ثقافة

أُمّي قصيدة للشاعر المتوكل طه

أُمّي

قصيدة: المتوكل طه

***
..أُنادي عليها فتضحكُ قبلَ الكلام،
وتكشفُ عن لؤلؤٍ في الظلام،
وتتركُ أزهارَها حيثُ سارت،
وتنشرُ أطيابَها في الثياب.
صوتُها واحدٌ لا يُبدّل أحرفَه،
حين تنهرُنا واحداً واحداً،
كي نعودَ إلى لغةٍ أو حساب..
وتحملُ عكّازةَ الجَدِّ، تلحقُنا
دون أنْ تضربَ الرّاكضين، وتضحكُ،
ثمّ تُهدّدُنا أننا لن ننالَ الذي قد أعدَّته..
في طبقٍ من رُضاب.
نأكلُ،
ثمّ تُلَمْلِمُ ما ظلّ في الصّحنِ، تمضغُه،
وهي تشرقُ كالشمسِ بين السّحاب.
وما بين حقلٍ وحقلٍ.. نسوحُ مع الطّيرِ،
نبحثُ عن أيّ عُشٍّ،
وننصبُ مِصيدةً للعصافيرِ، تحتَ التراب،
ونشعلُ موقدةً من شهقاتِ الطفولةِ،
أو نتسلّقُ رُّمّانةً دَبَّغَتْ ثوبَ أعيادِنا بالرّعونةِ،
أو نأكلُ الثَّمرَ المزَّ من شجرٍ فاضَ من كَرَمٍ..
بالعِتاب.
وقد لا أعودُ إلى الدّارِ، خوفاً،
لأنّي تأخّرتُ،
لكنّها تعرفُ الأَمْرَ.. تندَهُ جارتَها: هل أتى؟
ابعثيه!
فأدخلُ،
ترمقني بالعِقاب..
وأمضي سريعاً إلى النوم،
توقفني؛
هل تعشّيتَ يا ولدي؟
ثم تمسحُ رأسي، وتحضنني، أو تُغَسِّلُ وجهي،
وتطعمُني، وهي تقرأ في سِرّها فاتحاتِ الكتاب.
تقول لنا:
لا تنظروا في المرايا إذا حَلَّتِ الظلمات،
ولا تنظروا في عيونِ البنات..
وتعشقُ صوتَ المُرَتِّل،
ثم تقول: اسمعوا لحنَ دمعتِهِ في البيات،
وتبكي، كعادتها، إن تعالَتْ أغاني السجينِ بعكّا
أو .. أجملُ الأُمّهات،
وتبكي بصمتٍ إذا ما بكى النَّقْشَبَنْدِيُّ
وهو يُصلّي على قمرِ الكائنات،
لها مثلُ رائحةِ الشّهدِ بين الغصون،
ونَفْسُ العيونِ..
وتبكي إذا سقطتْ فَرَسٌ في الضباب.
لن أُعَرِّفَها!
إنّها مثلُ ظاهرةِ البرقِ والرّعدِ،
مثلُ المعابدِ،
أسطورةُ الوردِ،
نايٌ جريءٌ
وأيقونةُ الماء،
ساحرةٌ دون أفعى،
وبهجتُنا حين نمضي
وفرحتنا في الإياب.
تغفو، وتسمعُ ما نامَ مِن حولها؛
من حَمامٍ وزهرٍ وعشبٍ،
على بطنِ أبنائها الحالمين،
فتغمض.. حتى ترى جَنّةً في الخراب.
وتطلقُ من طاقةِ البيت رفَّ النجومِ،
وتبعثُها للذين مضوا في طريقِ الظلامِ،
لتشعلَ بعضَ البياضِ على عتمةٍ في الغراب.
تبكي إذا ما نجحتُ
وتبكي إذا ما رسبتُ
وتنظرُ بوابةَ الدّار.. وهي تنودْ..
وتبقى على درج الدارِ.. حتى أعودْ..
وتبكي إذا غضبتْ من أبي،
وتبكي إذا بُشِّرَتْ بالصَّبي،
وتبدأ باسمِ الحبيبِ وذِكْرِ النَّبي..
وتبكي إذا هتفوا للشهيد،
وتبكي إذا غاب إخوتُها.. ذاتَ عيد،
ولا تتكلّمْ، ولا تتلعثمْ،
وقد تتألمْ، إذا اكتشفت أنّ ماءَ أعمامِها
من سراب.
تصحو إذا نمتُ،
تبكي بدمعي، وتأكل بعدي،
وتحضنُ رأسي إذا ما مرضتُ،
وتحكي مع الله، ترجوه، إنْ غبتُ أو رُحتُ أو جئتُ..
وحينَ كَبُرتُ اكتشَفتُ، إذا ما مررتُ بكلّ النساءِ،
ينظرنَ نحوي.. ويندَهْنَ باسمي،
كأنّيَ ما زلتُ طفلاً..
وينقطُ من شفتيّ الّلعاب.

زر الذهاب إلى الأعلى