نصوص

مريم الخطيب تكتب لملف “في الحرب وعنها”: حين يندثر الحب تحت وطأة الحرب

حين يندثر الحب تحت وطأة الحرب

بقلم: مريم الخطيب/ غزة 

مئة هو عدد البلاط الذي يضم صالون بيتنا الذي نترامى عليه بأجسادنا الخائفة، أو مئة دقيقة تفصلنا عن الموت. مئة كيلو متر عن شظية يلمنا أبي بجواره خوفاً أن نتساقط، أو لربما تعبير حقيقي لجملة: “الموت بالجماعة ارحم”. هذه هي بلادي، تتفاوت فيها رحمة الموت. يتمايز كل منا بطريقة موته. جماعة، وحيد، بوالديه، بأمه، بأخته، بأحلامه، بكامل جسده، أو رُفاته. حتى لربما تُنسف عائلة كاملة ويبقى الرضيع منها.

غزة مدينة على ساعد امرأة تُقلب وجهَّا الموت جيداً، لا تضع كثيراً من مساحيق التجميل، فقط تكتفي بحمرة الدماء. امرأة تُكفن بساعديها زوجها، تلف طفلها الوحيد شهيداً وتربط قلبها جيداً. غزة، امراة ولودة للموت، امرأة قُتلت قبل أن تُزف. امرأة لونَّ الدم فستانها الأبيض. امرأة تُجمع أكناف الطبيعة وتُخاف في المساء من انحدار السماء على أطفالها بوابل من الصوت، تُقبلهم جيداً قبل أن يرحلوا. تحضر حقائب الأوراق الثبوتية بدلاً من صندوق الغذاء لأطفالها. ترمي كتبهم المفضلة وقصص ميكي من داخل حقائبك، وتضع أوراق تسعف حياتهم.

غزة، امرأة عَرافَّة تتنبأ بالموت وتتجهز له جيداً. امرأة بسؤال الموت.

حبيبتي غزة!

اليوم لا أعلم تحديدًا ما هو، فقط ما أعلمه أن يوسف لن يستلم نتيجة اختبار (الباثولوجي) الذي بات يسهر خوفًا من تعثره بسؤال. ولكنه تعثر بعقبة الصاروخ والحياة.

فرحل يوسف الآن، الحاضر الغائب هو الذي سيبقى كرسيه فارغًا في معامل الكلية، وسيقفى صوت صديقه هشًا عند إجابته لسؤال: أين يوسف؟

-يوسف شهيد!

أعلم جيدًا أنه حصل على درجة أهم بكثير من الدرجات التي يخاف منها، وأنا الآن، يا يوسف، لن أخاف الدرجة، فربما ترفع درجتي مثلك!”

غزة، حبيبتي!

تركت تقى قلب صديقتها بين يداكِ، أحمليها جيدًا إلى السماء والعبِ معها بالدمى، صففي شعرها بطريقة أنيقة وذكِّريها أن تغسل وجهها جيدًا كل صباح، وحدثيها أن مقعدها في الفصل سوف يبقى فارغًا، وأن قلبي سيتضور جوعًا لها.”

حبيبتي غزة!

أخبري حبيبي الذي كفنفي بيده في الصباح إنني سأُزف بعرس أفضل من عرسه. أسفة يا حبيبي لقولي هذا، اعتقد أن مهري في السماء أغلى من مهرك. حبيبي، سأزف هنا وارتدي فستانًا أبيض وانتظرك على بوابة السماء. سأقبل يداك بلطفٍ، وعن عيناك سأنفض غبار الحزن، سأطهو لك المقلوبة في السماء، وأعد طاولة المساء جيدًا.

تعال إليَّ يا حبيبي.

شهيداً شهيداً شهيداً، أنت هنا في غزة شهيد.

حبيبتي غزة،

أكتب لك وأنا من أعلى أرى الأمهات يبكين، طمئيني خوفهن، حديثهن عنا وإننا نشتاق إليهن وسنجهز لهن السماء لاستقبالهن في موعد آخر.

حبيبتي غزة، ماذا بعد الحرب وبعد إغلاق بيوت العزاء؟ هل سيعود الأطفال إلى نومهم؟ هل سيعود يوسف إلى مقعده؟ هل سيذهب الأطفال في رحلاتهم المدرسية؟ هل ستغلق المآذن التي تصدح بالموت؟ ماذا بعد الحرب؟ سؤال يشبه ماذا بعد البحر؟

النساء يتشحون سوادًا، الفتيات الجميلات يرتدين الحزن، بدأ الجميع يخافون الحب حتى لا يرحلوا، حتى جارنا لن يبني بيته خوفًا من أن يُقصف. أنا لن أكتب فقط، سأمسدَّ خوفي. وحتى صديقي الذي يبحث عن صورة الشمس يجلس الآن وحيدًا لا يراها في وضح النهار، حتى أمي ستعود إلى العمل وأنا سأخاف عليها. كل شيء بدا شاحبًا. سأكنس الأرض بصبري يا حبيبتي، الصوت لا يذهب لكي يعود، والجميع لا يذهب، ولكن لن يعودوا. كفّكِ المساء، وامسحي على قلب الأمهات، ونفضي ابتسامة الأطفال، وأعيدي الورد للطرقات. غزة، أنا أعول عليكِ، لا تتركي الموت يعول علينا.

#غزة #فلسطين

زر الذهاب إلى الأعلى