ثقافة

قراءة موجزة في مدحة “أمدائح لي فيك أم تسبيح” للبوصيري

قراءة موجزة في مدحة “أمدائح لي فيك أم تسبيح” للبوصيري

بقلم: عباس عبد الحميد مجاهد 

رئيس نادي أحباب اللغة العربية الفلسطيني 

هنا يطلق البوصيري تنزيه رسول الله بإبعاده عن كل سوء وعجز، وأراد البوصيري بذلك حتى تحط خطاياه وذنوبه، وهذا التمجيد إشارة من البوصيري لروحه صلى الله عليه وسلم العلية وصفاته العلى، وبيان ما يمتلك من قدرة، وهنا أشارة للحقيقة المحمدية بأن كل المخلوقات طوع أمره، وأنه المتفرد بالنور، لا يشاركه فيه أحد، أي هو النور الذي يتنقل في الأصلاب، وأن السموات والأرض من قبضة هذا النور، وكلها من طوي هذا النور، فالبوصيري يشير أنه صلى الله عليه وسلم مبدأ التكوين والخلق، وأنه وجد من الذات العلية نورا والتي عنها سائر المخلوقات، يقول:

أمَدائِحٌ لِي فِيكَ أمْ تَسْبِيحُ لوْلاكَ ما غَفَرَ الذنوبَ مَدِيحُ

النور المحمدي

النور أودع في صلب آدم، ولا يزال يتنقل من صلب إلى صلب، ومن رحم إلى رحم إلى أن أودع في صلب عبد الله بن عبد المطلب، ورحم آمنة بنت وهب والدي رسول الله، فالنور المحمدي أول مخلوق عند المتصوفين، ثم جعلوا الوجود كله مخلوق من نور، ويشدد البوصيري على قدم النور المحمدي وعلى استمرار هذا النور في آباء رسول الله، منذ بداية الخلق، وعلى عظم هذا النور، وفي هذه القصيدة إيمان جازم بالروايات الغيبية من بداية الخلق، ومنها تقديم نبوة محمد على خلق آدم، وهذا النور المحمدي انتقل، وتنقل، يقول:

 

عَجَباً لَهُم لِم يُنْكِرُونَ نُبُوَّة ثَبَتَتْ وَلم يُنْفَخْ بآدَمَ رُوحُ

وهنا تأكيد من البوصيري لما رآه ابن عربي أن أصل أرواحنا روح محمد، فهو أول الآباء روحا، وآدم أول الآباء جسما، فإشارة البوصيري تكمن في أول روح مخلوقة في عالم الملكوت، فالروح أسبق في الخلق من الجسد.

المعجزات والمفاضلة

إن ذكر المعجزات والاتساع في عرضها في المدحة النبوية إلى جانب المفاضلة بين الأنبياء، وتفضيل رسول الله عليهم جميعا، يقودنا إلى الفيض في مدح رسول الله، وإلى نظرية الإنسان الكامل.

التوسل

يتوسل البوصيري رسول الله؛ ليكشف الله للناس كربهم، فالفضائل التي أعطيت للنبي فوق كل فضيلة، وسجل البوصيري أثر رسول الله في الناس وهدايته لهم، فلا تغفل نظرية الحقيقة المحمدية عن الاستجارة برسول الله، ” ولقد أثبت العلماء في مؤلفاتهم القيمة التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، قبل وجوده وبعد وجوده في الدنيا، وبعد موته مدة البرزخ، وبعد البعث في عرصات القيامة، ومما يؤكد ذلك قوله تعالى: “وابتغوا إليه الوسيلة”.

وأكد على فكرة التوسل ابن تيمية: “اتفق المسلمون على أنه صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق جاها عند الله، لا جاه لمخلوق عند الله أعظم من جاهه، ولا شفاعة أعظم من شفاعته” وفي رسائل إخوان الصفا جعلوا قضية التوسل مرتبطة بدرجة معرفة المؤمن لله “وأما من قصر فهمه ومعرفته وحقيقته، فليس له طريق إلى الله تعالى إلا بأنبيائه وأوصيائهم وعباده الصالحين”، وقد عرف البوصيري شفاعة النبي لأمته يوم القيامة، يقول:

نَدْعُوكَ عَنْ فَقْرٍ إليكَ وحاجَةٍ وَمَجَالُ فضلِكَ لِلْعُفَاةِ فَسِيحُ

فاصْفَحْ عَنِ العَبْدِ المُسِيءِ تَكَرُّماً إنَّ الكريمَ عَنِ المُسِيءِ صَفُوحُ

وَاقبلْ رسولَ اللَّهِ عُذرَ مُقَصِّرٍ هُوَ إنْ قَبِلْتَ بِمَدْحِكَ المَمْدُوحُ

 

ففي توسله لطلب الرحمة والمغفرة من رسول الله، يطلب أن يكفر ذنبه، وليبدأ حياة جديدة مع التقوى، فهو يستجير من ذنبه بحرارة وورع، ليحصل على الراحة النفسية لاستشعاره عظم ذنبه.

أثره في الإنسانية

ففي النص أثر سيدنا رسول الله في الدنيا، وفي الأرض التي حل فيها الناس، وفي الأشياء التي لمسها، أو استخدمها، ولم تغفل المدحة عن هداية الرسول للناس أجمعين، ولم يكن فضل رسول الله في وقت محدد، ولا أثناء حياته، بل هو فضل دائم منذ الخليقة، بقول:

إنْ جاءَ بعْدَ المُرسلينَ فَفَضْلُه مِنْ بعدِه جاءَ المَسيحُ وَنُوحُ

ومن آثاره فهو علاج القلوب المرتبطة بالجهالة، وله أثر في الكون؛ على الشموس والكواكب، والسماء والأرض، يقول:

جاؤُوا بِوَحْيهِمُ وَجاءَ بِوَحْيِهِ فكأنَّه بين الكواكبِ يُوحُ

الصلاة على النبي

فالصلاة على النبي غيث لعلات الذنوب، فالبوصيري في ذكر الصلاة على النبي يربطها بمظهر من مظاهر الطبيعة، للدلالة على دوامها، فربط دوامها بالغيث، فهو لا ينقطع، فالصلاة تغفر الذنوب، وتزيحها، يقول:

صَلّى عليه اللَّهُ إنَّ صَلاتَهُ غَيْثٌ لِعِلَّاتِ الذُّنوبِ مُزِيحُ

دعوة للاندماج في العنصر السماوي

تلحظ في المدحة كثيرا من الأبيات تقصي الجانب الأرضي، وتندمج في العنصر السماوي، بمعنى استعادة البوصيري للجزء الإلهي يقول صاحب تكوين العقل العربي الجابري: “إن النفوس البشرية كانت موجودة قبل أن تتصل بالأبدان وكانت في وجودها على اتصال مباشر مع الله”، وبهذا يكون البوصيري راغبا في العودة للأصل النوراني الذي خلق منه، فهو يطلب من النفس أن تأخذ مدح أحمد بما في المدح من توسل وتمجيد وتضرع، وبأن يدنيه منه، حتى يرقى بمدحة مكانا عليا، يقول:

يا نَفْسُ دُونَكِ مَدْح أحْمَدَ إنَّهُ مِسْكٌ تَمَسَّكَ ريحُهُ والرُّوحُ

والبوصيري يرى رسول الله ومناقبه ضاق الفضاء بذكرها والهواء، إنه ينبثق من كل شيء في الوجود، فلا شيء سواه، إنه الحق بمعجزاته، والخلق بنوره، يقول:

وَاذكُر مَناقِبَه الَّتي أَلفاظُها ضَاقَ الفضاءُ بِذِكرِها وَاللوحُ

الحب الصوفي

القرب من رسول الله، يطفئ الشدة وتبتعد عنه، فعلى الكل أن ينشد الوصال ويبتغي اللقيا، ويكون ذلك بتنفيد ما يأتمر به، وينتهي بنواهيه، وهذا فيه خلو من الرغبة الإنسانية، فهو حب نقي شفاف، فهوى الصوفي لا يهدأ ولا يستقر، يقول:

 

حتى دَنا منه النبيُّ وَمَنْ دَنا منه نأَى عَنْ قَلْبِهِ التَّبْريح

العلاقة بالوجود

في المدحة إشارات واضحة إلى النور المطلق في طبيعة الكون، فإذا كان نور رسول الله ظاهرا في نفسه، فهو مظهر لغيره، وهذا ما يجعل علاقته بالوجود عميقة ومباشرة، فكل ما هو دونه بحاجة إليه، فكل جزئيات الكون؛ الأرض، الجذع، الغمامة والسحاب، الفضاء، الهواء، يوح، الماء، الدواب السارحة، الرياض، البراق، النباتات، الكواكب…، كلها مرتبطة بماهية النور وطبيعته وخصائصه، فهي تتموضع في عالمها الطبيعي المادي، ولا تتخلى عن قداسة عالمها الإلهي، فهذا النور سانح في العالم الأعلى، والعالم السفلي، ففيه صفات الحياة والقدرة والعلم، وهو نور ليس من جهة الفيض والإشراق فقط، بل من جهة الأمر والطاعة كذلك، فالبراق أسرى بجسمه، وعاد به، يقول:

أسْرَى الإله بِجِسْمِهِ فكأنهُ بَطَلٌ عَلَى مَتنِ البُرَاق مُشِيحُ

وفي المدحة إشارة واضحة إلى مبدأ ظهور العالم والوجود الأول، يقول:

أنّى يُكَيِّفُها امرؤٌ وَيَحُدُّها بالقولِ وهْيَ لِذَا الوُجُودِ الرُّوحُ

في هذا البيت علاقة بين العالم الروحاني المجرد بالواقع المادي المتحقق فيه، وهنا يحيلنا البوصيري أن الحقيقة المحمدية تحمل خصائص روحانية ومادية، فالحقيقة المحمدية روحانية في عالم الغيب، ومادية في عالم الظهور، وفي قوله: “وهْيَ لِذَا الوُجُودِ الرُّوحُ” إشارة منه أنها حقيقة الحقائق، فالحقيقة المحمدية جامعة ذرة من ذرات الوجود.

زر الذهاب إلى الأعلى