مقال بعنوان (فلسطين.. لماذا؟)

مقال بعنوان (فلسطين.. لماذا؟)
خالد جهاد
لا يستطيع أحدنا إنكار تأثره بما يحدث في وطنه أو في أي بلد آخر، خاصةً في بلادنا العربية، نظراً لما يجمعنا من قيمٍ تربى عليها جيلنا وانتقلت إلى الأجيال التي تصغرنا وإن كانت بشكلٍ أقل، لذا كانت تنتابني مشاعر مختلفة ومتناقضة تصل إلى الانطفاء أحياناً فيما يتعلق بفلسطين، رغم إيماني العميق بقضيتها بسبب حالة الانقسام والتشويش والتشويه التي تطالها باستمرار، وتتزايد مع كل عدوان صهيوني جديد فتحظى ببعض التعاطف المؤقت الذي لا يلبث أن يتلاشى بعد انتهائه بمدة وجيزة.
وبينما كنت أتحدث بصراحة مع أحد المقربين عن ذلك، وعن المفارقات حول هذا الموضوع لفتتني جملة قالها لي فأخبرني أن الإنسان عموماً، وبشكل خاص في الوقت الحالي، لا يهتم بشيء حقاً إلا إذا شعر بأنه يشبهه أو قد يمسه بشكل مباشر، وأن الأشخاص بعيداً عن الكاميرات والمنابر والأحاديث العامة لا تهتم فعلياً بالقضية الفلسطينية ولكلٍ أسبابه، ومع كل ما تملكه فلسطين وشعبها من تاريخ ومقومات وقضية عادلة إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أنها أولوية، وربما لو كنَّا من أعراقٍ أخرى آسيوية أو إفريقية لكان الاهتمام أقل بكثير مما هو عليه.
فمع أن هناك متضامنين من مختلف دول العالم إلا أن سمة العصر هي الملل والتراخي والفردية والبحث عن الربح السريع والمصالح؛ لذا لا تنفصل القضايا الكبرى عن حال الناس في الواقع، والعالم بكل صدق لا ينظر إلى ما يحدث في الدول الفقيرة أو أفريقيا كما ينظر إلى أي حدث في أوروبا، أو أي دولة غربية كبرى إذا أردنا الحديث بتجرد، كما أن العديد من وسائل الإعلام تتخذ من الواقع الفلسطيني فرصةً للظهور أو تحقيق (تريند) كما أصبح الحال في زمننا الحاضر، وهنا بدأ يُولد بداخلي سؤالٌ كبير: فلسطين.. لماذا؟
ما الذي قد يجعل إنساناً عادياً غير فلسطيني يساند قضيتها إذا استثنينا البعد القومي والديني، فنظرت إلى المرآة وتساءلت هل الإنسان هو الإنسان؟ هل هناك حقاً ما يجمعنا؟ وتذكرت وثائقياً شاهدته منذ أكثر من عشرين عاماً من إعداد أحد دول أمريكا اللاتينية عن حياة الغجر، وجاءت السلطات في أحد مشاهده لإزالة بعض الخيام التي يعيشون فيها ليواجهوا مقاومةً عنيفة لهم، لكن ما استوقفني هو ما تفوهت به إحدى الغجريات عندما واجهت أحد رجال الشرطة قائلةً: «تريدون تهجيرنا من خيامنا وموطننا لتأتوا بأشخاص آخرين ليأخذوا مكاننا كما فعل الصهاينة في فلسطين؟» بالطبع استغربت كثيراً من كلامها، فالكثيرون بكل أسف ينعتون الغجر وغيرهم من الفئات بالجهل والتوحش والفوضى (زوراً وكذباً)، فيما تذكر إحدى نسائهن في أقاصي الأرض حقيقةً يزايد عليها كُثُر.
وهنا قلت لنفسي إن (من يريد حقاً) أن يكون إنساناً حقيقياً لن يمنعه من ذلك شيء، وستجد كل فئةٍ ما يشبهها ويدفعها لأن تكون مع فلسطين ومع أي حق إنساني؛ لأن البشر عانوا في مختلف بقاع الأرض، وليس فقط في فلسطين كما ينسى بعضنا أحياناً، والإنسان مرآة لأخيه الآخر في كل مكان، فالسكان الأصليون من الهنود الحمر في أمريكا (رغم الجدل حول تسميتهم) مروراً بالفصل العنصري في جنوب أفريقيا ومجازر أرمينيا ورواندا والبوسنة وبورما، وغيرهم الكثير حول العالم يمكننا أن نرى انعكاس ألمهم وبصمات وجعهم وملامح قهرهم جميعاً في فلسطين.
يمكن لكل من ظُلم أو خسر عزيزاً أو حرم منه أن يجد نظيراً له هناك، ويمكن لمن سلب منه بيته وأرضه أمام عينيه أن يشاركه مشاعره، يمكن لكل من يشعر بالغربة في وطنه أو يشعر بالتمييز ضده أو سمع الأكاذيب تطاله أن لا يعتقد أنه وحده، يمكن للأطفال الذين صودرت طفولتهم وللنساء المعنفات والمغتصبات، وللشباب الذين يشعرون باليأس أن يجدوا ما يشبههم في فلسطين، يمكن للعربي والإفريقي والكردي والمغاربي والأرمني واللاتيني أن يرى صورته في مرآة فلسطين، ويشعر أنها تعنيه أيضاً، وتشبه روحه أكثر من ملامحه؛ لأنها تشبه قصة الإنسان وتناقضاته وصراعاته منذ بدء الخليقة، ومن يقرأ سطورها بتمعُّن لن يسأل بعد الآن: فلسطين.. لماذا؟