ثقافة

مراسلة إلى فلاحةٍ جنوبية: هاشم شلولة

عزيزتي..

بقلم: هاشم شلولة/ شاعر فلسطيني

العالم بائس جدًّا، وفي العادة لا أحب أن أبدأ هكذا، ولكن يبدو أنَّني في مخيال معطوب، وعلاقة أكثر عطبًا بالحياة.. لستُ بصدد الحديث عنّي، ولكنك عزاءٌ ما بالتماسٍ، بخاطرة، بطيف، بتذكُّرٍ ما… يُكوِّر نفسه بين غيهبِ عينيّن متعبتين، تنصتُ كُلُّ واحدةٍ منهما لشبحٍ يكوي عطب المخيال، وكصاحبة صورة غائبة، لا يتوقف حضورها، لم أعرف قبل ذلك مشهدًا أقرب وأوضح من هذا في سياق حضور الغياب، والذي آمنتُ مذ عرفته أنّه مجرد مجاز وغير قابل للمس، وسقف لمسه قصيدة أو التقاطة شاعرية، لكنَّ الحقيقة الأكثر اتقادًا في دم الوقت، هي وجهُ فلّاحة تأخذ دور الفتاة “مومو” بطلة الرواية التي تحمل ذات الإسم للألماني ميخائيل أندة، وتحارب السادة الرماديين (سارقو الوقت) اللافت أنَّ مومو ثأرت للوقت مرّة واحدة وانتصرت على السادة، لكنّ ملامحكِ في مخيلة مريضة لشاعر عبثيٍّ صغير السن ومُتعَب انتصرت مرارًا لهذا الوقت، وربما عليه..

لا أعلم مدى انتباهك لفكرتي أو لي على وجه الدقة، ولكنّي أعلم هذا المدى فيَّ وأعرفه جيدًا، إنّه بمثابة استطبابٍ متكرر ويدوّر نفسه على مدار الساعة فيَّ، ولا أعرف تسميته لكنّي أسمّيه مجازًا انتزاع أحقيتي بما أحب استحقاقه، ولو بيني وبين نفسي وفي السر، ووراء جلدة رأسي، ولا أحد.. لا أحد بالمطلق يستطيع منعي من ذلك، ولا المسافة ولا الغياب وربما ولا أنتِ رغم مركزية أنتِ في رغبتي حتى لو اعتنقَت رغبتي قِبلة التفرُّدِ والسر.. أُمارسُكِ بخفوتي وفي سريرتي، وأخشى أن يجرحُكِ برعمٌ ناثرته هواءات سؤالٍ عن بعيدٍ يسبحُ في دم الرؤيا، وكأنَّ الرؤيا محاصرةٌ فكل ما أريد قوله؛ قلته لنفسي، وأخشى عليكِ من تكراره فنفسي صورتان؛ واحدةٌ هنا وأخرى حيث تقبعين أو تمارسين عاداتكِ اليومية أو حتى حزنكِ وعزلتك..

آه أيتها الجميلة!. آه من كل الدقائق، من اكتمالها غير المكتمل، وليس إلّا نقصًا يُراد به وجهٌ أو يُناشِد أو حتى يغنّيه بيد أنّكِ لستِ أغنيةً وأنتِ كذلك.. فأنتِ استراحة، وبراح البصر والبصيرة، وكلّما استشعرتُ البراح خشيتُ عليكِ من مكانٍ أو زمانٍ قد لا أكون أعرفُ بهما أو أدري كما لا أدري سرَّ غيابكِ الذي قد يكون اضطراريًا، وأقلق إلى درجة الخوف فكل ثانية يُنازلُني احتمالٌ بما قد يصيبكِ، وأقلق بنفس الدرجة في نزالي مع نفسي في طبيعة وكيف الوصول إليكِ رغم لامركزية ذلك ضمن طبيعيةٍ متفق عليها بيني وبينكِ، فالوصول الذي أقصده هو صحة ما أضع من احتمالاتٍ تتحوطكِ مع التحفظ على أمنية طويلة عنوانها رجاء مسكين بسلامةِ وقتكِ وظرفكِ وعالمكِ، وأن تكوني في خير ما أنتِ كائنته وأكثره اتساعًا وأمانًا وصفاء لروحكِ وراحِكِ ورائحتكِ…

أستطيع القول أنني وخلال الكتابة لم أستطع الثبات لعشر ثواني، فعقلي في تقاطعات مختلفة وتشابكات أكثر عمقًا من كل مرة، وذلك بفعل فاعل، والمعروف بديهيًّا أن الفاعل ملموس، ولو بأقل درجات اللمس لكنّ الفاعل هنا والآن التماسُ فوضى مجنونة تحملُ ألف وجهٍ وصيغة لكِ من هدوءٍ انتزعته بكل ما أوتيت من قدرة على انتزاع الهدوء.. لكنَّ الهدوء ليس قويًّا بما يكفي ليصمد أمام جبروت كالذي يتغذى على السكون في برجِ تصاويري الخاصة، ولم أكتب يا عزيزتي بصفة حبيب أو ما يشابه، وإنمّا بهاتيك الصفة التي تجعل منّي مُسمارًا دُقَّ في خشبةِ امرأةٍ بمطرقة مصنوعة من الدوافع غير الإرادية أو المُسيطَر عليها والأسباب الكبيرة والمختلفة للحوداث المعوطفة وغير خاضعة الأسباب لضرورة التطبيق بقدر خضوعها لمجرد الوجود فقط، والمهم أنها موجودة خارج شهادتي على نفسي ومعرفتي الثابتة لها..

عزيزتي الجميلة والمتجددة وذات الصورة الإكسيرية التي تبعث في الرائي حياةً وإلهام والبارعة في أسباب بروزها كعظام يكسوها لحمًا وليس بالضرورة مشابهتها بمشهد الخلق وتراتبيته، فوجه الشبه يكمن في الكِساء.. فأنتِ كِساء المعنى واحتوائه واحتضانه بيد كل اللامعلوم الذي يكتنفكِ وكل الاحتمالات التي قد تحيط بكِ، وبالمناسبة أراسلكِ وأعلم أنّكِ بكل وضوحكِ في خَلَدي ربما تكوني فُقاعة تُذهِبُها نِسمةُ هواء، وبالنسبة لديَّ لن يكون ذلك ذات جدوى طالما أن أفقي حدَّدَكِ في نفسه كفكرة فالأفكار تبفى ما بقيت رغبتنا المُحاطة بالإيمان، لأنَّ الإيمان يحرس الفكرة ويحافظ على حياتها حتى لو افتقدت مادية الدليل، وهذا أيضًا ما أسعى لتعزيزه في عالمي لأكون جاهزًا أمام طوارئ الحياة وهنّاتها ومباغثاتها…
أحفظُكِ ولا آبِه يومًا بمُستقبَل الآيات، فالآية قول في سطرها، ويقين ثابت في صدر من يؤمن أو يحلم أكثر مما هي انحناءة أو طقس أو مِراس… فالاحتمال المُعبَّأ بالصِّيَغ والافتقاد والاشتياق، والعناق العناق العناق…

كوني بخيرٍ وسكينة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى