مقالات رئيس التحرير

في المسرح الواقعي 

في المسرح الواقعي

بقلم: جواد العقاد/ رئيس التحرير

تمهيد

المسرح من أقدم الفنون وأكثرها قدرة على الإقناع والتأثير، وأجيز لنفسي القول بأنه فن الجماهير لاسيما في عصوره الأخيرة، لأنه يحاكي حياة الناس اليومية ومشكلاتهم الكُبرى منها والصغرى وتقاليديهم الاجتماعية والدينية وغيرها. دائمًا نسمع مقولة “المسرح أبو الفنون”؛ فشتى أنواع فنون الأدب وغيرها من الفنون القديمة والحديثة انسلت من المسرح؛ فهو لديه القدرة ليتضمن كل الفنون ويعرضها بأساليب مبتكرة، ونشاهد هذا اليوم في السينما أيضًا وهي بلا شك تطور للمسرح وابن شرعي له.
وقد مر المسرح بمراحل وتطورات مختلفة يتضمن كل منها موضوعات تناسبها وبالتالي ينعكس ذلك على طبيعية المسرح وأهدافه. وبالطبع كل الفنون تتأثر بالتغيرات الحياتية والتحولات الفكرية، وهذا ما يُفسر وجود تيارات أدبية مثل: الكلاسيكية، والكلاسيكية الجديدة، والرومانسية، والواقعية وغيرها.
ولابد من الإشارة إلى أن المسرح نشأ لأداء طقوس دينية في العهود الوثنية زمن الإغريق وتطور ليصبح فنًا له شروطه الخاصة. وظل منذ الإغريق يكتبُ شعرًا حتى وقت قريب دخله النثر بخاصة مع الواقعية التي فضلت المسرح النثري، حتى أصبحت السيادة اليوم للثاني مع وجود عدد قليل من كتاب المسرح الشعري. وأشير أيضًا إلى أن المسرحية لا تكتمل إلا إذا خرجت من الورق إلى خشبة المسرح.

ومما تقدم نُعرفُ المسرحية على أنها: فن شعري أو نثري يُقدم على خشبة المسرح، ويناقش قضية معينة في سبيل معالجتها وتسليط الضوء عليها، وتقوم المسرحية على الحوار بشكل أساس إضافة إلى مقومات أُخرى مثل: الصراع، والحبكة، والمكان، والزمان، والشخصيات.
هذا تعريف عام للمسرحية يحدد ملامحها بحيث يقول لنا هذا الجنس الأدبي مسرحية. إذن ينبغي على كل مسرحية أن تكون هكذا، فحين نتحدث عن المسرح الواقعي ينطبق عليه هذا التعريف من حيث الهيكلية العامة، وفي هذا البحث سنتعرف على طبيعة المسرح الواقعي وظروف نشأته.

في نشأة المسرح الواقعي:

بعد الفشل الذريع للمذهب الرومانسي في الفن والأدب الذي كان يعتمد في المقام الأول على الخيال والأحلام الوردية. وكان أدباء الرومانسية يغردون بعيدًا عن الواقع ومشكلاته المعاصرة، لكن هذا الحال لم يدم طويلًا حيثُ اصطدم الأدباء بواقعهم المتأزم إضافة إلى ظهور تيارت فكرية أثرت على الأدب بشكل مباشرة أهمها الوجودية التي ترى أن الإنسان يحقق وجوده بموقفه من الحياة والقضايا المحيطة به، والاشتراكية التي دعت إلى التزام الأدباء بوقفهم مع هموم الطبقة المهمشة. ومن هنا تبلور المذهب الواقعي في الفنون. وهنا أخصص حديثي عن موضوع البحث، الواقعية في المسرح.
وقبل الشروع بالحديث عن المسرح الواقعي بالمعنى الذي مهدت له. لا بد من الإشارة إلى ما عُرف بالواقعية الطبيعية وجوهرها: جعل الأدب في خدمة العلوم والاكتشافات العلمية. ويقول الأستاذ الدكتور فوزي الحاج في هذا السياق عن المذهب الطبيعي:” لنا أن نعتبره التطبيق المتطرف للواقعية”. أرى أن هذا المذهب مجاف لجوهر الأدب المعتمد على الخيال والعاطفة فلا يمكن بأي حال من الأحول وجود أدب بدون هذين الشرطين؛ لذلك لم تكتب لهذا المذهب الحياة، ولن يعمر أي مذهب لا يراعي جوهر الأدب وارتباطه بمزاج الإنسان والتغيرات البيئية. ويعلل الأستاذ الدكتور فوزي الحاج ظهور هذا المذهب: ” من الواضح أن هذه الآراء جاءت نتيجة انبهار الأدباء بالتقدم الذي طرأ في مجال العلوم، بينما ظلت الآداب وعلومها تتحرك ببط”.
إضافة إلى اتخاذ الواقعية الطبيعية من الاكتشافات العلمية مادة لها فإنها تبغي تسجل الواقع كما هو. وهذا، كما أسلفت. مناقض تمامًا للأدب، لأنه يجعل منه مادة تاريخ، والتأريخ يفسد الأدب، في رأيي.
ومن أشهر أدباء هذا المذهب الأديب الفرنسي إميل فرانسوا زولا.
وكثير من مؤرخي الأدب يزعمون تفرع المذهب الطبيعي عن الواقعي ومنهم الكاتب المصري دريني خشبة في كتابه أشهر المذاهب المسرحية. لكني أرى هذا الأمر غير دقيق وأن كل منهما مذهب منفصل تمامًا عن الأخر، لسبب بسيط وهو الاختلاف في الجوهر، أي في طريقة فهم الأدب. ناهيك عن اختلاف أسباب نشأة كل منها.
المسرح الواقعي لا يسجل الواقع كما هو بل يعرض أحداث تخيلية متوقع حصولها في الواقع وربما يحدثُ ما يشبهها كل يوم، ويعالج تلك الأحداث بطريقة فنية، وهو بذلك يلمس أوجاع وأفراح الإنسان العادي. في هذا السياق يقول الأستاذ الدكتور فوزي الحاج: الكاتب الواقعي في المسرح لا ينقل الحياة الواقعية نقلًا حرفيًا أو نقلًا فوتوغرافيًا .. بل يلخصها ويعطيها جوهرها”(1). ويقول الدكتور عمر الدسوقي: ” إن الأديب حين ينطق شخصياته بعبارات واقعية، إنما يتخيل أن هذه الشخصيات لو وُجدت في واقع الحياة كانت تفوهت بمثل هذه العبارات”(2) . إذن الواقعية هي محاكاة الواقع لا صورته.

تعزز المسرح الواقعي مع مسرحيات الكاتب الألماني هيبل وإصدار الناقد هيرمان هتنز كتاب بعنوان “المسرحية الحديثة”. وقد بين فيه أهمية هيبل في نهضة مسرحية عظيمة. هذه كانت بدايات متينة للمسرح الواقعي الذي بلغ ذروته مع الكاتب النرويجي إبسن، وهناك اجماع من مؤرخي الأدب على أن إبسن رائد الاتجاه الواقعي في الدراما الحديثة(المسرح الواقعي) وهذا بلا شك لأنه أبدع في تطبيق تعليمات الواقعية في المسرح وقد اكتملت على يده.
ظل للرومانسية أثر في مسرح إبسن الواقعي حتى كتب مسرحية سياسية واقعية تمامًا بعنوان” رابطة الشباب” وجه فيها نقدًا لاذعًا للساسة. وبلغت الواقعية أوجها في مسرحيته الرائعة الشهيرة” بيت الدمية” التي يعالج فيها حقوق المرأة. وقد تأثر بإبسن الكاتب الإنجليزي جورج برناردشو، أستاذ السخرية في المسرح الواقعي، وكان الاتجاه الواقعي مناسبًا لبث أفكاره الاشتراكية ومهاجمة الرأسمالية، كما عُرف عنه. وقد غلبت على مسرحه الملهاة. وفي المقابل كان الكاتب الإنجليزي سومت هوم مأساوي في مسرحه إلى أبعد حد. إذن فالمسرح الواقعي ينقد الواقع إما بالسخرية منه أو إثارة أسوء ما يتعرض له الإنسان(مأساة).
وبما أن أهداف المسرح الواقعي تتمثل في نقد الواقع البائس والتعبير عن حياة الإنسان المعاصر فإني أرى ظهور المسرح التاريخي لم يكن مناهضًا للمسرح الواقعي بالمطلق وإنما هو بناء عليه؛ فالأهداف ذاتها. ولو كان المسرح التاريخي تاريخيًا خالصًا ما نجح وأعتقدُ أنه مازال كذلك. لاسيما أن أول من كتب مسرح من هذا الطراز هم رواد الواقعية، حيثُ كتب شو مسرحية “جان دراك”. وهو الرجل الثاني في المسرح الواقعي بعد إبسن.
المسرح التاريخي يلتقط الأحداث التاريخية التي تشبه وجعنا اليوم ويعرضها بطريقة فنية مبدعة.
ومن هذا النوع المسرحي في أدبنا العربي مسرحية “مأساة الحلاج” وهي مسرحية شعرية كتبها الشاعر المصري صلاح عبد الصبور عام (1964م) عن حياة المتصوف والشاعر والفيلسوف العباسي الحسين بن منصور الحلاج أبي المغيث.
والمتأمل في المسرحية يجدُ أنها مأساة صلاح عبد الصبور وليست مأساة الحلاج، وأجيزُ لنفسي القول بأنها مأساة كل مثقف ومفكر عربي يرفض الواقع العربي البائس ويخوضُ معركة الوعي ضد السلطات الاستبدادية .
نحن بالقراءة في التاريخ قد تعرفنا على حياة الحلاج الحافلة بالمصاعب والصدمات السياسية والاجتماعية، ولأن التأريخ ليس من مهمة الأدب؛ فهو لا يستوعب حقائق التاريخ كاملة دون اجتزاء أو تحريف، على ما أعتقد. لهذا يمكننا القول، وبكل ثقة، إن عبد الصبور استلهم قصة الحلاج المأساوية واتخذ من شخصيته قناعًا يقولُ من خلاله كل ما يريد خوفًا من مصير مشابه. مأساة الحلاج مأساتُنا جميعًا، مأساة كل مفكر عربي مجدد رافض للفكر السلطوي.

سمات المسرح الواقعي:

1.مستمد من الواقع بعيد عن الخيال والتاريخ، وإن وجد في النص المسرحي الواقعي خيالًا أو أحداثًا تاريخية فهذا ضمن الإطار الخارجي للمسرحية، بمعنى أنه يصب في خدمة موضوع المسرحية التي تعبر عن واقع مؤلفها ومجتمعه. مثلًا: في أدبنا العربي تُعتبر مسرحية “مأساة الحلاج” للشاعر صلاح عبد الصبور واقعية في إطار تاريخي، بمعنى أن عبد الصبور عبر من خلال شخصية الحلاج( المتصوف والفيلسوف الشهير) عن حال المفكر والمثقف العربي المعاصر واشتباكه مع السلطة.
2. يرفض أمرين: المبالغة في مشاعر الحزن لاسيما في الحب، والمبالغة في تصوير الواقع وإظهاره مثاليًا.
وإننا نجد هذين الأمرين من سمات المذهب الرومانسي الذي حاربته الواقعية، بل كان تبلورها ردة فعل عليه.
3. التزام الأديب بقول الحقيقة دائمًا، وعليه التحرر التام من تقاليد المجتمع والسلطة، والتمرد على الآداب القديمة التي لا تلائم واقعه.
هذه أهم سمات الواقعية، فهي تحاكي الواقع وبالتالي تنقد السلطة وترفضها، فلو تأملنا حياة أدباء الواقعية نجدهم في اصطدام دائم مع السلطة في سبيل قول الحقيقة. سواء السلطة السياسية أو المؤسسة الدنية أو سلطة التقاليد الاجتماعية البالية.
4.تجرد الأديب تمامًا من عواطفه الشخصية وأفكاره فلا يُظهر انحيازه لقضية معينة، فالمسرح الجيد هو الذي لا يُظهر شخصية مؤلفه. وذلك مثله مثل العالم في المختبر، أو القاضي في انصاف المتخاصمين. ويحاول فلوبير تدعيم هذه الدعوة: “إن هذا الإلهام لا يأتي من تلقاء نفسه ولكن نحن من يُهيئ له الفرص”
في اعتقادي هذا الأمر مستحيل؛ فمهما حاول الأديب الواقعي التجرد سيبقى شيء من الذاتية في طرحه، حتى وهو يدافع عن الحقيقة ربما هي كذلك من منظوره ووفق خلفيته الثقافية ولكن في منظور غيره لا. فالإنسان دائمًا منحاز لقضاياه. وإن دعوة فولبير لرفض الإلهام مجافية لطبيعة الفن والأدب. فإن هيئة الظروف للواقعية تصدر الفنون والآداب على حساب الرومانسية، فإنه من المستحيل الغاء شرط الصدق الشعوري الذي يحققه الإلهام. وربما دعوته هذه منافية لما أنتجه أدباء الواقعية أنفسهم .
5.لا يخدم هدفًا سياسيًا أو اجتماعيًا أو دينًا، بمعنى أنه لا يتبنى موقفًا أيويولوجيًا، فالأدب بحسب رأي الأديب الفرنسي الواقعي فلوبير هو كالتصوير والموسيقى غايته التعبير. وفي هذا السياق يقول الدكتور محمد منظور: ”والواقعية لا تبشر بشيء ولا تدعو إلى سلوك خاص في الحياة وإنما كل همهما هو فهم واقع الحياة وتفسيره على النحو الذي تراه.” ترنو الواقعية لفهم الواقع بغرض اصلاحه” كما أنها تنفر من قبل الواقع وتدفع إلى اصلاحه”(3)
ولكن الأدب دائمًا، وأعني ما أقول تمامًا أو بالأحرى ما أعتقد. يحمل في تكوينه أهدافًا وأيديولوجيا سواء عن وعي من الكاتب أم هي أفكار منغرسة في لا وعيه. بعبارة أخرى: يحاول الكاتب اقناع المتلقي بأفكار معينة قد تكون واضحة أو تحتاج تأمل للكشف عنها.
6.يهتم بعامة الشعب؛ لهذا يهاجم أتباع المذهب الاتباعي لأن مسرحهم موجه للطبقات العُليا من المجتمع، كما يهاجم المذهب الابداعي لأنه يجنح إلى الخيال غير مكترث بويلات الواقع. يعني أن المسرح الواقعي يحاكي العادي اليومي في الناس.
7. يؤثر النثر على الشعر، ونحن نعرف أن مسرحيات المذاهب السابقة للواقعية كانت تكتب بالشعر. وهذا الإيثار على أساس أن الشعر له قواعد يسهل حفظها والسير على منوالها وهي ملزمة للشاعر، أما النثر يعطي الأديب طاقة للإبداع الخلاق.
وأرى أن هذه السمة ملائمة للواقعية باعتبار أن مسرحياتها موجه إلى عامة الشعب وتتضمن موضوعات حياتية يومية فلا بد أن تكون بلغتهم البسيطة المفهومة لا بلغة الشعر الفخمة. ومع ذلك ينبغي المحافظة التامة على المستوى الفني للمسرحية، وهذا الأمر يتطلب أديب حاذق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)فوزي الحاج ( بروفيسور)، المسرحية والرواية والقصة القصيرة، جامعة الأزهر، ط2، ص48
(2)عمر الدسوقي( دكتور)، المسرحية، دار الفكر العربي، ص292.
(3)محمد منظور، الأدب ومذاهبه، ص98.

زر الذهاب إلى الأعلى