نظرة إلى شهوات مريد البرغوثي

نظرة إلى شهوات مريد البرغوثي
صفاء حميد- اليمامة الجديدة
شابٌ ضئيل سافر في رحلة من دير غسانة إلى القاهرة، حاملاً اسمه و مضمون اسمه على كتفيه، يسعى لأنّ السعي هو كل إرثه كما هو كل إرث الذين صيّرتهم النكبات والنكسات أناساً آخرين.
مريد البرغوثي ابن رام الله الأبديّ وابن كلّ البلاد، كتب خلال سنوات حياته الحلوة والمرة، شعراً كثيراً لكن كعادة الشعر يبرز بعضه ملوّحاً لك، مميّزاً نفسه بتلويحته عن أقرانه.
وكذلك كانت الشهوات لي من بين شعر مريد، حين سمعتها للمرة الأولى بصوته على تطبيق “الساوند كلاود” ظللت أحبس أنفاسي على مدار الوقت الذي كان يلقيها خلاله.
لم تكن شيئاً قابلاً لأن يسمع بأذن فقط، بل شيئاً يُنصتُ إليه عميقاً في الروح.
لاحقاً شغلتها على اليوتيوب، لأبصرها كما سمعتها، فجاءتني كما توقعت، يقف مريد على المنصة الصغيرة برأس تشتعل بالشيب وحضور تطفح منه الخفة والثقة قبل أن يبدأ بابتسامته الأثيرة تلاوة هذا السفر الهارب من كتاب مقدس ما:
“كسّر البرق بلّوره في الأعالي”.
ولو كان التقييم لي لقلت إنها أبدع استهلال خطّه شاعر في العصر الحديث.
خمس كلمات فتح فيها مريد باب الشهوات، ودلف منه إليه، طفلاً وشاباً وكهلاً، شهوة الحب وشهوة الجسد وشهوة الوطن وشهوة الطفولة وشهوة الحياة.
يتنقل مريد بخفة وسلاسة بين الكلمات غازلاً منها تكويناً فريداً باذخ الترابط تعلوه تلك المسحة البهية من الغموض الشفاف، ما يمكن أن نفهمه ونستشعره مع استحالة لمسه.
يحمل على ظهره كيساً فارغاً، ويدور به حيث يمضي، ليملؤه بما يرى ويسمع، بكلام الناس اليوميّ، بما ينتظر منهم وما ينتظرون منه، بما يشتهيه من نساءٍ يزيّن الذهب أرواحهنّ لا معاصمهنّ ثائرات على السلطان وكاسرات لقيدِ الحريم، ومن رجال كلّ مجلس لهم هو هيئة أمم، يحلّون فيها ويربطون، ويحتسون شاياً على أرواح الرؤساء و الكراسي المخملية.
يملؤه بالوطن كما يريد له أن يكون، لا جلاداً بسوط دائم المطالبة بالبطولات، بل أرضاً نحيا على ظهرها ونشتمها لو راقت لنا شتيمتها.
يملؤه بالصغار الراكضين على دروب الحب، تحرّك رفة الفستان فيهم كل حماسٍ لأن يكونوا، وتحرّك كل شعرة شاربٍ فيهنّ رغبة أن يكنّ.
يحمل مريد الكيس و ينثر الكلمات في أرض روحه، فتنبت الشهوات مقطعاً مقطعاً، يعرّي كلّ مقطعٍ منها زاويةً فيه، زاويةً فينا، نحن الذين نتمنى كما تمنى أقل القليل من الحياة فلم يلح لنا غير موتنا، في بلادٍ تحيّرنا أهي بلاداً أم غولة.
و أخيراً بحيلة العاجز، يرسم الرجاءات التي تعتصر روحه، رجاء الحصول على فسحة للتفاصيل الصغيرة، رجاء الفتى في الوسامة، رجاء البنت في الحب، ورجاءه في مطار رحيم، لا يفتش روحه مع الأمتعة، فسحةً لتكون البلاد مجرد بلاد، لا أرضاً للقداسة و العصمة.
وأخيراً يختم مريد القصيدة كما يختم عاشقٌ يخامِر عشقه الغضب المحبب رسالةً إلى محبوبة نرجسية لا ترتضي من محبّها غير التملك:
اتركي فسحة للرجاء
اتركي فسحة للجنون
أنت أخبث مما نظن وأحلى
فهلا ابتكرت لنا فكرة للصعود اليك
سوى موتنا
في هواك
شهوة أن نريح القصائد منك قليلاً
ونكتب عن أي أمر سواك..