ثقافةمقالات رئيس التحرير

أنور الخطيب يكتب: جواد العقاد يسكن “مقام البياض”.. الشعر بيانٌ لأولى الهزائم

جواد العقاد يسكن “مقام البياض”:

الشعر بيانٌ لأولى الهزائم..

بقلم: أنور الخطيب

قبل شروعك بقراءة جواد العقاد، عليك أن تنسى عمره الزمني كي تتجنّب الأستاذية، وتنسى جنسيته حتى لا تؤول الحبيبة بفلسطين، وتقفز عن مفردات صوفيته لئلا تبحث عن علاقته بالله. إن نجحت في كل التناسي ستجد ذاتك في (مقام البياض)، حيث الشعر والشاعر والقصيدة واللغة، هي بواباته ونوافذه للولوج إلى وجودياته، حيث يورّطك للشروع في اكتشاف المنفى في القصيدة، والحبيبة في الهزيمة، والله في العباد. فالنص الذي يجترحه جواد من منفاه في وطنه، هو ذاته الحبيبة التي تكون ساعة منجاة، وأخرى الغرق، وثالثة تفريغ عاطفته المكبوتة في مكان يلاحقون فيه العشّاق على ساحل التناقضات.

جواد كتب نصاّ واحداً وحمَلَه على كاهليه ودخل (مقام البياض)، حيث الشاعر (منفيّ من بهو البلاغة، وناي يعبث بأوجاع الكون)، وحيث (الشعر ينز على صحراء تغربي..ويهبط ثقيلا على قلبي، والشعر بيان لأولى الهزائم)، وحيث يتعاطى العتمة (المسكونة بالشعر الهارب من غابات الأنوثة) ليتساءل: (أيحاسبني الله إن اقترفت الشعر، أو أسرفت بالسكر)، وليعلن:(نحن الشعراء لا نسكر بالخمر، بيد أنّا خُلقنا سُكارى..نحن فقط ناطقون باسم الطيور المذبوحة، ولا نقرأ شعراً إلا باسم العابرين، العاشقين، السكارى، البسطاء)، ويعلن أيضاً، (القصيدة طعنة في خاصرة الحب). ويجد في مقام البياض (اللغة المشاع، واللغة المراوغة، واللغة العارية، واللغة التي يسقيها ماء قلبه، واللغة العاقة، واللغة التي تبتلع القلوب، وعتمة اللغة، واللغة الباكية، واللغة الضيقة)، ثم يتخلص من حمولاته، فيقول: (مسرحي خارج اللغة)، وكأنه يقول بأن قصيدته المرتجاة خارج كل ما سبق، أي هي الإقامة في البياض).

أنا لا أفسر الشعر ولا الشاعر، الشعر يُعاش كالقبلة، والشاعر تخلّص من أعبائه ومضى، لأن النص عبء يشبه الاحتقان، فليس من حقنا مطاردته، فبعد الكتابة يذهب الشاعر للتعمّد بعزلته مجدداً، هناك موطن الشعر. أما ما يتخلّى عنه الشاعر فينشره ليصبح ملكا لنا، للعابرين، للعشاق، لهم أن يستعيروا مقولاته، كأن يستعير عاشق عبارة (في حضورك تفرد القصيدة جدائلها، أو صوتك يروي أعشاب الفكرة الأولى لقصيدة حب، أو، نهدك في يدي يخلق طقوساً للشعر). أو يستعير شاعر عبارة: (انا شاعر فقد قدرته على الكلام، أو، قصائدي جوارٍ تعظّم الغواية..)، أو يستعير إنسان وطنيٌ فيلسوف عبارة: (بلادي صعلوكة بما يكفي لأكرهها وأحبها في آن، تعبر أجساد الشهداء لتمسك يد الخلود، لكنها تغرق في وحل الموت، أو، خرجنا من الحرب ولم تخرج منا).

بعد خروجنا من (مقام البياض)، نتذكر ما طالبنا بنسيانه أو تناسيه، ونوقن أن جواد العقاد، شعرياً، أكبر من ٢٤ عاما بكثير، وجملته الشعرية تعكس خبرة عالية، ومرجعيات ثقافية، ومتقنة التركيب. وأنه مسكون حتى الثمالة بوطنه، عاشق متمرد يحاول تجاوز الأسلاك الشائكة. وأنه يقطن مقام البياض كصوفيٍ عتيق.

(ديوان مقام البياض للشاعر جواد العقاد المقيم في غزة في فلسطين، صدر عن دار عشتار للنشر ومقرها في الإمارات، وصاحبتها الأديبة اللبنانية هبة مقدّم، فشكرا للشاعر والناشر.. )

زر الذهاب إلى الأعلى