مجتمع

التخلي عن الظل

خالد جهاد

التخلي عن الظل

بقلم: خالد جهاد

من الطبيعي لأي منا خاصةً عندما نكون في مقتبل العمر أن نحاول جاهدين الحصول على الكثير من الأشياء التي نتمناها معاً كالحب والمال والنجاح والتميز والمكانة المرموقة كلٌ حسب توجهه، لكن الحياة تروضنا فتهذب جموحنا وتحد من طموحنا وتجعل من أهدافنا أكثر واقعية، لندرك أنه لا يمكننا الحصول على كل شيء كما أنه يتوجب علينا تقبل فقدان أو خسارة العديد من الأشياء والأشخاص مع مضي الأيام، ومع أنها تمر بنا مسرعةً فتؤلمنا وتعلمنا الكثير لكننا لا نكف عن التمني والحلم، فأحياناً يأتينا ما تمنيناه بعد جهدٍ وانتظارٍ طويل، وأحياناً يقدم البعض الكثير من التنازلات ليعيش فرحة تحقيق أمنيته وإن كانت فرحةً منقوصة لا ترقى إلى ماتمناه..

وقد يحدث ذلك دون تخطيط ٍ أو علمٍ في لحظةٍ أنانية عندما يغيب المنطق في حضور العاطفة أو اللهفة للفوز بفرصةٍ بعينها، ويتحول البعض بسببها فجأةً لطرفٍ ثانوي في علاقةٍ ثلاثية تبدأ بشكلٍ عادي ثم تتحول إلى السرية التامة التي قد يتنازل معها عن جزءٍ من كرامته، لإعتباراتٍ إجتماعية تتطلب شكلاً معيناً وإطاراً خاصاً يمكن صاحبها أو أصحابها معه من الحصول على (كل شيء) في صورةٍ مصغرة تختصر عقد المجتمعات التي نعيش فيها، فكثيراً ما تكون العلاقات الشخصية بتشابكاتها وتعقيداتها مرآةً للواقع من خلال قصصٍ وحكايات تبدو نمطيةً للوهلة الأولى..

لكننا إن أمعنا النظر فيها سنجدها مستمرةً وقادرةً على التكرار والتجدد والتشكل والتوحش بصورةٍ عجيبة، كالكثير من علاقات الحب أو الزواج أو حتى الصداقة التي تجمع بين أشخاص ٍ من طبقاتٍ أو ثقافاتٍ متفاوتة قد يكون أقلها في (التصنيف الإجتماعي) هو أعلاها في الثقافة والموهبة والذكاء (وهنا لم أقل العلم لأننا بتنا نرى الكثير من السلوكيات المتدنية تصدر عن أشخاص حاصلين على أرفع الشهادات ولأن التعليم بات غير متاح للجميع لذلك لا يمكننا اعتباره معياراً عادلاً)، فتجذب الموهبة والثقافة والذكاء والتي قد تكون مصحوبةً بالجمال صاحب المال والمركز الهام تماماً كما يحدث العكس، والتي قد تتخللها عاطفةٌ حقيقية أحياناً لكنها مريضة، وتدخل أطرافها في دوامةٍ لا تنتهي من الخوف والطمع والرغبة والتناقض والصراع بين ما يريدونه وبين ما يريده المجتمع بغض النظر عن صوابه من عدمه، إلى جانب عدم قدرتهم على تحديد بوصلتهم الإنسانية والأخلاقية بين الحب وإشباع الغريزة والإستفادة المتبادلة وعدم قدرتهم على مواجهة أنفسهم بالمسمى الحقيقي لهذه العلاقات أو إقناع حتى المقربين منهم بأنها سوية أو محترمة..

فالحب أو الصداقة أو أي علاقة طبيعية مثل أي نبتة تحتاج الضوء لتنمو وإلا قتلها الظلام، كما تحتاج إلى الإحترام والقناعة بالطرف الآخر من أي ثقافةٍ كان حيث لا يمكن لعلاقة أن تستمر فيما أحد الطرفين يشعر بالخجل من الآخر لأنه من طبقة أو خلفية يراها أقل منه أياً كانت تلك الخلفية (وهو مفهوم رجعي ومتدني)، وهو ما يؤكد لأي شخص أنه لا مبرر لوجود علاقاتٍ سرية طالما كانت الأطراف المعنية واثقةً من (نقائها) ومن شعورها تجاه من اختارته، وأن الأعذار التي يسوقها الأشخاص عادةً لتبرير سلوكهم واهية لكن مجتمعاتنا اعتادت (الحياة في الظل) حيث تمارس أبسط تفاصيلها بشكلٍ مزدوج يختلف أمام الناس عن ما يحدث بعيداً عن أعينهم، وهو ما يمتد إلى قضايا كثيرة وفئات متنوعة في المجتمع يؤيدها الناس سراً فيما يذمونها علناً، وهو ما يشبه موقفهم من الفنون أو مواقفهم السياسية أو نظرتهم للمرأة أو الثقافات المختلفة عنهم، والتي يشير تكرار سلوكها في مواضع مختلفة إلى حالة من الفوضى والتخبط والضياع وعدم تحديد المفاهيم التي يعتنقونها سواءاً كانت دينية أم وطنية أم إنسانية وإن صرحوا بعكس ذلك..

لأن المجتمعات التي تنسجم قناعاتها مع سلوكها وأفكارها وإن اختلفنا معها بين التطرف في الإنغلاق أو التحرر هي مجتمعات قادرة على أن تغير شيئاً أو أن تخطو نحو الأمام لأنها ليست محكومة بنظرة الآخر لها فهي تملك مرجعيتها الثابتة التي تحتكم اليها، ولا تحتاج إلى تصدير صور مغايرة عنها بإستمرار فيما تبطن عكسها، وهي بكل تأكيد أكثر استقراراً وسعادة واتساقاً مع ذاتها، ومهما حاولنا الفصل بين القضايا الشخصية والعامة سنجد أنها تعود لتشتبك مجدداً في نقطةٍ ما، ولا حل لمشاكلنا سوى بتحديد هويتنا وبوصلتنا لنعيش بكرامة، دون خوفٍ دون تنازلات.. في العلن بعد أن نتخلى عن كل ما يعيش في الظل..

زر الذهاب إلى الأعلى