مجتمع

قناديل في الظلام

قناديل في الظلام
بقلم: خالد جهاد 

برغم مظاهر التطور التي تغرق فيها مجتمعاتنا إلا أنها ما زالت شكلية وتراوح مكانها في الكثير من الأحيان، ومع أن بعض المفاهيم تتغير ببطىء لا يتناسب مع حجم التغير الهائل الذي طرأ على العديد من الجوانب المتعلقة بنمط الحياة والثقافة التي يعتنقها الأفراد، ولا يتناسب مع حالة التماهي الواضح مع كل ماهو غربي، إلا أن نقاطاً عديدة ومفاهيم أساسية تحتاج إلى نسفها والبدء في تشكيلها من جديد بشكل ٍ صحيح، واقعي، علمي، مدروس، متزن، وبدون مجاملة بحيث توضع كل الأوراق على الطاولة لمناقشتها بشكل جدي وشفاف، وأحد أهم هذه المشكلات هي الصحة النفسية ومشاكلها المتصلة بها سواءاً كانت عضوية تؤثر على صاحبها أو حتى تؤثر على المجتمع ككل..

فيلاحظ كلٌ منا ارتفاع وتيرة الغضب والإنفعال والضغط النفسي والحزن في ردات الفعل والألفاظ والسلوكيات من حولنا والتي تطالنا أيضاً بشكلٍ مباشر، كما نلاحظ عدم قدرتنا على تحمل ما كنا نتعامل معه بشكلٍ عادي منذ خمسة عشر عاماً، وذلك ليس بسبب تقدم كلٍ منا في العمر بل بسبب ارتباطه بشكلٍ وثيق بكل الظروف المحيطة بنا اجتماعياً، اقتصادياً، سياسياً وتسارع وتيرة الحياة التي قد تبدو مريحة ظاهرياً لكنها مرهقة فعلياً لأنها كما قدمت لنا أخذت في المقابل الكثير من الهدوء والإستقرار والسكينة، وجعلت للحياة وجهاً آخر يقوم على التنافسية بشكل ٍ حاد حتى في أصغر الأشياء دون الإلتفات عما إذا كانت ذات قيمة أم لم تكن كذلك، كما جعلها تركز على الشكليات حتى في الأمور التي يفترض التعامل معها بجدية..
ولا زلنا حتى اليوم نتعامل مع المشكلة النفسية وكأنها وصمة عار تعيب صاحبها، كما لا زال المجتمع ينظر إلى الكثير من المرضى ذوي الأوضاع الخاصة أو حتى مرضى ڤيروس نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) وغيرها من الفئات بنظرة مبنية على أحكام مسبقة لا تستند إلى حقائق قدر استنادها إلى أفكار مغلوطة ومتوارثة لا تمت بصلة إلى الحقيقة، ولم يكلف الكثيرون أنفسهم (من مختلف الفئات والطبقات حتى المتعلمة والمثقفة منها) بعيداً عن أصحاب الإختصاص بالبحث عن صحة هذه المفاهيم كما يقضي أوقاته في نشاطات لا معنى لها، ويكتفي بتكرار هذه الآراء حول هذه الفئات والتي سيغيرها تلقائياً إذا تحولت إلى (تريند) تبعاً للماكينة الدعائية الغربية التي تقرر وجهة كل موجة مقبلة أو موضة يراد لها أن تحظى بالرواج، فلا زال المرض النفسي محل سخرية وتندر وانتقاص وأحياناً يرمى به شخص لا يعاني منه كشكلٍ من أشكال الإهانة أو محاولةً للنيل من (سمعته) أو كسر صورته للإيحاء بأنه شخص ناقص وغير سوي، وحتى أن مجتمعاتنا اعتادت تسمية الشخص الذي لا تفهمه أو تعرف عنه الكثير ب(المعقد) فهل فكر الناس في معنى الكلمة قبل أن يقولوها؟
وللتوضيح فإن العقدة النفسية بتعريفها الذي نحاول تبسيطه هي فكرة أو مجموعة من الأفكار المترابطة والمتصلة بشحنة عاطفية تعرضت للكبت كلياً أو جزئياً، وأصبحت محل صراع داخل النفس مع أفكار ٍ أخرى والتي قد تتم مع ادراك الشخص لها أو حتى بدونه، ولكن هذه العقد التي يأتي منشأها من حادثةٍ بعينها أو شعورٍ بالنقص والخوف كانت بمثابة حافز وتحدي للكثير من الأشخاص خاصةً بعد تخلي الأغلبية عنهم في ذروة ضعفهم، فخلقت مبدعين في شتى المجالات العلمية والأدبية والفنية والثقافية، ، وساهمت في إبراز شخصياتٍ فذة دخلت التاريخ من أوسع أبوابه وحظيت بشعبيةٍ ومحبةٍ جارفة جعلت اسمها ومسيرتها متداولةً حتى اليوم..
وكانت هذه المشكلات التي تؤرقهم هي في الواقع جواز سفرهم وبصمتهم التي ميزتهم عن باقي الناس وجعلتهم استثناءاتٍ لا تتكرر، وكانت بمثابة القناديل التي أرشدتهم في الظلام، فكان جرح الماضي بمثابة نورٍ في القلب وبوصلةٍ للروح تقودهم وتوجه مشاعرهم حيث يجب أن تكون، لتخرج عصارة ألمهم وتحولها إلى بركانٍ متفجر من الإبداع الذي يتخطى أفكار المجتمع الضيقة وأحاسيسهم العابرة والمتغيرة ليجبرهم على أن يوسعوا مداركهم ويروا الحياة من منظور ٍ آخر عكس الذي اعتادوه، ويفهموا أن نفس الإنسان ومشاعره أكبر وأقوى وأسمى وأعمق من مجرد رؤىً محدودة، وأن ما أطفأ بعض القلوب وجعلها تعيش على الهامش هو ما أصبح مصدر قوةٍ وإلهام دفعهم إلى الأمام وخلدهم بقناديل ما أسموه (عقدهم) وحولهم إلى أيقونات، ليترك الساخرين في أحضان الظلام مما يؤكد أنهم من يملك مشكلةً بشكل حقيقي.

زر الذهاب إلى الأعلى