لو كان هنا في آلاسكا

لو كان هنا في آلاسكا
بقلم: محمد عيسى جقدول/ كاتب سوداني
حين زرت آلاسكا تموز الفائت كان كل شئ يبدو رائعا فى البداية، بينما راحت جازولين مورسكي توزع علينا الخرائط والتعليمات، كان عقلي يمخر بعيدا، بضعة نتف من الثلج حطت على كتفى وخيط الطاقية المتدلي فى وداعة سال بالبياض، ها عقلي كان بعيدا جدا حيث السفوح والبراري والسهل الممتد للطرف الشرقي من مدينة لندن، لعل ما يغريني فى هذه المدينة العتيقة والتى إن أمعنت حاسة شمك لامست رائحة البارود القديمة ، وضجيج الجيوش المنسالة إلى بلدان العالم الأخرى غازية ومباركة،
عبرت لوهلة نهر التيمز وسيمفونية ديميتري شوستاكوفيتش ترتفع نوتاتها كلما ضرب الموج الخفيف الأشجار المسربلة على الشط، ترى أهل ليننجراد حين سمعوا مقطوعة شوستاكوفيتش رغم الجوع والألم والدماء تراهم ضحكوا ورقصوا ونظروا بعيون التحدي للسماء؟! لايفصلني عن هذه الفرضية سوى هذا التيمز بينما راحت كلمات يسرى فودة فى كتابة الموسوم “فى طريق الأذى” تتبدى لمرأٓي وهو يشاهد من نافذته نهر التيمز والمدينة الغارقة فى الضباب وفجأة يرن هاتفه ويقول المتحدث بلكنة إنجليزية بالية هل تريد يا سيد يسرى ملفاً غاية فى السرية يضاف لبرنامجكم سري للغاية بينما راحت الكلمات الصادمة تدخل الريبة فى دخيلة الرجل وينفذ الشك إلى قلبه لكنه أجاب…..، لمستني جازولين على أنفي شبه المتجمد قائلة لي: أين أنت؟ أين أنا راح السؤال يلح علي بينما فارت فى الأجواء رائحة البرد وتكلست الجبال الكبيرة بالثلج ، آلاسكا لم تكن تغريني لولا إصرار جازولين فهي تعتقد أنني بحاجة لأجواء مغايرة تنشلني من دوامة الحرب التى فتحتها على نفسي منذ عشر أعوام خلت ولذلك فضلت الطقس البارد إعتماداً على معلومة وجدتها فى كتيب ينز بالترهات من تلك الكتب التى تدعو الناس لكسر قالب الثلج وتفتيت الحصا بالإرادة، حيث أكدت لها الدراسة أن الأشياء الباردة أو الماء البارد يمكنه صدم خلايا الدماغ حيث تعيد له توازنه القديم وربما أعادت لمرضى الحروب مخيلتهم الطبيعية الخالية من الدمار وصور الموت، لكن كيف يا جازولين كيف؟ وأنا مولود الحرب والبارود حيث عمدتني مدن الريف السوداني فى خاصرة دارفور بالمجاعة رغم تخمة الأرض وفيضانها اللانهائي بالطعام لكنه طعام حكر للذي يحمل البندقية، يا صديقتي كيف لهم أن يدركوا فداحة حرق الذاكرة وتأثيثها بالموت، لعل موت والدي وحده ليس كفيلاً بشفاء غلهم فعمدوا إلى حرق أختى وأطفالها الست فى كوخ لاحول له. قال لي أحدهم مرة أن الذكريات المرة تظل جائعة وتتغذى على إدامنا الذي نُكونه لاحقاً من ذكريات نقيضة فكلما مرت بك لحظة فرح هاجمتك لحظة من منفى المأساة وأقتلعتك إلى داخل الهوة العميقة.