مصحة عقلية للمجتمع

مصحة عقلية للمجتمع
خالد جهاد- كاتب فلسطيني
إذا تأملنا جيداً أي تجمعٍ للأطفال في روضة على سبيل المثال، سنجد العديد منهم في حالة ٍ من الإنسجام، ولا يخلو الأمر من بعض المشاحنات والغيرة كسلوكٍ طبيعي فيما بينهم وحتى ما بين الإخوة، لكن في الوقت الذي يتم فيه الحديث عن التربية خاصةً تربية الذكور، تذكر حالة من التمييز لصالحه فيما يتم فرض الكثير من القيود على الإناث وهذا فعلاً جزءٌ من الواقع في مجتمعاتنا، فنرى دوماً الصورة مجتزئة دون أن نلاحظ كافة أبعادها، فالصبي الذي يحظى (شكلياً) بهذه الإمتيازات يكبر في أوساط ٍ متناقضة تخلق حالةً من الصراع بداخله، وينشأ على مفاهيم مشوهة تحيط بسلوكه وصورته التي ينبغي أن يكون عليها مابين ضوابط دينية وأخلاقية يجب عليه التحلي بها، وأعراف مجتمعية لا تمانع من أن يفعل ما يحلو له مع أن الدين والأخلاق تسري مفاهيمهما على الجميع.
وعندما يخرج هذا الرجل الشاب إلى الحياة ويحتك بها فعلياً يجد أن معظم ما نشأ عليه في محيطه يحتاج إلى إعادة النظر في مصداقيته، بين مبادىء ثابتة ومفاهيم متغيرة بتغير الزمن والمصالح والموجات والتيارات الفكرية ولا ضحية فيها سوى الإنسان بكل تأكيد.
وسيجد هذا الرجل الذي ولد ممتلكاً للإمتيازات كما يشاع في بعض الأوساط في بلادنا نفسه مكبلاً بلا صوت، خائفاً من التغيير أو إبداء رأيه في الحياة والعمل والعديد من القضايا، كما سيجد أنه محرومٌ من التعبير عن مشاعره أو من الجهر بحبه، فالمجتمع الذي أعطاه صلاحية أن يكون له نزوات محرمة لأنها عابرة(وسيفيق منها لاحقاً) يمنعه من أن يحب بصدق، ويمنعه من التعلق بإمرأة أو التمسك بها أو البكاء لأجلها لإعتباره ذلك ضعفاً يقلل من رجولته، فالحب النقي ضعف بينما المغامرة (فحولة) أو (شقاوة) كما جرى العرف، وعند رغبته الجدية في الإرتباط والتي كثيراً ما تكون بطريقة تقليدية بعيدة عن العواطف سيجد أمامه قائمةً طويلة من المتطلبات التي تفوق استطاعته، والتي تحدد بشكل أو بآخر مفهوم (الرجولة) لدى الكثيرين (وإن أنكروا ذلك) كي لا يظهروا بصورة تعكس نظرتهم المادية الجشعة التي تحول العلاقات إلى (صفقات) بطريقة منمقة اجتماعياً.
وحتى في حال استطاع المرور بكل تلك المراحل سيظل في حالةٍ من الصراع الداخلي بين مورد رزقه الذي يعيل من خلاله أسرته حتى وإن كان مليئاً بالسلبيات التي تؤرقه، وبين طموحه الذي أصبح مكبلاً لأنه لا يملك قراره بسبب التزاماته التي تضعه تحت ضغط نفسي كبير لا يستطيع أن يعبر عنه (لأنه رجل) ويجب أن يتحمله، فيتألم عندما يشعر أن مجرد البوح بتعبه غير مسموح ولن يحظى بالتعاطف عكس مايحصل مع المرأة (في هذه الجزئية)، ليجد أن كل المميزات التي أشيعت عنه لمجرد أنه ولد ذكراً في مجتمعاتنا هي محض خرافة، وأنها جردته من إنسانيته ببطىء حتى أنه لم يعد يشعر بها أو يشعر بكيانه، فسقطت منه في الطريق عاطفته وأحلامه وطموحاته وتحول لمجرد رقمٍ في الإحصائيات لا يقدم أو يؤخر، يتحدث العديدون على الشاشات باسمه دون أن يفوضهم ودون أن يحكوا عن واقع مايعيشه، ويجد نفسه في مواجهة لم يخترها مع المرأة والساسة والمثقفين وبائعي الخضار وسائقي الحافلات ورب العمل وعائلته، متخيلاً لهم جميعاً يحيطون به ويوبخونه بصوتٍ عالٍ في نفس الوقت بينما يستلقي بصمت في فراشه محاولاً أن يغمض عينيه ليسترخي، وترتسم على وجهه ابتسامة سخريةٍ مرة من مجتمعٍ متناقض يبدو كمصحة عقلية، رسم له حياته ومفاهيمه ثم يحاسبه لأنه اتبعها، ويعيره ب(مزاياه) ويؤنبه لأنه لم يثر عليها، كعادته في صنع الفساد والتشكي منه واقصاء العقلاء والندب عليهم بعد وفاتهم.