بالاتهام، قال البستاني مشيراً إلى أسيل، لقد رأيته يا سيدي يسرق وردة من بستان المختار، رأيته بعيني، تبعته لكنه غاب عن نظري، لكنّني جادٌّ جداً في أمور البلد يا سيدي، لذلك عثرت عليه مجدداً، وأحضرته إليك.

تحول نظر القاضي مباشرةً إلى أسيل، الفتى ذي الاثنتي عشرة سنة، الواقفُ مرتعداً في وسط قاعةٍ تعجُّ بالبالغين، ذوي العيون اليابسة.

-هل ما يقوله البستانيّ صحيح:

-لا.

أجاب أسيل دون تفكير، دون أن يسمع السؤال حتى، فليس في ذهنه الآن إلا يد رجب المقطوعة.

كرّر القاضي سؤاله بصوت أكثر ارتفاعاً وأقلّ رقة:

-هل ما يقوله البستاني صحيح؟

أيقظت هذه النبرة الشديدة أسيل من أفكاره، استحضرت له الشهرين الفائتين، صوت الحلاق وهو يلقي به خارجاً صارخاً في وجهه: أنت كسول وصامت أكثر مما ينبغي لتعمل في الحلاقة، اذهب واعثر لك على عمل آخر.

صوت والده المبتهج، حين عاد له في آخر اليوم حاملاً تسع قطع نقدية كاملة.

وصوته المبتهج في كلّ يوم تلا هذا اليوم، بما يحمله له أسيل من مال.

تذكر أول مرة وقعت عيناه على نور، في موقف الباصات، كانت أجمل شيءٍ رآه في حياته، تذكر ضحكتها الصاخبة، حين أخبرها باسمه، وتذكر مسحة الأسى التي علت وجهها حين أخبرها، أن والده كان في المدينة حين أبلغوه على الهاتف بولادة طفل له، فأسماه أسيل دون تكلف عناء التأكد هل طفله العاشر هذا ذكر أم أنثى.

تذكر جلوسهما معاً، مستمتعين بحديث طويل، بعد أن يكون قد نشل محفظة أو حقيبة تؤمن له المال المقدم لوالده حتى آخر الأسبوع.

-هل ما يقوله البستاني،صحيح؟

يصرخ القاضي هذه المرّة، فيوقظ أسيل من غوصه في الذاكرة.

-لا، يا سيدي.

أجاب أسيل وهو يحاول جاهداً، محو ضحكة نور من رأسه، حين قدّم لها الوردة التي قطفها خلسةً من بستان المختار، قبل أن يغيب في سلسلةٍ أخرى من ذكرياته.

أما البستاني فانتفضَ صارخاً: إنه يكذب، لقد سرقها رأيته بأم عيني، من يسرق وردة سيسرق بستاناً، يا سيدي يجب أن لا ينجو بفعلته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى