مقالات رئيس التحرير

عذوبة الشقاء في” سور الله العظيم” للشاعر هاني نديم

عذوبة الشقاء في” سور الله العظيم” للشاعر هاني نديم

بقلم: جواد العقّاد/ رئيس التحرير 

عذوبة الشقاء
الصورة الفنية في ديوان” سور الله العظيم”

تمهيد:

هاني نديم بحبوح، شاعر سوري معاصر، يعمل في الإعلام منذ تسعينيات القرن الماضي، من مواليد عام (1972م) في مدينة النبك الواقعة في محافظة ريف دمشق، وتنقل بين العواصم العربية بهدف العمل، ولم يتخذ الشاعر نديم موفقاً سياسياً من الحرب السورية (2011م) بل اتخذ موقفاً إنسانياً تجلى في أعماله الشعرية وخاصة في ديوان” سور الله العظيم”.
ويبدو للمتأمل في شعر هاني نديم لا سيما ديوان “سور الله العظيم” جوانب الثقافة الواسعة التي يتمتع بها الشاعر، المستمدة من التراث الديني والشعبي والتاريخي، إلخ..، وكذلك يتجلى في شعره الحس الإنساني المنبثق من الواقع العربي المأزوم.
واستطاع الشاعر هاني نديم الوصول إلى قلوب جمهور الشعر في معظم الأقطار العربية؛ لما يتمتع به شعره من سهولة وعذوبة، إذ يُمكن إدراجه تحت “السهل الممتنع”. ولعل النشأة القروية أسهمت في صقل تجربة نديم الشعرية، فنلحظ البساطة النابعة من استخدام مفردات يومية بأسلوب شعري عذب، كما أن صوت المعاناة يتجلى في شعره، فإنه يُلخص البؤس والشقاء الذي عاشه الشعب السوري خلال العشرية الماضية.

أولاً- الصورة الفنية في الديوان:

تقوم العملية الشعرية على عناصر عدة أساسية متداخلة لا تنفصل، وهي: العاطفة، واللغة، والخيال، والفكرة، والصورة الفنية، والموسيقا. وتتفاعل هذه العناصر في علاقة حميمية مشروعة يقيمها الشاعر الجيد باقتدار، فلا يطغى أحد العناصر على غيره، أما الشاعر الخَلَّاق فيتجاوز تلك العلاقة إلى دائرة الحرام العذب، ويبدأ في شرعنة إبداعه، الذي يراه المحافظون ابتداعاً، فيعيد صياغة العملية الشعرية وفق رؤية خاصة لا تُوافق عليها مؤسسة الشعر التقليدي. هذا ما حَدث مع تجارب شعراء قصيدة النثر منتصف القرن الماضي، وأيضاً هذا ما يتضمنه ديوان” سور الله العظيم” للشاعر هاني نديم، الذي سنكشف عن معالم الإبداع والتجديد فيه المتمثلة أساساً في الصورة الشعرية.
ولا يستطيع الشاعر ممارسة التجديد في أحد عناصر الشعر دون غيره؛ ليحافظ على التوازن بين تلك العناصر، ولكنه يُعيد خلقها لأجل عنصر واحد، فالشاعر هاني نديم اختلف مفهومه للشعر كله في ديوان” سور الله العظيم” على الأقل، استجابة لعاطفة متوهجة لا تستوعبها الأنماط الشعرية التقليدية، وهو الشاعر المغترب العاطفي حدَّ الثمالة، وبلاده سوريا متورطة في الخراب حدَّ القيامة.
وأقرر مؤقتاً أن الصورة الفنية محور التجديد عند هاني نديم في “سور الله العظيم”.

ولا يُمكن تخيل الشعر بلا صورة فنية، فهو فنٌ قائم في الأساس على التصوير باستخدام اللغة، فالصورة قديمة قدم الشعر نفسه، ولا تنفصل عنه قطعاً، وتطورت مع تطور الشعر، فلم يعد الشاعر المعاصر يهتم بالتقاط صورة فريدة وحشد مجموعة من الصور في بيت شعري واحد أو أبيات معدودة، وإنما أصبحت الصورة أداة لتجسيد الرؤى والمعاني المجردة والأفكار، وفي هذا السياق يقول الناقد إحسان عباس:” وليست الصورة شيئًا جديدًا، فإنَّ الشعر قائم على الصورة منذ أن وُجد إلى اليوم، لكنَّ استخدام الصورة يختلف من شاعر إلى آخر، كما أنَّ الشعر الحديث يختلف عن الشعر القديم في طريقة استخدامه للصُّور.” وبقدر ما تكون الصورة مبتكرة وجديدة تكون القصيدة مؤثرة ومغايرة وتلقى استجابةً عند المتلقي.

يقول الجاحظ(ت: 255):” فإنما الشعر صناعة، ودرب من النسج، وجنس من التصوير”(1). ما يهمنا هو قوله “وجنس من التصوير”، إذ نلاحظ أنه لم يقل إن الشعر تصويرٌ بل قال جنس من التصوير؛” وذلك لأن التصوير بحكم أدواته ومواده ينزوي في مرمى حاسة البصر ملتمساً سبيله إلى نفس الرائي ووجدانه وإحساسه، أما الشعر فيتسلل بخفة عن طريق وسيلة اللغة التي تتألف من الكلمات في ضوء قواعد من نظمها المميز.”(2) فالشعر ليس تصويراً خالصاً وإنما يتخذ من الصورة إحدى وسائل التعبير عن العواطف والأفكار والرؤى، يرسمها باللغة– وهي أداة فنون الأدب بعامة-، بعبارة أخرى: الشعر أكبر من كونه صورة ولكنه في الوقت نفسه لا يستغني عنها كجزء منه، واللغة هي أداة الشعر الجوهرية التي تُنتج باقي العناصر الشعرية بما فيها الصورة.

ويرى قدامة بن جعفر” أن المعاني كلها معرضة للشاعر وله أن يتكلم منها فيما أحبَّها وآثر، من غير أن يحظر عليه معنى يروم الكلام فيه، إذا كانت المعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة، والشعر فيها كالصورة، كما يوجد في كل صناعة، من أنه لا بدَّ لها من شيء موضوع يقل تأثير الصورة منها، مثل الخشب للنجارة، والفضة للصياغة”(3).

فالقدماء فهموا أن الشعر فن لغوي يقوم على الصورة، ولا يكون شعراً بلا صورة، بيد أنهم لم يفردوا للصورة مباحث خاصة، واكتفوا بدراستها ضمن قضايا ومباحث نقدية أشمل مثل: قضية اللفظ والمعنى (الشكل والمحتوى)، كما عدوها ضرباً من أضرب البيان، ولم يتجاوزوا بها ذلك.
أما النقاد المحدثون فقد توسعوا في تناول الصورة الفنية في الشعر بالدرس والتحليل، واهتموا بها اهتماماً كبيراً، وعمَّقوا مفهوم الصورة من خلال إثراء المكتبة النقدية والأدبية بمجموعة من الأبحاث والدراسات المتخصصة، كما أن الشعراء أيضاً اهتموا بالصور الفنية في قصائدهم، وعلى الرغم من هذا التوسع والبحث المعمق في الصورة الفنية ومفهومها لم يتفق الباحثون على مفهوم نهائي، بل اتفقوا في الإطار العام.
تقول الناقدة اللبنانية روز غريب:” الصورة في أبسط وصف لها تعبير عن حالة أو حدث بأجزائهما أو مظاهرهما المحسوسة. هي لوحة مؤلفة من كلمات، أو مقطوعة وصفية في الظاهر لكنها في التعبير الشعري توحي بأكثر من المظاهر، وقيمتها ترتكز على طاقتها الإيحائية، فهي ذات جمال تستمده من اجتماع الخطوط والألوان والحركة ونحو ذلك من عناصر حسية، وهي ذات قوة إيحائية تفوق قوة الإيقاع لأنها توحي بالفكرة كما توحي بالجو والعاطفة”(4).
وأعتقد أن الصورة بهذا المفهوم تنحصر في الشعر الحديث والمعاصر (ما بعد الكلاسيكية الجديدة) – في الغالب-؛ لأن الصورة في الشعر القديم (أو التقليدي) تقوم الوصف الحسي الظاهري، ولا تتجاوزه في الأكثر الأعم إلا في حالات قليلة ومحصورة سواء في تجارب شعراء مثل: أبو نواس، أو في تيارات شعرية مثل: الشعر الصوفي، وهو شعرٌ متفردٌ في الأدب العربي. وإن الصورة الفنية عامل أساس إلى جانب اللغة في إعطاء الشعر سمة الإيحاء.
والصورة الفنية من شأنها أداء المعنى بأسلوب خاص ومؤثر، إذ يقول جابر عصفور:” طريقة خاصة من طرق التعبير، أو وجه من أوجه الدلالة، تنحصر أهميتها فيما تحدثه في معنى من المعاني من خصوصية وتأثير. ولكن أياً كانت هذه الخصوصية أو ذاك التأثير، فإن الصورة لن تغير من طبيعة المعنى في ذاته. إنها لا تغير إلا من طريقة عرضه، وكيفية تقديمه”(5).
فلا تكمن القيمة الفنية للصورة في المعنى ذاته بل في كيفية أداء المعنى، وهذا ما يُنتج الصورة الشعرية، فحين يصف شاعر امرأة ” بالمُتعَبة” لن يقولها كالإنسان العادي، ولنا أن نضرب مثالاً، يقول هاني نديم في سور الله العظيم:

وكمبررٍ
لإشعال لفائفه
في الليالي الطوال،
وصراخه في وجه الأصدقاء،
أحبَّ امرأةً طاعنةً في القهر والحرائق
بشكلٍ متسرعٍ…(ص31)

ونخلص إلى أن الصورة الفنية من أهم عناصر النص الشعري، ولا تنفصل عنه البته، وهي متطورة بتطور الشعر ذاته، وفيها يتجلى إبداع الشاعر وابتكاره، وبها يُعبر عن العواطف والأفكار والرؤى التي يُريد إيصالها إلى القارئ، وكلما اشتغل الشاعر على الصورة أكثر أصبح نصه أكثر خصوبة ومعناه أكثر رسوخاً. ونستطيع القول إن أهمية الصورة الفنية في الشعر تتحقق في أداء وظيفتها أداءً إبداعياً متجدداً، فهي العنصر الأهم الذي يستوعب الإبداع والتجدد بوضوح، وبها أيضاً يحقق الشاعر هويته الشِّعرية الفردية التي تجعل منه شاعراً متفرداً.

ثانياً- مرجعيات الصورة الفنية في الديوان:

عمد الشعراء العرب المعاصرون ضمن ثورتهم التجديدية في الشِّعر إلى توظيف التراث العربي والعالمي في أشعارهم، وبهذا انفتح الشِّعر على عوالم واسعة من الثقافة والمعرفة استلهمها الشعراء للتعبير عن حالاتهم النفسية والعاطفية، وأعادوا إنتاجها بما يتوافق مع ذلك، فالشاعر حين يستدعي أحداثاً تراثية أو تاريخية يكون ضمن الإطار العاطفي للنص، بمعنى أنه يصب في خدمة موضوع النص الذي يُعبر عن واقع الشاعر ومجتمعه. فمثلاً: في أدبنا العربي تُعد المسرحية الشِّعرية” مأساة الحلاج” للشاعر صلاح عبد الصبور واقعية في إطار تاريخي، بمعنى أن عبد الصبور عبر من خلال شخصية الحلاج (المتصوف والفيلسوف الشهير) عن حال المفكر والمثقف العربي المعاصر واشتباكه مع السلطة.”وهذ يسلمنا إلى حقيقة أن الشاعر المعاصر لا يرتبط بالتاريخ ارتباطاً طولياً فحسب، فقد حقق الترابط بين أطراف العالم نوعاً من وحدة لم تكن متاحة للشاعر القديم، وصارت كل قضية يعيشها الإنسان في أي مكان على وجه الأرض هي قضية الإنسان– كل إنسان- حيثما كان”(6).

فالتوظيف التراثي والتاريخي هو تفاعل النص المعاصر مع نصوص قديمة سواء إبداعية أو شعبية، وغيرها، وهو جزء من” التناص”، إذ إن الثاني تتسع دائرته ليشمل تفاعل النصوص المعاصرة مع بعضها، ولم يكتف الشاعر العربي المعاصر بالاعتماد على التراث العربي فحسب بل عمد أيضاً إلى تراث الحضارات الأخرى وأساطيرها، وأهمها الحضارة اليونانية التي مازال شعراؤنا العرب ينهلون من معينها الذي لا ينضب.

وقد أجاد الشاعر هاني نديم في استعمال تقنيات التناص، فلم يكن مجرد ناقل لأحداث التاريخ أو النصوص الدينية بل أعاد خلقها وتطوعيها لحالته الشعورية وواقعه المعاصر، فكانت لبنة أساسية في رسم الصورة الفنية إلى جانب استلهام معطيات الواقع، وهذا ما سنكشف عنه في بعض نماذج من الديوان.

يقول الشاعر:

وكنتُ ثاني اثنين
إذ أنا في الغار
أنينٌ
في مواجهة
أنين
نصفٌ سوريٌ
ونصفٌ من فلسطين
كنتُ معي
أنا.. وأنا
من فُجعنا
ومثلُ كلِ المكسورين
أكلنا كلَّ المواجع…
فجِعنا!
كنت أضحكُ وأبكي
لم تبض حمامةٌ،
ولا عشّشت عنكبوت
فقط،
كان الثاني يمسحُ شعرَ الأولِ كيتيم
ويهمس له:
“لا تحزن… إن الله معنا”( ص15)

لجأ الشاعر هاني نديم إلى استحضار شخصيات ونصوص دينية وتوظيفها في قالب فني بحت، وربطها ربطاً عميقاً بالمعاناة القومية والذاتية. فالشاعر في قصيدة”كان وأبناؤها” يستحضر قصة النبي (صلى الله عليه وسلم) وأبي بكر الصديق في غار ثور حين هاجرا إلى يثرب، وهي قصة مشهورة في التراث الإسلامي، وخلق الشاعر قصة موازية لها بإسقاط حالته العاطفية عليها والتماهي مع الهم الجمعي القومي وما يؤكد ذلك قوله:” ونصفٌ من فلسطين ..”، فالقصة (التراثية أو الدينية) في أصلها هي معاناة أمة، فلا تقتصر المعاناة على النبي فحسب بل تشمل كل من آمن معه، وبذلك فإن قصة هجرة النبي تُعد معادلاً موضوعياً*(7) للمعاناة الإنسانية العربية، بخاصة في سوريا (بلد الشاعر)، فالشاعر عموماً هو نبي للإنسانية يؤدي رسالة المحبة والتسامح، إذ إنه في الواقع العربي يعاني من ويلات الحرب، هو وكل من يؤمن معه بالقيم الإنسانية.

ويقول الشاعر:

منذ ألفٍ.. ويزيد
و” شمّر ذي الجوشن”
ما زال يدور بطبقٍ من ذهبٍ..
يقطع الرؤوس
بسيفٍ من زعاف
وعينٍ من حديد

منذ ألف ويزيد
ورؤوسنا
تقدّم إلى القليل “يزيد”! (ص42)

يستحضر الشاعر مأساة الإمام الحسين بن علي- رضي الله عنهما- التي ألهمت كثيراً من الشعراء المعاصرين، وشكلت أيقونة في الأدب العربي. فالحسين هو الثائر الصادق، والبطل التراجيدي الذي خاض ثورة ضد ظلم بني أمية، وهو يعلم تماماً بأن نهايته ستكون مأساوية، وعلى الرغم من ذلك قد واصل الدفاع عن الحق إلى أن استشهد في سبيله، وباستشهاده وقعت الأمة العربية والإسلامية في محنة كبيرة ما زالت مستمرة إلى اليوم، وأعتقد أنها سبب للدماء التي مازالت تسيل وتُراق بلا حق لأسباب سياسية مغلفة بالطائفية المقيتة، وهذا ما يقصده الشاعر في المقطع السابق، وجاء ذكر” شمّر ذي الجوشن” رمزاً للخيانة والوحشية فهو الذي قطع رأس الحسين في معركة كربلاء، وكان على رأس جيش بني أمية، بعد أن كان مع علي بن أبي طالب وشارك في معركة صفين.

ويؤكد الشاعر على استمرارية محنة المسلمين من زمن الحسين إلى يومنا هذا إذ يقول:
وكلما
نظرنا إلى الوراء
وأينما التفتنا في هذا الدوّ
لا نرى إلا..
كربلاء..(ص44)

ثالثاً- أنماط الصورة الفنية في الديوان:

الشعر- الفن بعامة- هو حاسة الإنسان السادسة، يُعبر به عن ما يُعجز اللغة المعيارية، إذ إنه يخلق فضاء جديداً للغة، محاولاً تفسير الوجود والأشياء، فينقلها من العالم المجرد إلى عالم الحس، وأحياناً يطمح إلى تغير العالم والثورة على الواقع. لأن” مهمة اللغة الأدبية هي أن تجعل الأشياء الموصوفة حاضرة”(8). والشاعر يُدرك العالم الخارجي بالحواس الخمس فيبدأ تكوين المادة الأولية للصورة الشعرية. وتُقسم الصورة الحسية بديهياً إلى خمسة أقسام بحسب الحاسة المُكونة لها: الصورة البصرية، والسمعية، والشمية، والتذوقية، واللمسية. وأرصد مواضع هذه الأقسام في الديوان مبيناً معالم الجمال فيها، على النحو الآتي:

1- الصورة البصرية:

يستمدها الشاعر من المشاهدات والتأملات التي اختزنها الذهن بواسطة حاسة البصر، ويُعيد إنتاجها استجابة للحالة الشعورية التي تعتريه، ولعل حاسة البصر حاسةٌ مركزية، فهناك كثير من الأشياء لا تُدرك ماهيتها إلا بالعين، فهي” الأداة الأولى والكبرى للإحساس بالجمال والإحاطة بمعانيه”(9).

يا لفرطِ هيبتها
هذا المجدُ
قبّل كفّهَا وجرى..
وأتوها
لم يتركوا جرحاً إلا وألقموه ملحا
أعداؤها، أبناؤها
أزرارها والعُرى… (ص10)

يرسم الشاعر للبلاد صورة بصرية غير واقعية، وإن كانت جزئياتها مستمدة من الواقع، فيُعمل الخيال لإيجاد علاقة بين المجد والبلاد، فلا ينقل الواقع المأزوم كما هو إنما يُعيد إنتاجه من خلال صورة بصرية تتميز بالتدفق والحركة، فالمجد ينحني لهذه البلاد، التي كانت مهيوبة على مر الزمان لما لها من أصالة ولما فيها من رجال أجاويد بنوا مجدها، وعلى الرغم من ذلك لم يحلو للمتربصين بالبلاد كينونتها ومجدها، فجاؤوا إليها من كل حدب وصوب، ليزيدوا جرحها ألماً. في قوله:” لم يتركوا جرحاً إلا وألقموه ملحا.” دلالة على تلذذ المنتفعين بألم البلاد، وهؤلاء المنتفعون لم يكونوا أعداء البلاد فحسب، فمنهم بعض أبنائها، الذين من المفترض أن يلتئم بهم الجرح. وقد تداخلت مع الصورة البصرية الصورتين اللمسية( قبّل كفّهَا..) والتذوقية( لم يتركوا جرحاً إلا وألقموه ملحا). إلا أن الصورة الكلية بصرية حركية.

2- الصورة السمعية:

يحفل الديوان بالصورة السمعية، إذ استلهم الشاعر أصوات الإنسان والحرب والكائنات من حوله.” فالسمع واحد من منافذ إدراك الأشياء وتصورها، والإحساس بها، ولقد أثر في ارتقاء ألوان الفنون كالموسيقا والشعر، وهو يعتمد في استلهام قيمه الجمالية على الصوت الذي يُثير فيمن يُصغي إليه، ويستمع إلى نبراته، وهمسه وجهره، وشدته، ولينه انفعالاً خاصاً”.( 10) ومن هُنا نجد أن الشاعر استخدم الصورة السمعية للتعبير عن عواطف ورؤى قد لا يَحسن التعبير عنها بغير ذلك، ومنها:

نحن، عشّاقها غير المخلصين
كان عليها
أن تفتعل كلَ تلك الحرائق
بينما كنّا مشغولين بتطريز الأغاني التافهة
والأحاديث المكرّرة على المصاطب..(ص14)

“الأغاني التافهة” تُعبر عن الانشغال عن معاناة البلاد، فلماذا استخدم الشاعر الأغاني، وهي المدركة بحاسة السمع مع أن اللغة زاخرة بالألفاظ؟ فإن أكثر ما يُلهي الإنسان هو الكلام، وهذا يتقاطع مع قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ..) (لقمان: 6). وأستطيع القول إن الشاعر كان حذراً في إعطاء الأغاني صفة “التافهة” فلو لم يفعل ذلك لكرسَ، في البنية الخفيَّة للنص، للتفسير القائل إن” لهو الحديث” في الآية هو الغناء.

4-الصورة الذوقية:

هي الصورة المستمدة من حاسة الذوق، فالتذوق له أثر في إدراك الأشياء ومعرفة جوهرها، ويرتبط ارتباطاً وثيقاً في بالعاطفة، فالتذوق في جوهره إحساسٌ عميق بالأشياء، ومن هُنا كانت العبارة المشهورة” من ذاق عرف…”.

ويستخدم الشاعر الصورة الذوقية في ثنائية ضديَّة، إذ يقول:

ومثل كل المنتحرين
اكتفيت بامرأةٍ حلوةٍ
حلوة
ضحكتُ بها
على علقم العمر
والخواء؛
نسيتُ حتى قربة الماء
بلعت ريقاً كالسكاكين…

يُظهر الشاعر المعاناة من خلال توظيف الثنائية الضدية” امرأة حُلوة” و “علقم العُمر”، فالذوق رديف الإحساس؛ لهذا قال “حلوة، علقم”. والمرأة معادلٌ موضوعي للشعور بالطمأنينة والجمال فجاءت في النص ضدَّ الحروب والخوف والقلق، ضد علقم العمر.

5- الصورة اللمسية:

هي الصورة المستمدة من حاسة اللمس. فالشاعر المبدع هو من يستطيع أن يستثمر هذه الحاسة في تصوير المدركات اللمسية(11).

ومن الصور اللمسية التي وردت في المجموعة، قوله:

وهي كصوت النسر في الرياح
مسحت على شعر الأغاني
فاسّاقطت قمرا…

فصور الشاعر بلاده سوريا بما يعتريها من خوف وقلق بصوت النسر، إذ يُطلق على صوت النسر صفيراً، وحين يقترن مع صفير الرياح يُكونا صوتاً مخيفاً. ولعل الشاعر استخدم لفظ رياح لا ريحاً لما فيها من دلالة سياقية وإيقاعية تتوافق مع امتداد صوت النسر.
ويرسم الشاعر صورة لمسية مستخدماً لغةً انزياحية موحية، فجعلَ الأغاني لها شعراً والبلاد تمسح عليه، وهو بذلك لا يريد الدلالة اللمسية وإنما يريد الدلالة الرمزية، وهي أن البلاد تَحنُ إلى السلام والجمال بعد خراب كبير، وهذه الدلالة يحملها الفعل الماضي” مسحت”، ولفظ الأغاني.

وفي موضع آخر يجرد الشاعر الصورة اللمسية من دلالتها الحسية إلى دلالة رمزية، فيقول:

لم تبض حمامةٌ،
ولا عشّشت عنكبوت
فقط،
كان الثاني يمسحُ شعرَ الأولِ كيتيم
ويهمس له:
“لا تحزن… إن الله معنا”.

يُريد الشاعر القول إن زمن المعجزات انتهى، وقد تبين معنا التناص الديني في هذا المقطع فيما سبق، والمسح هُنا دلالة على الوحدة والوئام، فلم يعد أمام السوري إلا أن يضع يده في يد أخيه.

ثالثاً- خصائص الصورة الفنية في الديوان:

1- توظيف الحركة:

إن كلية الصورة الفنية في الشعر المعاصر، أي أنها تشمل مقطع كبير من القصيدة، وأحياناً قد تشمل القصيدة كاملة، أسهمت في جعل الحركة سمة أساسية للصورة الفنية المعاصرة، ولهذا فالصورة في الشعر المعاصر لها رونق خاص لا تعرفه الصورة التقليدية الجزئية.
وهاني نديم كغيره من الشعراء المعاصرين اشتغل على الصورة الشعرية، على أساس أنها رافد أساسي من روافد الإبداع والتجديد الشعري، ومن أهم خصائص الصورة الفنية في الديوان توظيف الحركة، كما جاء في نماذج عدة، منها:

والبلاد التي كانت
تلوّح لنا على طريق المدرسة
وتدّس في جيبنا
النجماتَ والسكّر
… والتي لأجلها
نبت الخوخُ في بيوتنا
والقمحُ في البيدر
وكُرمى لعينيها
ذهب “عبدو” للبرازيل
و” قصيُ”.. للعسكر…

يرسم الشاعر صورة مفعمة بالحنين لعهده القديم بالبلاد، إذ جسد البلاد مشبهاً إليها بالأم التي تُجهز أبناءها للمدرسة كل صباح، واتسمت الصورة بالحركة؛ لهذا أكثر الشاعر من استخدام الصيغ الفعلية نحو:( تلوّح، تدّس، نبت، ذهب). وبهذا فتح الشاعر فضاء واسعاً أمام المتلقي ليتأمل هذه اللوحة الحركية بما فيها من عاطفة تُعبر عما يعتري الشاعر من حنين وعدم استقرار، مما أسهم في تقريب الصورة من المتلقي وزيادة تأثيرها.

2- توظيف اللون:

تكتسب الألوان دلالة خاصة في الشعر كونها تعبر عن الحالة الذاتية للشاعر، إضافة إلى دلالاتها العامة، فمثلاً: اللون الأحمر ارتبط بالخطر والدم، والأسود بالتشاؤم والشر، والأصفر بالنشاط، إلخ… وبهذا فاللون يُؤدي مهمة أساسية في الصورة الشعرية، إذ إنه يُسهم في الكشف عن البُعد العاطفي، لأن” ألوان الأشياء وأشكالها هي المظاهر الحسية التي تُحدث توتراً في الأعصاب وحركة في المشاعر”(12).

ولا تُدرس الألوان بمعزل عن سياق النص وجوه العام، ومن هُنا فالمتأمل في ديوان” سور الله العظيم”. يجد أن الشاعر وظف الألوان على قلة؛ لأن الديوان يتمحور حول الخراب/ السواد الذي أصاب بلاده سورية. ومن ذلك ما يأتي:
الثورة.. الـ “وهبناها”
الأولاد والحصاد
نهبها الغراب كحصاة منقلة
وعلمّها السوادَ…

يتحدث الشاعر عن خديعة الثورة، التي علق عليها كثير من السوريين آمال الإصلاح والتقدم نحو الأفضل، إلا أنها انقلبت بين عشية وضحاها إلى نقمة؛ بفعل استغلالها من المنتفعين وتجار الوطن والمبادئ والدم. و” الغُراب” يحمل دلالة الخراب والدمار. وهي الدلالة ذاتها التي تحملها كلمة” السواد”. وفي هذا الصدد نستطيع الإشارة إلى أن كلمة” السواد” أصبحت في عُرف السوريين تدلُ على التنظيمات الإرهابية المتشددة، وداعش على وجه الخصوص، وهذا أيضاً يتوافق مع الدلالة العامة للون الأسود.

3- توظيف المكان:

تجليات المكان في العمل الأدبي تحمل أبعاداً شعرية تتجاوز تلك التي تبدو في القراءة الأولية، فالمكان يرتبط بالنسق الشعوري للنص بعامة. ولا يقتصر على كونه أبعاداً هندسية فحسب، يزيد على ذلك كونه نظام من العلاقات المجردة الذي يستمد من الأشياء المادية الملموسة(13)، ناهيك عن أن المكان يُسهم في بناء المعنى الشعري(14). ولعل تجليات المكان في ديوان سور الله العظيم لها أهمية كبيرة مع أنها لم تُشكل ظاهرة، وجاءت على قلة، منها:

يقول الشاعر:
كان يردد في حنين
أنا الذي
في الثكنة المنسية على ضفاف الفرات الحزين.
نمت طفلا
وأفقت والشعر يملأ زنديّ وكتفيّ..
أفقت رجلا!
وصار بإمكاني تحرير فلسطين. (ص36)

كان بإمكان الشاعر ألا يذكر فلسطين ويؤدي المعنى كاملاً، ولكنه أراد أن يزيد دلالة أخرى، وهي التأكيد على أن قضية فلسطين ما زالت قضية العرب الأولى حتى وهم منشغلون بحروبهم المصيرية الكبرى، فلسطين ليست مجرد مكان بل هي ترابط شعورياً بالتضحية والنضال.
ظَنَّ كثيرون أن الفلسطيني استسلم وانتهى أمله، وماتت قضيته في الضمير العربي بعد ما أنتجته قوى الاستعمار والرجعية من قضايا خلافية وفتن طائفية وخراب عمَّ الوطن العربي كله، إلا أن العربي ما زال يعرف بوصلة الحق والحقيقة جيداً. نعم هي فلسطين؛ فالشعوب العربية تهتف عاشت فلسطين وهي في أوج مصائبها.

ويقول الشاعر مستحضراً كربلاء:

ركضنا ـ بلا دربٍ ـ إلى الأمام
كالممسوسين..
وكلما
نظرنا إلى الوراء
وأينما التفتنا في هذا الدوّ
لا نرى إلا..
كربلاء..

تشكل معركة كربلاء أيقونة في الفكر العربي؛ لما تحمله من ثنائية التضحية والعطاء الإنساني من جهة، والظلم والقتل والدماء من جهة أخرى، إذ استشهد في تلك المعركة سيد الشهداء الحُسين بن علي وهو يُقاتل نصرةً للحق أمام جيش يزيد بن معاوية، وكانت هذه المعركة القشة التي قصمت ظهر البعير، فحددت شكل النظام السياسي العربي فيما بعد استشهاد الحسين وانتصار الأُمويين. ومازالت كربلاء تتضمن رمزية الفتنة بين الأخوة، ومن هنا استحضرها الشاعر.

تناولت هذه القراءة التحليلية الصورة الفنية في ديوان” سور الله العظيم” للشاعر السوري هاني نديم، وتتضمن التعريف بالشاعر وشعره، والكشف عن مرجعيات الصورة الفنية، والتعرف إلى أنماط الصورة الفنية وخصائصها في الديوان.

وتوصلنا إلى نتائج عدة، أبرزها:

1.تُشكِّلُ الصورة الفنية أساس التجديد في الديوان، وقد أسهم استلهام الشاعر من الموروث الشعبي والديني والتاريخي في جعل الصورة متعددة الدلالات ومفتوحة على التأويل.

2.توافقت أنماط الصورة الفنية وخصائصها مع الحالة الشعورية للشاعر، فلم يحاول الشاعر استعراض مهاراته اللغوية والشعرية بقدر ما تجلى الصدق العاطفي.

3.إن اختيار هاني نديم عناوين قصائد الديوان اعتمدَ على رؤية فنية فائقة، فجاءت ذات دلالات قابلة للتأويل، علاوة على اكتناز لغة العناوين بالقيم التعبيرية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإحالات:

1. الجاحظ، أبو عثمان: الحيوان، تحقيق عبد السلام هارون، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط3 ،1969م، ج3 ص،131–132.
2. البصير، كامل حسن: بناء الصورة الفنية في البيان العربي، المجمع العلمي العراقي، 1987م، ص24.
3. جعفر، قدامة: نقد الشعر، ص 13.
4. غريب، روز: تمهيد في النقد الحديث، ص191.
5. عصفور، جابر: الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي، ص392.
6. إسماعيل، عز الدين، الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، دار الفكر العربي، ص15
7. المعادل الموضوعي:” الطريقة الوحيدة للتعبير عن المشاعر فينا هي إيجاد موقف، أو سلسلة من الأحداث والشخصيات، التي تعتبر المقابل المادي لتلك العاطفة”. عناني، محمد: المصطلحات الأدبية الحديثة، دراسة ومعجم إنجليزي عربي، ط3، القاهرة، الشركة المصرية العالمية للنشر ـ لونجمان. سلسلة أدبيات. 2003. ص54.
8. تودوروف، تزفيان : الأدب والدلالة، ص116.
9. نافع، عبد الفتاح صالح، الصورة في شعر بشار بن برد، ص100.
10. إبراهيم، الوصيف: التصوير البياني في شعر المتنبي، ص308.
11.انظر: إبراهيم، الوصيف هلال، التصوير البياني في شعر المتنبي ص317.
12. إسماعيل، عز الدين: التفسير النفسي للأدب، ص67.
13. انظر: عثمان، اعتدال، إضاءة النص، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998م، ص5.
14. انظر: جريكوس، تيسير سليمان، العَلم وشعرية الصورة عند البياتي، إربد للبحوث والدراسات، جامعة إربد الأهلية، 1981م، ص31.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى