ثقافةمقالاتنصوص

يوميات متخيلة: لقاء عفوي على هامش البرد مع بورخيس وزافون وإدوارد سعيد وعبد الفتاح كيليطو 

يوميات متخيلة: لقاء عفوي على هامش البرد مع بورخيس وزافون وإدوارد سعيد وعبد الفتاح كيليطو

بقلم: د. إيهاب بسيسو/ كاتب وأكاديمي

وجدت مواقف كثيرة في ذاكرتي، لم أكن قد انتبهت لها من قبل، أو ربما احتفظت بها كما يحتفظ المهاجرون بأمتعتهم القليلة في صناديق كرتونية في حجرات معزولة ثم ينسون وجودها في ازدحام الحياة، أو ربما تشبه تلك المواقف مقبرة الكتب التي أشار لها كارلوس زافون في رباعيته الرائعة في برشلونة، حيث تختار الكتب – المواقف قارئها، لا العكس …

أفضل استعارة أخرى، كأن أراني في قاعة فسيحة، تشبه مكتبة عامة أو ربما مستودعاً ضخماً، تكدست فيه أمتعة كثيرة وحقائب وصور ولوحات زيتية …

هنا في هذا المكان الغامض، الأقرب هندسة إلى مكتبة بابل بحسب بورخيس، شاعر الأرجنتين العظيم، أجلس إليَّ، أنقب في الحقائب المهترئة والكتب التي تركها أبي كذكرى دائمة وتلك التي اقتنيتها عبر مدن عدة من تنقل وتجوال عن ذاتي المفتتة على الطرقات، أنا ابن الرحيل الدائم، المستقر في هشاشة النصوص اليومية، وفي لعبة وقت لا يكف عن اختباري

قبل سنوات أصدرت مجموعة شعرية بعنوان “يحدث في ساعة الرمل” كنت أحاول فيها التنقيب عن ذاتي الفردية بعد انقسام بقايا الجغرافيا في صيف ٢٠٠٧، ومنذ ذلك التاريخ أصبحت أراني حبيس تلك الساعة الرملية المتخيلة التي ما أن يمتلئ نصفها السفلي حتى يتم قلبُها ثانية بصورة آلية وهكذا أبدو في حالة دوران سوريالي، أخشى من أن يفقد قيمته مع التكرار العدمي …

منذ عدة أيام اجتاحتني الكوابيس وموجات النوم المتقطع على هامش نزلة برد حادة، حاولت خلالها تهذيب الوقت بالقراءة ما استطعت …

لا أدري إن كان ذلك الخيار ملائماً لمواجهة الحمى في اجتياحها البشع والذي تتقن فيه سلب الراحة ومزج الوقت بالهذيان …

اتذكر مقولة بورخيس عن رغبته في أن تكون الجنة مكتبة كونية، غير أنني سرعان ما أنتفض جزعاً قبل اكتمال الفكرة وأنا أتذكر كتاب “لمعاينة الجمهور: الفلسطينيون في الأرشيفات العسكرية الاسرائيلية” الصادر في ٢٠١٨ عن مركز مدار في رام الله من تأليف وإعداد رونة سيلع، وحكايات فيصل حوراني وسميح شبيب وصبري جريس عن سرقة جنود الاحتلال مكتبة مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت، إبان اجتياح لبنان عام ١٩٨٢.

أخشى على تلك الجنة الكونية المتخيلة من عبث الجنود اليومي في الاجتياحات، ربما لهذا رأيتني فجأة في يوميات رام الله خلال اجتياح عام ٢٠٠٢ واقتحام جنود الاحتلال مركز خليل السكاكيني والعبث بمقتناياته وبعثرة الأوراق والكتب واللوحات …

كنت حينها في بريطانيا طالباً في قسم الدراسات العليا في جامعة كارديف في كلية الصحافة والإعلام والدراسات الثقافية، أتابع ما تيسر من أخبار الوطن في الاجتياح قبل ثورة السوشيال ميديا …

كان لي أن أتخيل وجه محمود درويش عند رؤيته عبث الجنود بمكتبه في مركز خليل السكاكيني والذي كان يصدر منه مجلة الكرمل الثقافية …

عند عودتي إلى رام الله مطلع ٢٠١٢ سارعت إلى زيارة المركز، كنت أتخيل طوال الفترة السابقة حجم الدمار الذي حصل للمكان في اقتحام جنود الاحتلال، أكاد أجزم أنني رأيت وجوههم الشمعية في الكوابيس وهي تنقض على المكاتب والأوراق واللوحات، وحجم الغضب الذي اجتاح رأس محمود دروريش آنذاك …

رحل الجنود خارج مركز السكاكيني وعادت إليه الحياة، غير أنني في كل مرة أزور المكان أشعر بقلق خفي من أي اعتداء غامض، هل هي صدمة الحرب المخزنة في وعينا اليومي

من الرغبة باعتبار الجنة مكتبة كونية على حد تعبير بورخيس إلى واقع الحالة الفلسطينية، تصبح فكرة الذاكرة كضحية متجددة للجريمة أكثر انسجاماً مع الذات، حيث تندمج فكرة المكتبة الشخصية كجملة من المواقف والحكايات مع تفاصيل الحياة اليومية وتصبح الرغبة في حماية المكتبة – الجسد وصونِها لا يقل أهمية عن حماية الزمن والمكان المتحدان في مختلف النصوص المكتوبة والشفهية …

حينها وحسب الرغبة الفلسطينية تكون الجنة هي الذاكرة الحية ويكون السفر نحو الذاكرة بمثابة استعادة طبيعية لمكان ذاتي مفقود، ولغة وزمن يمكن تسميته البيت كصفة موازية لصفات جنة متخيلة …

هكذا يطل إدوارد سعيد فجأة في اليوميات ليضيف بُعداً آخر لتلك الصدمة المتجذرة في الوعي اليومي حول مفهوم الغياب والبيت، فمذكراته، حسب تعبيره، في وجه من وجوهها هي استعادة لتجربة المغادرة والفراق حيث وطأة الزمن تتسارع وتنقضي، ما جعله ينتبه لعادة مكتسبة في حمل كمية لا حاجة له بها حقائبه وأمتعته المختلفة خلال السفر، مدفوعاً بخوف سري لا فكاك منه هو خوفه من عدم العودة …

ورغم اكتشافه ذلك الخوف إلا أنه كان يخترع المناسبات اختراعاً كي يغادر مستثيراً خوفه بملء إرادته، كي يطمئن إلى حضور الذاكرة الفعلي في تفاصيل حياته اليومية، وهو ما جعله يختبر إحساساً عاماً وطوباوياً بالمعنى الحرفي للكلمة بأنه خارج المكان وقد تحرر من جسده وانعتق من كل الارتهانات والواجبات والقيود المعتادة …

تلك المفارقة العميقة هي التي دفعت المفكر المغربي عبد الفتاح كيليطو إلى بناء مفهوم جديدة لفكرة المثقف مستحضراً شخصية سيزيف والسندباد وغيرها من النماذج الأدبية، إضافة إلى كتابات سعيد المتعددة وعاداته في اصطحاب الحقائب، أطلق كيليطو على هذا المفهوم المثفف الحمَّال حيث كل نموذج اقترن بحِمل ما …

هو الحمل الخفي إذاً، الرغبة في صون ملامح الذاكرة من الاندثار، والتخفف من عبء الوقت الثقيل، والسفر عبر الدروب الوعرة في اتجاه البيت أو الجنة المتخيلة …

خفت الحمى كثيراً، عاد بورخيس وإدوارد سعيد وزافون وكيليطو إلى مواقعهم الخالدة في الكتب …

السبت ١٨ شباط ٢٠٢٣:
أتنفس ببطء رغم انحسار الحمى، واستعادة الجسد بعضاً من نشاطه اليومي …
ما زلت أحب فصل الشتاء وأكره فيروس الانفلونزا، ولا أطيق حبوب المضادات الحيوية، أفضل مصارعة المرض كقروي فلسطيني يدافع عن بيته وأرضه أمام هجمة استيطانية، ولا يكترث إن وقع، وتعب، وأصيب وتأوه وصرخ لأنه يدرك أنه في النهاية سينتصر …

هكذا تبدو لي صورة موجات الاستيطان اليومية كحالة مرضِية عابرة، تشبه نزلة برد حادة، مصيرها أن تنتهي مع إصرار الجسد على مقاومتها كمقاومة موجات الانفلونزا الشتوية …

زر الذهاب إلى الأعلى