ملفات اليمامة

من جماليات الآيات المتشابهات في سورة (طه)

في البلاغة القرآنية:

من جماليات الآيات المتشابهات في سورة (طه)

إعداد: د. عبد الرحيم حمدان

تمهيد:

القرآن الكريم كتاب مقدس، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كتاب أحكمت آياته، ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خبير، تَحدَّى اللهُ به الإنس والجن أن يأتوا بمثله، أنزله على نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – المتصفُ بصفات الكمال, وقد أُمر الناس بالكشف عن أسراره، ودلائل إعجازه، وكنوز عظمته، احتوى على لمسات بيانية، وإعجاز في تراكيبه اللغوية،  اشتمل هذا الكتاب العظيم على عدد من وجوه الإعجاز المتعدّدة؛ فقد احتوى على الإعجاز التاريخي والغيبي، وشمل الإعجاز التشريعي الصالح لكلّ زمان ومكان، وكذا الإعجاز العلمي الكوني.

ومن مظاهر الإعجاز أيضًا التركيب اللغوي والنظم الأسلوبي البياني البلاغي الذي عجز العرب عن محاكاته، ومن هذا الإعجاز البياني ورود آيات متماثلات متشابهات لفظًا ومعنى لا فرق بينها إّلا في زيادة حرف أو كلمة أو تقديم أو تأخير، فحملت الآيات معاني جديدة ، ودلالات باهرة كانت ذروة في الفصاحة وغاية البلاغة.

أ – في رحاب سورة (طه) الكريمة:

سورة طه سورة مكية بالإجماع، ويبلغ عدد آياتها مئةً وثلاثاً وخمسين آيةً، وهي السُّورة رقم عشرين في ترتيب سور القرآن الكريم في المصحف العثماني، وقيل إنها نزلت في السنة الرابعة أو الخامسة من الهجرة، وأن مطلعها كان سبباً في إسلام سيدنا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- .

  1. تسميتها:

عُرفت هذه السورة في كتب التفسير باسم (طه), وقد قيل في المراد من هذه التسمية أقوال كثيرة، وتسمى أيضاً سورة موسى أو سورة الكليم موسى -عليه السلام- ؛ لكونها تضمنت حديثاً مستفيضاً عن موسى -عليه السلام- وقومه

  1. محاور السورة:

المحور الرئيس لسورة (طه) الكريمة هو طريق سعادة المؤمن في الدنيا والآخرة، كما أن سورة طه تضمنت عدداً من أهم المحاور الأخرى المهمَّةً ؛ نذكر منها فيما يأتي:

المحور الأول: القرآن تنزيل من الله للسعادة ولهدي القابلين للهداية، نفى الله – سبحانه وتعالى – عن نبيه جميع أنواع الشقاء في الدنيا والآخرة؛ لأنه أنزل عليه القرآن الذي هو سبب سعادته،  فضلاً عن التنويه بعظمة القرآن لعظمة من أنزله سبحانه.

أما المحور الثاني، فيتناول قصة موسى – عليه السلام – قد اشتملت القصة على العديد من الأمور الدالة على أن السعادة في الاستجابة لأوامر الله.

المحور الرابع: بيان جزاء المعرضين عن القرآن الكريم،  وقد تضمن هذا المقطع إنباء النبي – صلى الله عليه وسلم- بأخبار السابقين مما قصه عليه في كتابه الكريم، وتضمن بيان جزاء المعرضين عن الذكر الذين يحملون أوزارهم وحدهم يوم القيامة، وساء لهم حملاً، وبيان كيفية حشرهم، وما يتسارون به بينهم من تذاكر قدر مدة لبثهم في الحياة الدنيا، وإقرارهم بسرعة مرورها حتى قال أعدلهم: )إنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا( ( طه: 104).

المحور الخامس: وفيه عرض لمشاهد يوم القيامة، تضمن هذا المقطع الإجابة عن أسئلة المشركين بشأن الجبال، وبيان حالها يوم القيامة، وحال الناس يوم القيامة، من اتباعهم الداعي إلى الحشر، وخشوع الأصوات للرحمن، وانقطاع الشفاعة إلا لمن أذن له الرحمن ورضي له قولاً، وخضوع الوجوه للحي القيوم، وجزاء الظالمين، وثواب المحسنين، فهو سبحانه لا يظلم أحداً.

المحور السادس: بيان وضوح القرآن لاتباعه وتضمن هذا المقطع تقرير عروبة القرآن، وبيان الحكمة من تضمينه الوعيد، ثم إرشاد الله نبيه إلى كيفية تلقي القرآن، وأمره بطلب زيادة العلم

المحور السابع: وفيه عرض لقصة آدم -عليه السلام-.

أما المحور الثامن، ففيه إنذار للمشركين وإعذار، وتوجيه للنبي – صلى الله عليه وسلم- تضمنت توجيهات ربانية للنبي – صلى الله عليه وسلم- فيما يتعلق بتعامله مع المشركين، أو ما يتعلق بخصوص نفسه من التسبيح والصلاة

  1. فضائل سورة (طه) الكريمة.

ورد في فضائل سورة مريم – عليها السلام –  أحاديثُ كثيرة ترغِّب في تلاوتِها، وتبيِّن مكانتها ولم يرد في فضل سورة (طه) أدلة شرعية صحيحة، وإنّما الذي ورد فيها هي أحاديث ضعيفة نذكرها فيما يأتي: ورد عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: (لا يقرأُ أهلُ الجنةِ منَ القرآنِ إلا طه ويس)، ويُعدُّ هذا الحديث من الأحاديث المرسلة

  1. أسباب نزول السورة:  

    وقد ورد في سبب نزول سورة (طه) ثلاثة أقوال للعلماء:

القول الأوَّل: إنَّ سورة (طه) نزلت عندما كان النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يقوم طوال اللّيل يتعبَّد لله –سبحانه وتعالى- حين أُنزِلت عليه سورة المزَّمِّل، حتى إنَّ أقدامه الشَّريفة كانت تتورَّم من طول فترة وقوفه عليهما في القيام، وكان يقوم على قدم واحدة، ثمَّ يكمل القيام على قدمه الأخرى، وشقَّ الأمر عليه كثيراً، فأنزل الله -تعالى- على النَّبيِّ – صلى الله عليه وسلم- سورة (طه)، قال الله – تعالى-: ) طه* مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآن لِتَشْقَى ( ( طه : 14).

القول الثاني:  إنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- عندما نزل عليه القرآن الكريم قام فصلَّى بأصحابه -رضوان الله عليهم- وأطال القيام، فأصبحت قبيلة قريش تتحدَّث عن القرآن الكريم بأنَّه نزل على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- ليشقى؛ فأنزل الله -تعالى- على النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- سورة (طه) ليُبيِّنَ كذب المشركين، وأنَّ القرآن الكريم نوراً، وهدىً، ورحمةً للنَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وللأمَّة الإسلاميَّة.

القول الثَّالث:  إنَّ بعض كفار قريش، ومنهم أبو جهل، والنضر بن الحارث، والمطعم بن عدي كانوا يستهزئون على الدِّين الإسلامي، ويقولون للنَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- إنَّه سيشقى بترك دينهم إلى الدِّين الإسلاميِّ؛ فأنزل الله -تعالى- على النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- سورة طه، رداً على أقاويل سادة قريش وكذبهم واستهزائهم بالدِّين الإسلامي.     .

ب – الآيات المتشابهات في النص القرآني:

يقصد بالآيات القرآنية المتشابهة في النص القرآني الآياتُ المتشابهات التي تكررت في القرآن وألفاظها متفقة، ولكنْ وقع في بعضها زيادة أو نقصان أو تقديم أو تأخير أو إبدال حرف مكان حرف أو غير ذلك مما يوجب اختلافاً بين الآيتين أو الآيات التي تكررت من غير زيادة ولا نقصان ([1])، ولا يقصد بالمتشابهات ضد الآيات المحكمات؛ كما ورد في قوله تعالى: )هو الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ((آل عمران: 7)؛ وإنما المتشابهات هي التي يشبه بعضها بعضاً، لقوله تعالى عن كتابه الكريم: )اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ ((الزمر: 23)، إذ لا يكون في المتشابهات اختلاف ولا تضادّ، يشبه بعضه بعضاً, ويصدّق بعضه بعضاً, ويدلّ بعضه على بعض([2]).

فعلى سبيل المثال: يأتي التشابه بين السور وبعضها في القرآن الكريم، وهذا شائع بشكل كبير في القرآن، فمثلًا: في سورة يونس ) وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ( (يونس: 38) ، ويوازيه في التشابه الآية من سورة البقرة، ) وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ( (البقرة:23).

   كما قد يأتي التشابه في السورة ذاتها، ومثال ذلك ما جاء في سورة البقرة في قوله تعالى: ) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ( (البقرة: 18)، وفي السورة نفسها ،  يقول الله تعالى: ) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ، فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ((البقرة: 171)، فالتشابه قد يكون التشابه أيضًا في المعنى مع اختلاف ترتيب أو تكوين الآية، وظهر ذلك جليًا في الآية سورة الأعراف، ) إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ( ( الأعراف:113 )، والتي تشابهت مع ما جاء في سورة الحجر، ) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِين(  (الحجر :11 ).

وستتناول ّ الدراسة سورة (طه) الكريمة؛ بوصفها وَحْدة متكاملة ومجموعة مترابطة غير مفككة وغير منفصلة عن مجموع السور القرآنية، ونصاً متكاملاً تترابط آياته وتتناغم في وَحْدة كلية متضامة، معتمدة في ذلك على نظرية الترابط القائمة على النهوض بوحدة السورة، أي: دراسة السورة القرآنية؛ بصفتها  وَحْدة لغوية لها بناؤها الخاص المتمثل في نصٍ تترابط آياته وموضوعاته وعناصره، وصلة كل آية بما قبلها وما بعدها، وصلة أولئك بالعناصر المكونة لبداية النص القرآني ووسطه ونهايته مع بعضه.

وهذا النسق القرآني الفريد الذي تتكرر فيه الكلمات والتراكيب مع اختلاف طفيف فيها أو اختلاف ما يأتي بعدها الأمر يعدُّ من معجزات الأسلوب القرآني الذي لا يضاهيه فيه غيره، حيث يقوم على ربط المتشابهات بالسياق الذي وردت فيه أي: يوجه التشابه والاختلاف بلاغيا؛ إذ إن لكل موضع صياغته الخاصة التي تتناسب مع سياق الكلام قبله وبعده.

ومما لا شك فيه أن معرفة مواضع التكرار في القرآن بعامة، وفي سورة (طه) الكريمة بخاصة، تساعد طالب العلم الراغب في ترسيخ حفظه للقرآن الكريم، وينأى به عن الخلط بين الآيات المكررة المتشابهة.

وسيقتصر الحديث في هذا المقال على الآيات المتكررة داخل سورة (طه) الكريمة، أي: التشابه في الألفاظ، والعبارات، والموضوعات، والقصص القرآني، وفواصل الآيات.

أولاً –التشابهات في تكرار الألفاظ:

وقع التشابه في الآيات القرآنية في سورة (طه) في عدد غير قليل من الألفاظ، سواء أكانت أسماء أم أفعالاً أم حروفاً؛ لذا ستقتصر الدراسة على بعض منها، وهي الأكثر شيوعاً وأهمية.

1 – تكرار كلمة (تشقى):

تكررت لفظة (تشقى) في سورة (طه) الكريمة في ثلاثة مواضع، وكانت في كل موضع تحمل دلالة ومعنىً جديداً يختلف عن المعاني في المواضع الأخرى، وهذه المواضع هي:

يقول تعالى : )طه * مَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْءَانَ لِتَشْقَىٰٓ ( (طه : ١ ،2 ).

في قوله تعالى عن الشيطان : )إِنَّ هَـٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَى( (طه: ١١٧(.

ثم يتكرر مرة أخرى في قوله تعالى : ) فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَاىَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ( (طه :123 ).

فالشقاء هو التعب والنصب والمعاناة والتعاسة والوصب، والجوع والظمأ([3])؛ وذلك لمن أبى أن يتبع سبيل ربه، وتكون عاقبته سيئة وخيمة.

ففي الآية الأولى من السورة التي ورد فيها قوله تعالى: )طه* مَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْءَانَ لِتَشْقَىٰٓ( (طه:1، 2)، ردٌ جازم على كفار قريش الذين زعموا أن القرآن الكريم يسبب لمحمد- عليه الصلاة والسلام- الشقاء والتعب، ولكنْ الأمر بالعكس، فالقرآن هو منْ يجلب له ولأتباعه الذين يطيعون ربهم السعادة الخالدة ([4])وهذا الخطاب الإلهي مسوق؛ تسلية للرسول الكريم – صلّى الله عليه وسلّم-  والـدعاة مـن بعـده، ومؤانسته والتسرية عنه، وذهاباً لحزنه وتذكيراً للمستبصرين في دينهم، وتأكيداً للحجة على من عاند وكابر من غيرهم([5])، وذلك أن الشقاء شائع في ذلك المعنى، ومنه المثل أشقى من رائض مهر([6])، وقول الشاعر([7]: (

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله           وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم

وفى قوله تعالى عن الشيطان: ) إِنَّ هَـٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰٓ( ، (طه: ١١٧).

في هذا النص خطاب قرآني موجه من المولى – عز وجل – إلى سيدنا آدم -عليه السلام- يحذره هو وزوجه حواء من محاولات الشيطان اللعين؛ لإخراجهما من نعيم الجنة، فقال له المولى محذراً : إياك أن يسعى الشيطان في إخراجك منها، فتتعب، وتعنى، وتشقى في طلب رزقك، فإنك هاهنا في عيش رغيد هنيء، لا كلفة ولا مشقة([8]).

وقد كان رسول الله – عليه الصلاة والسلام – يرفع رجلاً و يضع أخرى في الصلاة إثر تورم قدميه يتوخى به أن يسكن وجع قدمه التي كان يرفعها، فيستريح هنيئة ويشتغل بربه من غير شاغل يشغله([9]) .

ثم يتكرر لفظ الشقاء مرة أخرى في قوله تعالى: )فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَاىَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ( (طه:١٢٣)، فالخطاب في هذه الآية خطاب عام موجه للذين يتبعون منهج الله ويسلكون طريقه القويم.

والملاحظ هنا أن الشقاء نُفي في موضعين، وأثبت في موضع واحد، نُفى مرة حال ملازمة القرآن، وأخرى عند اتباع منهج الله وهداه، وتلك جنة الدنيا المؤدية إلى جنة الآخرة التي ينتفي فيها الشقاء تمامًا، وأثبت مرتبطًا بالخروج من الجنة، حال الاستجابة لنزغات الشيطان. والمتأمل في النصوص الثلاثة لا يجد تشابهاً دقيقاً في اللفظ، فالفعل الأول المخاطب هو ضمير المخاطب أنت.

2 – تكرار لفظ الرحمن:

تكررت كلمة الرحمن في سورة (طه) الكريمة ثلاث مرات على الشكل الآتي:

  • )الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى( (طه :5).
  • )وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي( (طه : 90 ).
  • )يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا( ( طه : 109).

وفي هذا التكرار إشارة إلى حقيقة أن الرحمن صفة من  صفات الكمال، المنزه عن كل صفات النقص، تباركت أسماؤه، وتسامت صفاته، وتقدست ذاته، بل هو سبيل كل سعادة وهناء. واسم الله تعالى جامع لكل صفات الكمال، ولذلك تضاف الأسماء الحسنى كلها إليه فيقال : الرحمن هذا الاسم فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما يـرحم خلقـه أجمعين  .

وفي النص القرآني الأول: ) الرحمن على العرش استوى( (طه:٥) استئناف يذكر فيه مسألة توحيد الربوبية التي هي مخُ الغرض من الدعوة والتذكرة، والرحمن من رحـم: الرحمة والرقة والتعطف والمغفرة([10])، وهو على وزن فعلان؛ لأن معناه الكثرة، وهو اسم من أسماء الله الحسنى يعد أنسب من سائر الأسماء والصفات للاستواء، ولذلك اختص من بينها بالذكر. والصيغة الصرفية فعلان في اسم من أسماء الله الحسنى(الرحمن) تفيد التجدد والاستمرار والمبالغة  .قال البغوي في تفسيره: “فالرحمن من يصل رحمته إلى الخلق علـى العمـوم، والرحيم من يصل رحمته إليهم على الخصوص، ولذلك يدعى غير الله رحيمـاً يدعى رحمان”. ([11] )

3 – تكرار لفظ اليم:

ومن الألفاظ التي تكررت في سورة (طه) الكريمة لفظة(اليم)، وجاء تكرارها في سورة (طه) أربع مرات على النحو الآتي:

)إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي( (طه: 37 ، 39).

)فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ( (78).

)وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا( (طه: 97).

واليمُّ: هو البحر الكبير، سواء أكان مالحاً أم عَذْباً، وهو في قصة سيدنا موسى – عليه السلام- نهر النيل، وجاء الخطاب في الآية الأولى موجهاً إلى أم موسى -عليه السلام- أي: يأمرها المولى بأن تطرح وليدها في نهر النّيل، بيد أن المتأمل المدقق في تكرار هذه الألفاظ وتواجدها في السياق يدرك أن هناك انتقاءً واختياراً دقيقين لهذه الألفاظ، فهي لم تأت عفوية بدون قصد، وإنما حرص الخطاب القرآني على انتقائها واختيارها؛ لتؤدي أغراضاً دلالية وجمالية، تتجلى فيها دقة الاختيار، وغاية الانتقاء، فهي مفردات فنية مقصودة في ذاتها، إذ إن لكل لفظة خصائصها واستعمالاتها؛ وقد وضعت لتلبية قصد مناسب.

فكلمة (اليم) لم ترد إلا في قصة سيدنا موسى- عليه السلام-، وكان ورودها بعامة في مقام التخويف والعقوبات، وهناك لمسات بيانية في التعبير القرآني. فعندنا إذن لموسى ويأخذ (اليم) معاني متنوعة، والمتأمل في مفردة (اليم) يجد أن السياق في الآية الأولى جاء هادئاً رتيباً يناسب مرحلة الإعداد، أما في التنفيذ، فقد جاء السياق سريعاً متلاحقاً يناسب سرعة التنفيذ، فكأن الحق سبحانه – وتعالى- أوحى إليها أن أسرعي إلى الأمر الذي سبق أنْ أوحيتُه إليك، هذا الكلام في الحبْكة الأخيرة لهذه المسألة، ويحق للمتلقي أن يتساءل أي أم هذه التي تُصدِّق هذا الكلام؟! إنْ خِفْتِ على ولدك فألقيه في اليم؟ وكيف يمكن لها أن تنقذه من هلاك مظنون وترمي به في هلاك مُتيقّن؟ ومع ذلك لم تتردد أم موسى لحظة في تنفيذ أمر الله، ولم تتراجع، فأخذتْ الأم الوليد وأَلْقَتْه كما أوحى إليها ربها، أما قوله تعالى: )فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل( (طه: 39) فالفاعل هو اليمُ، إنه يحمل التابوت بأمر من الله، وهو في حد ذاته معجزة، إنه يحمل التابوت بأمر من الله ([12])، والواقع أن النص القرآني يقدم في هذه الآيات لقطاتٍ متتابعة حية نابضة بالحركة والحيوية.

4 – تكرار لفظ كذلك:

تكرر لفظ (كذلك) غير مرة في السورة، إذ ورد في سورة طه سبع مرات:

  • )قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ(   ( طه: 87 ).
  • )قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي( ( طه: 69).
  • )كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا( ( طه: 99 ).  
  • )وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا( ( طه: 113 ).
  • قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى* وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى( طه: 126 ، 127 ).

والمتأمل في لفظة (كذلك)، يجدها لا تختلف كثيراً في الآيات القرآنية المتكررة، وأن ما حدث في تكرارها هو زيادة حرف الواو أو الفاء أو نقصانه، ولكنَّ ثمة اختلافاً في المخاطب، ففي قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا المخاطب هنا الرسول محمد – عليه الصلاة والسلام- إذ يخاطبه ربه بقوله: ومثل ما أنزلنا الآيات السابقة المشتملة على الآداب والأحكام والقصص، أنزلنا عليك يا محمد، القران كله، فما نزل منه متأخراً يشبه في هدايته وإعجازه ما نزل منه متقدماً، وقد اقتضت حكمتنا أنْ نجعله قُرْآناً عَرَبِيًّا أي: بلغة العرب، لكي يفهموه ويقعوا على ما فيه من هدايات وإرشادات وإعجاز للبشر. وقد جاء القرآن مضمراً في قوله تعالى (أَنْزَلْناهُ) مع أن القرآن لم يسبق له ذكر في الآيات السابقة، للإيذان بنباهة شأنه، وعلو قدره، وكونه مركوزاً في العقول، حاضراً في الأذهان والقلوب([13]).

وفي الآية الأخيرة في قوله تعالى : قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى* وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ ، جاء الخطاب من المولى -عز وجل- للكافر المعاند،   وقوله تعالى (أتتك إلخ..) جواب سؤال مقدر كأنه قيل: يا رب ما فعلت أنا؟ فقيل: أتتك آياتنا فنسيتها أي: تركتها ترك المنسي الذي لا يذكر أصلاً([14])، كذلك أتتك آياتنا أي دلالاتنا على وحدانيتنا وقدرتنا، فنسيتها أي تركتها ولم تنظر فيها، وأعرضت عنها،  وكذلك اليوم تنسى أي: تترك في العذاب؛ يريد جهنم،  إشارة إلى حشره أعمى أي: مثل ذلك الفعل فعلت أنت ، فكذلك بمعنى : مثل ذلك، والواو والفاء حرفا عطف([15]).

ولم يقتصر التكرار في المفردات على الأفعال والأسماء ؛ وإنما تجاوزها إلى الحروف، فقد تكرر حرف (لقد) خمس مرات في السورة الكريمة: يقول سبحانه وتعالى   : –

  • وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى(طه : ٣٧ ).

  وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى(طه : 56 ).

 – وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لّا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى٧٧(طه : 77 ).

وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي(طه : 90).

وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (طه : 115 ).

(ولقد) في قوله تعالى : ولقد (مننا) فالواو : حرف عطف، واللامُ: حرف ابتداء، وقد يأتي للتوكيد، وهي لام موطئة للقسم، قد: حرف يفيد التحقيق، وقد يفيد التوكيد، وكلمة (لقد) في مجموعها تفيد التوكيد إذا ما تلاها فعل ماض، فالأفعال الماضية: (مننا – أريناه – أوحينا – قال- عهدنا)، فلقد المردوفة بفعل ماضٍ تفيد التوكيد(([16].

والمتأمل في تكرار (لقد)، يتبين له أنه لم يأت تكراراً شكلياً، ملصقاً بجدار الآيات، وإنما جاء مرتبطاً بمعنى الآيات، مؤكداً لها، وكان بمثابة رابطٍ قويٍ لأجزائها،  وأن المتلقي لو وازن بين مواطن التشابه بعضها ببعضها، لأدرك أنَّ لكل موضعٍ صياغتَه الخاصة التي تتناسب مع سياق الكلام قبله وبعده، وأن الخطاب القرآني قد وَضع كلَّ كلمة حيثُ تتناسبُ، مع ما حولها، وتتوافقُ معه بحيث لا يمكن استبدالُها بغيرها.

ثانياً – التشابهات في تكرار العبارة:

ومن العبارات التي تكررت في سورة (طه) المباركة قوله تعالى: ) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ (، وقد تكررت هذه العبارة  ثلاث مرات، وذلك في قوله تعالى:

)اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى( ( طه : 8) .

)إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا ( ( طه : 14) .

) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ( ( طه : 98) .

وعبارة (لا إله إلا الله) هي أفضل الكلام بعد القران الكريم، وهي أحب الكلام الى الله، وهي تعني أنْ لا معبود حق إلا الله. فقوله تعالى: )اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ( (طه: ٨).

تحدثت العبارة القرآنية الأولى عن أسماء الله الحسنى، وهي أسماء مدح وحمد وثناء وتمجيد الله وصفات كمال الله ونعوت جلال الله، وأفعال حكمة ورحمة ومصلحة وعدل من الله، يدعى الله بها، وتقتضي المدح والثناء بنفسها. أي: “لا إله” يُعبَد بحق، “إلا هو” لا غيره، هو سبحانه جل شأنه، وعظُم جاهه وسلطانه، له “الأسماء الحسنى”، فأسماؤه كلها حسنى، وصفاته كلها عليا؛ وقوله تعالى في العبارة القرآنية الآتية: )إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (  (طه: 14)؛ يقول ابن كثير: “هذا أول واجب على المكلفين أن يعلموا أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وقوله “فاعبدني”؛ أي: وحِّدني، وقُم بعبادتي من غير شريك”([17])، و(لا إله إلا الله)، هي إفراد الله بالعبادة، ولا عبادة تُقبل إلا بالتوحيد، وأول عبادة بعد التوحيد إقامة الصلاة، وقوله تعالى في العبارة القرآنية الآتية: )إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ( . (طه: 98)، وهذه الآية الثالثة في السورة الكريمة التي ذكر فيها كلمة التوحيد “لا إله إلا الله .

وجملة القول في السر في تكرار هذه العبارة هو أن كلمة التوحيد في المرحلة المكية من الدعوة غدت  ضرورية وملحة لحاجة الدين؛ ولترسيخ العقيدة في النفوس، كما أن تكرار كلمة التوحيد من أهم مميزات السور المكية بعامة، فهي تتسم بذكر الدّعوة إلى توحيد الله -عزَّ وجلّ- وعدم الشّرك به، فهو الوحيد المُستحقّ للعبادة . وفيها ذكر للأدلة المتعلقة بتوحيد الله والدلائل المطلوبة على وجوده وقدرته وسلطانه وقهره، وأنه تعالى المبدع للكائنات صاحب الفضل والإنعام، وفي هذه الآيات تصوير قرآني فني بديع بحيث يستشعر قارئ الآيات عظمة الله وقدرته وكأن الآيات مشاهد حية تعرض أمام أعيننا.

ب – تكرار عبارة )وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ(.(طه: ٧١ ).

ورد هذا النص القرآني على لسان فرعون اللعين، وفيه تهديد فوق تهديد، ووعيد إثر وعيد، قائلاً مهدداً ومتوعداً السحرة: أي والله لتعلمنَّ أيها السحرة أيُّنا أشدُّ عذاباً لكم، وأدْوَم، أنا أو موسى، ستجدون عذابي أشد من العذاب الذي حُذرتموه، وهذا من غرور فرعون.

– ومنه تكرار عبارة التوحيد؛ قولهُ تعالى:  )وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى( . (طه :١٢٧ )، الخطاب في هذا النص موجهٌ للكافرين المجرمين، مهدداً إياهم بقوله : ولعذاب الآخرة أشدُّ أي أفظع من المعيشة الضنك، وعذاب القبر، و(أبقى) أي: أدوم وأثبت؛ لأنه لا ينقطع ولا ينقضي؛ ولأن الآخرة أقسى من عذاب الدنيا أضعافاً مضاعفة؛ ولكونه لا ينقطع، بخلاف عذاب الدنيا، فإنه منقطع، فالواجبُ الخوف والحذر من عذاب الآخرة.

ج – تكرار عبارة )إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ(.

ومن العبارات التي تكررت في السورة قوله تعالى: )إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ(.وقد تكررت هذه العبارة في سورة (طه) مرتين، يقول فيها المولى -عز وجل- في العبارة الأولى:)كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ * إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ )( طه: ٥٤).

وفي الآية الثانية يقول المولى -عز وجل- ) : أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى)( طه: 128).

وأولو النُّهى: هم أهل الحجا والعقول الذين ينتهون عما حرم الله عليهم، وقيل: ذوو الورع وقيل: ذوو التقى  والنُّهى: جمع نُهية()، إن في ذلك أي: فيما ذكر، لآيات أي: لدلالات لأولي النهى أي: لذوي العقول، تتجلى في الآية الأولى قدرةُ المولى -عز وجل-، وعظيمُ سلطانه، وقوله لآيات: أي: لدلالات وعلامات تدل على وحدانية الله، وأن لا إله للناس غيره.

وقوله تعالى: ) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى)( طه: 128).

ففي الآية الكريمة تقريع وتوبيخ لكفار مكة الذين لم يعتبروا بما أصاب أمثالهم من الأمم السابقة، كقوم نوح وعاد وثمود الذين كان هلاكهم بسبب تفضيلهم الكفر على الإيمان، والغى على الرشد، والعمى على الهدى، ويلحظ المتلقي أن هذه الآيات جاءت على أسلوب التذييل الذي قُصد به تعليل الإنكار، فالتذييل يرتبط بما قبله برباط معنوي يفيد توكيد المضمون، ويحقق قيمة جمالية تكمن في تناسق الإيقاع النغمي للفاصلة القرآنية.

إن هذه الألفاظ والعبارات المتكررة لهي أشبه بالأصداء المترددة والأمراس التي تشد أجزاء السورة بعضها إلى بعض([18]).

ثالثاً – التشابهات في تكرار الموضوعات:

ومن الموضوعات التي تمت الإشارة إليها، والحديث عنها في سورة طه؛ موضوعُ يوم القيامة ومشاهدها المتعددة، فقد وردت عبارة يوم القيامة ثلاث مرات بلفظها، فضلاً عما ورد من أوصاف وبعض مشاهد يوم القيامة وأحوالها، يقول تعالى:

  • )مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا( . (طه:100  ).
  • )خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا ( . (طه:101  ).
  • )ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى((طه:124 ).

يتحدث النص القرآني الأول فيقول مخاطباً الكافر: فكما نسيت آياتنا في الدنيا، فتركتها وأعرضت عنها، فكذلك اليوم ننساك، فنتركك في النار، يحمل ذنوبه الثقيلة على عاتقيه.

وبقول المولى – عز وجل- عن بعض مشاهد يوم القيامة : )يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا( . (طه:102  ).  

يحذر الله في هذه الآية من المجرمين، ويفصِّل للمتلقين المشاهد الغريبة، وكأنها واقع أمامهم. فيخاطب الإنسان العاقل قائلاً : اذكر – أيها العاقل – يوم ينفخ إسرافيل في الصور النفخة الثانية، يومئذ نحشر المجرمين ونجمعهم للحساب حالة كونهم زرق العيون من شدة الهول، أو حالة كونهم ” زرقا ” أي: عمياً؛ لأن العين إذا ذهب ضوؤها أزرق ناظرها،  أو ” زرقاً ” معناه : عطاشاً؛ لأن العطش الشديد يغير سواد العين فيجعله كالأزرق.

وفي آية أخرى تصف النص القرآني  أحد مشاهد يوم القيامة، فيقول: )وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا( . (طه: 105  ، 107). أي: يذهبها عن أماكنها ويمحقها ويسيرها تسييراً. )فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا( . (106) أي: بساطاً واحداً، والقاع هو المستوي من الأرض، والصفصف تأكيد لمعنى ذلك، وقيل الذي لا نبات فيه. )لا ترى فيها عوجا ولا أمتا( ، لا ترى في الأرض يومئذ وادياً ولا رابيةً ولا مكاناً منخفضاً ولا مرتفعاً.

ومن الأمور التي تتصل بيوم القيامة وحقائقه؛ ذكرُ الساعة وموعدها قوله تعالى: )إنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى((ط:١٥( ، فالخطاب هنا موجه إلى سيدنا موسى- عليه السلام-، ليؤكد له حقيقة أنه مؤمن بالساعة، فلا يحتاج إلى توكيد أقوى،  إذ من غير المعقول أن يشك أحد في خبر أخبره به الله تعالى. والحديث عن يوم القيامة وما فيه من مشاهد يساهم بدوره في عملية الربط العضوي بين أطراف السورة وأجزائها.

ثالثاً التشابهات في القصص القرآني:     

ومن صور تكرار الآيات من السورة نفسها؛ تكرارُ القصة، إذ جاء في النصّ القرآنيّ الكریم تكرار لكثیر من القصص السابقة، خاصة قصص الأنبیاء، والمرسلین، ومن تلك القصص المكرّرة قصة النبيّ موسى – عليه السلام-، وقصة سيدنا آدم- عليه السلام-،  فضلا ً عن ذكر قصة النبيّ محمد -علیه الصلاة  السلام- مع كفار مكة التي وردت بصورة غیر مباشرة، وقد ذُكر في سورة (طه) المباركة ما يتعلق بهذه القصص من صراع عقدي، وقد ذُكرت فيه ثلاث قصص قرآني هي:

 

1 – قصة سيدنا آدم – عليه السلام – وزوجه حواء وصراعهما مع الشيطان إبليس اللعين ودوره في إخراجهما من الجنة، يقول الله تعالى: )وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ( (طه: ١١٥).

جاء الحديث عن قصة سيدنا آدم أبي البشر- عليه السلام – حديثاً موجزاً مركزاً سريعاً لمناسبة رسالة السورة التي تتمحور في أن سيدنا آدم – عليه السلام – نسي وضعُف عزمُه، واستجاب للشيطان وعصى أمر ربه.

2  – قصة سيدنا موسى وأخيه هارون– عليهما السلام – وصراعهما مع فرعون الطاغية اللعين. يقول المولى عز جل: )وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى * إِذْ رَأى نارًا فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً ( (طه: 9 ، 10)، فقد ذكرت قصة “موسى وهارون” مع فرعون الطاغية الجبار، بالتفصيل، وتحدثت عن موقف المناجاة بين موسى- عليه السلام – وربه، وموقف تكليفه بالرسالة، وموقف الجدال بين موسى – عليه السلام – وفرعون، وموقف المبارزة بينه وبين السحرة، وتتجلى في ثنايا تلك القصة رعايةُ الله لموسى – عليه السلام – نبيّه وكليمه، وإِهلاك الله لأعدائه الكفرة المجرمين.

٣ – قصة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وصراعة مع كفار مكة، وأئمة الكفر فيها، ودورهم في الوقوف في وجه الدعوة المحمدية.

يقول المولى عز وجل : )كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (طه: 99 ).

وقد كان لذكر هذه القصص القرآنية دور فاعل وهدف واضح، فثمة عبر وعظات ودروس مستفادة من قصص هؤلاء الأنبياء، مردها أنها سيقت؛ لتكون تسلية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتطميناً لقلبه الشريف، ومنها أن الله قادر على كل شيء، ولا إله غيره وحده لا شريك له. وان الظلم له نهاية، والحق سيظهر حتماً حتى بعد مرور الوقت، ومنها الثبات على المبدأ، ومنها هلاك المستكبرين وانتصار المستضعفين. وأن يكون المؤمن على يقين بقدرة الله على نصر الحق. وكانت هذه القصص القرآنية بمثابة رابط متين يشد أطراف القصص القرآنية وأجزائها بعضها إلى بعض، ويحقق الوَحْدة العضوية المتكاملة للسورة.

رابعاً – التشابهات في فواصل الآيات:

أدت الفاصلة القرآنية في سورة (طه) المباركة دوراً مهماً في تحقيق وَحْدة الإيقاع النغمية التي جعلت من السورة بأسرها قطعة موسيقية نغمية واحدة تعبر عن موضوع واحد وهو سعادة المؤمن الخالدة .

إن (الفاصلة) هي كلمة آخر الآية كقافية الشعر وسجعة النثر، ومن المعلوم أيضاً أن للفاصلة في التقفية دورها الفني، سواء في إيقاعها الموسيقي، أم في علاقتها الجزئية بالآية التي ترد فيها أو المقطع في مجموعة آيات ، أو علاقتها الكلية بمجمل السورة .

وبسبب احتفاء القرآن المكي بالبعد الموسيقي، كان هذا البعد سمة من سماته المميزة، فسورة ( طه) تغلب عليها (فاصلة) الألف المقصورة ، وفواصلها مختصة بحركة (الفتح) التي تتحول إلى ( ألف مدّ ) في الإطلاق  مثل: تشقى– يخشى– العلى– استوى–الثرى– أخفى – الحسنى– موسى  – هدى–  موسى – طوى– يوحى– الذكري– تسعى – فتردى-  موسى– أخرى–  موسى– تسعى – الأولى– أخرى– الكبرى– طغى.

وتضفي فواصل سورة (طه) أهمية موسيقية على حركة (الفتح) التي التزمتها حروف الروي في كثير من آياتها.

إن تكرار فاصلة الألف اللينة في سورة (طه) هو تكرار فني مقصود، لا يُراد منه أن تُذكر الثانية بالأولى من باب التناغم الموسيقي فحسب، وإنما يضاف إلى ذلك، التعقيب بذكر السعادة التي ينعم به المؤمن والشقاء الذي يغمس فيه الكافر.

اتفق تكرار الفواصل القرآنية في بعض فواصل سورة (طه)؛ لتُناسِبَ ما قبلها وما بعدها من فواصل: فآيات (طه) السابقة واللاحقة تقوم فواصلها على المد بالألف اللينة، ومن ذلك فواصل الآيات “واتفاق الفواصل يحقق الترابط والإيقاع النغمي الموحد للسورة، وأحياناً يحدث تقديم وتأخير في العبارة من أجل تحقيق الإيقاع النغمي في الفواصل ومثال ذلك في قوله تعالى: )فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى( (طه: 67) أصل النص القرآني: فَأَوْجَسَ مُوسَى خِيفَةً فِي نَفْسِهِ، ولكن النص القرآني قدم وأخر مراعاة لفواصل الآي؛ ولتحقيق الانسجام الموسيقي، والتناسب والتناغم النغمي العام في السورة؛ الأمر الذي يحقق القيم التعبيرية والجمالية للخطاب القرآني .

 

وجملة القول في هذا المقال أنه كشف عن أن إنزال القرآن جاء موضحاً لطريق سعادة البشرية قاطبة في الدنيا والآخرة، وكشف – كذلك – عن مواضع التشابه والتماثل في الآيات القرآنية في سورة (طه) المباركة، وأبان عن أنَّ هذا التشابه قد جاء مراعياً للسياقات المصاحبة للآيات، مع الإشارة إلى توضيح الظواهر البلاغية والبيانية التي توافرت في الآيات القرآنية المتقاربة في سورة (طه) الكريمة، ويتبقى للباحث استكمال الجزء الثاني من دراسة التكرار في سورة طه الكريمة مع سور أخرى.

واللهَ يسأل أن ييسر له – أو لغيره من الباحثين- إعداد دراسة مستوفية عن هذا العلم القرآني علم التكرار وما فيه من تشابه وتقارب بين الآيات في القرآن الكريم، والحمد لله رب العالمين.

المصادر والمراجع:

[1] ) ينظر: تقديم كتاب أسرار التكرار في القرآن لمحمود الكرماني، دراسة وتحقيق: عبد القادر أحمد عطا، دار الفضيلة، القاهرة، د . ت.

([2]جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تفسير الطبري، تحيق محمود شاكر، وأحمد شاكر، مكتبة ابن تيمية للنشر والتوزيع بالقاهرة ، ( د. ت )، 5 / 461.

[3] ) ينظر: لسان العرب، ابن منظور، مادة (شقي)، دار صادر بيروت، الطبعة الثالثة، ١٤١٤ ه.

[4]  (روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، الألوسي، تحقيق: علي عبد الباري عطية، دار الكتب العلمية ، بيروت الطبعة: الأولى، 1415 ه.

[5] ) صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، طبعة أولى، القاهرة، دار الصابوني للطباعة والنشر والتوزيع،1997 م  ،٢ / ٢٢٦

[6] ) الكشاف، الزمخشري، مكتبة العبيكان، الرياض، ط 1 ،1998، 3 /54 .

[7] ) ديوان المتنبي، المتنبي، شرح ديوان المتنبي، البرقوقي،  2/ 56.

[8] ) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير،  جمعية إحياء التراث الإسلامي، الكويت،  2005م، 3 / 231

[9] ) الميزان في تفسير القرآن، الطبطبائي ، 14 / 127 .

[10] ) لسان العرب، ابن منظور مادة (رحم).

[11] ( معالم التنزيل في التفسير والتأويل، البغوي، تحقيق: محمد عبد الله النمر، دار طيبة، الرياض، 1989 .

[12] ( تفسير الشعراوي، تفسير سورة (طه)، الشعراوي نداء الإيمان http://www.al-eman.com

[13] ) تفسير السعدي، السعدي، طبعة دار السلام بالرياض. 2 / 58 .

[14] ) الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي، تقديم، خليل محيي الدين الميس، وضبط مراجعه صدقي جميل العطار، وخرج أحاديثه عرفات العشّا، بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر،1954 م.

[15] ) التفسير الوسيط للقرآن الكريم، محمد سيد طنطاوي، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة ط1 ، 1997 – 1998. 8 /89 .

[16] ) ينظر : الموسوعة الشاملة. islamport.com

[17] ) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير.3 / 231

[18] ) ينظر : سوره (طه) دراسة لغوية أسلوبية مقارنة، إبراهيم عوض، الطائف،١٩٩٣.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى