ثقافة

محمد نصار يكتب: ديانا الشناوي ورواية ” أنثى”

ديانا الشناوي ورواية ” أنثى ”

بقلم: محمد نصار/ روائي فلسطيني 

في الآونة الأخيرة ظهرت بعض الأعمال الأدبية النسوية في غزة وتحديدا في عالم الرواية، تحمل ذات الطابع النسوي، سواء من حيث المضمون أو المؤلف، محاولة بسعي جاد وحثيث، الولوج إلى هذا المجال الأدبي، الذي أصبحت فيه الرواية تحظى بمكانة مرموقة بين شتى صنوف الأدب وربما تتربع على عرشها.

طبعا مصطلح ” أدب نسوي” لا يروق لي على المستوى الشخصي، وذلك من باب أن الأدب هو الأدب بعناصره الفنية والجمالية، أيا كان كاتبة وفي أي المواضيع يخوض ولست استثناء في ذلك ، بل هناك من الكاتبات من يتفقن معي في هذا الرأي، مثل أحلام مستغانمي وغادة السمان، على عكس من يؤيدون هذا المصطلح وينادون به.

على كل حال ليس الأمر موضع خلاف بالنسبة لي وإنما هو شيء من التوصيف، لحالة نشطة من بعض الكاتبات بدأت تلمسها على صعيد الرواية في الآونة الأخيرة، منهن: يسرى الحطيب، نعمة حسن، سماهر الخزندار، ديانا الشناوي.

ديانا الشناوي أصدرت قبل فترة وجيزة روايتها الثانية ” أنثى “، عن وزارة الثقافة الفلسطينية وتقع في نحو من مائة وأربعين صفحة من القطع المتوسط، تتحدث فيها عن فتاة ” ” تعمل مذيعة في واحدة من القنوات الإذاعية المحلية، تعيش وحيدة بعد وفاة والديها وهجرة أخيها إلى جنوب أفريقيا، متوسطة الجمال، تشارف على عقد الثالث من العمر، دون أي ارتباط، ينهي قلقها المتزايد من أن يمضي بها العمر سدى، “..تمضي الأيام سريعا وتبقى الذاكرة تحلق في فضاء الحكايات… أدرك أنني حالمة برجل يحقق نبوءة عشقي الذي لم أذقه بعد، يحرك مشاعر تجاهلتها في زحمة العمل، أو تعمدت التذكر لها.. أشعر بالخوف من الحب من المجهول..”، فهي تعيش حالة من الصراع النفسي، الذي تحاول جاهدة التغلب عليه بالانغماس في العمل، حيث خوفها من المستقبل المجهول وذكرى أليمة عانت خلالها جبروت أبيها، الذي قتل أختها حرقا بالنار أمام ناظريها، دون أن يرف له طرف أو تدمع له عين، فبين أب متجبر قاس لا يعرف للرحمة مكانا وبين رغبة في التحرر من تلك العقدة على اعتبار أن ليس كل الرجال سواء، تبدأ الكاتبة في نسج فصول روايتها، محاولة عدم الانحياز لطرف بعينه، فهي ليست ضد الرجل بوجه عام وإنما ضد تسلطه، وليست مع المرأة في ضعفها واستكانتها على نحو يهدر حقوقها ثم نحمل ذلك للرجل، شيء من التوازن في معادلة يصعب الإمساك بخيوطها المتشابكة. .

تبدأ الكاتبة روايتها بالتداعي فيما يشبه التقديم ” تسيل الكلمات في جوفي.. تتذكر نبوءة عشق امتلكت روحي وتتساءل بقسوة : هل سيحدث وأن أعيشها ذات صدفة”، ثم تنقلنا في حالة من الوصف السردي عن ذلك النهار الذي افتتحت به يومها: “صباح ندي بعد ليلة ماطرة، رائحة الجو شهية.. الشتاء فصل الحنين، لياليه باردة.. أكثر الفصول وحشة…”” ومنه إلى أجواء العمل التي تصف فيها طبيعة عملها في الإذاعة، ثم تأخذنا في الفصل الثاني بتكنيك مغاير، ” الفلاش باك”، حيث تنهال في ذاكرتها الصور، لأيام خلت، طفولتها في العزبة الواقعة في مدينة خانيونس، صورة أمها لحظة أن داهمها المخاض، توتر أبيها الذي ينتظر مولودا ولدا على أحر من الجمر، ” يا ويلك يا زكية إذا كانت بنت هالمرة كمان”، بؤس أمها حين رزقت بما توعدها به أبوها، حيث جاءت هي ولا أحد سواها، غضب أبيها من هذا المولود الشؤم ، فيصرخ ملتاعا: بنت ..بنت كمان مرة “، ثم اندفاعه المجنون لإلقائها في البئر، لولا تدخل عمتها سعدية، ثم تهديد ووعيده لزوجته بالطلاق إن هي أنجبت أنثى مرة اخرى أو الزواج عليها.

ثم تنتقل بنا بعد هذه الصور المنهالة في الذاكرة، إلى واقع الحال والسرد المباشر في وصف حياة العمل في الإذاعة وعلاقتها بالزملاء فيها، ثم الحديث مع زميلتها مصورة الأفراح التي غادرها زوجها مكرها بسبب توجهه السياسي المغاير، لتوجه الحاكمين في غزة وتسلله بين فترة وأخرى خلسة إلى أحضان زوجته” نادية” التي حملت منه، فصار حملها تهمة لها وكأني بالكاتبة هنا، تشير إلى فداحة الظلم الواقع على الجانبين، الرجل والمرأة، في واقع بات فيه الظلم سمة من سماته وهي الإشارة الوحيدة التي تطرقت فيها الكاتبة لواقع غزة التعيس.

ثم تعود بنا الكاتبة لاستدعاء لحظة حرق أختها ” سميرة “، تلك الفتاة التي حاولت أن ترسم عالما مغايرا، نسجته من وحي قراءاتها للأدب، فاصطدمت بواقع لا يعترف بشيء من ذلك، حاولت جاهدة أن تدافع عن قرارها برفض الزواج من ابن عمها والارتباط بمن تحب، لكنها عجزت أمام رفض أبيها وسعيه لإجبارها على الزواج من ابن عمها، الذي اضطرها للهروب على الزواج منه، فكانت النهاية البشعة بحرقها حية ثمنا لذلك، مشهد غاية في البشاعة والإجرام، حدث أمام عيني بطلة الرواية التي كانت تراقبه خلسة، دون أن تجرأ حتى على الصراخ أو الاستنجاد بأحد وهنا لا أدري إن كان ذلك تعبيرا عن تواطئ المرأة في الدفاع عن بنت جنسها أمام تغول الرجل، ام هو الخوف والتسليم بهذا الواقع الموروث جيلا بعد جيل، أما ما لفت انتباهي واستوقفني في هذا المشهد البشع، هو قدرة الكاتبة العجيبة على تصويره بهذه القسوة والبشاعة، التي فاقت قدرتي على تحمله: رأيتك يا سميرة حين كشفا عن وجهك.. كنت كالملاك.. فمك معصوب.. عيناك شاخصتان…رأيتهما يمسكان بك ..يفتحان برميلا حديديا ويضعانك فيه.. أحدهما سكب عليك الكاز والآخر أشعلك.. كنت تنتفضين صامتة، ثم صرخة وحيدة شقت الفضاء فتنهد الليل وصمت” .

الأغرب من ذلك هي بوادر العطف التي أظهرتها تجاه أبيها، حين وقع مفجوعا بهروب ولده الوحيد” محمد” بعد أن سرق أمواله، جاء ذلك الحدث بعد سنين من تلك الجريمة، فما كان منها غير إبداء المودة له والعطف، رغم كل القسوة التي عاملها بها والجريمة التي ارتكبها في حق أختها وكأن الكاتبة تقول أن لا عداء مطلق بين الرجل والمرأة، كما يحاول تصويره البعض وإنما هي أفعال وردود تحكمها مواقف بعينها، خصوصا إذا ما كان ذلك الرجل أبا أو أخا أو حتى زوجا، فتقول بلسان بطلتها لحظة رؤية أبيها المسجى على فراش الموت:” ما الذي يجعلني أغفر له كل هذه القسوة؟، أهي دماؤه التي تسري في شرايني، أم امتناني للنبض الخافق داخلي بسببه”” وهو ما تأكده بعد ذلك من خلال علاقتها بالموسيقار الذي استضافته في واحدة من لقائتها الإذاعية، حيث تطورت تلك العلاقة إلى حالة حب وهيام، تتوجت من بعد بالزواج.

باختصار حاولت الكاتبة من خلال هذا العمل المميز، تصوير واقع المرأة وما تعانيه من ذكورية الرجل، في واقع أسقط تبعات ظلمه وتسلطه على كليهما، بحيث صار من العسير توجيه أصبع الاتهام إلى طرف بعينه وإن كنت على المستوى الشخصي، أرانا جميعا ضحية واقع مشحون بالأزمات والمظالم التي تنوء عن حملها الجبال وهو ما أعتقد أن الكاتبة حاولت الإشارة إليه من خلال موازناتها التي تخللت العمل، فتحدثت عن المرأة القوية التي تحدت كل الظروف ودفعت حياتها ثمنا لذلك وتحدث عن الرجل الشرير متمثلا في شخص أبيها وأخيها، كذلك تحدثت عن المرأة المستسلمة لواقعها بخيره وشره، كأختها هدى التي قبلت العيش مع زوج عنين، دون أي مسعى لرفض ذلك، كذلك جاء حديثها عن الرجل المحب الذي تزوجت به وعن الزميل الخلوق في العمل، مجموعة من العلاقات المتشابكة التي حاولت من خلالها الكاتبة، تجسيد واقع يضج بالتناقضات، دون انحياز لطرف بعينه، بلغة شاعرية حالمة ووصف مميز للكثير من الأماكنء التي تعرضت لها الكاتبة، سواء في حديثها عن المزرعة أو بحر غزة ومناخ غزة وطبيعة عاداتها وتقاليدها وبتكنيكات كتابية متعددة، كالديلوج والمنولوج والقطع السينمائي ، فأبدعت رواية يعتد بها.

زر الذهاب إلى الأعلى