ثقافةنصوص مختارة

هل يُعقل أنَّ يكون الآن غريب عسقلاني هناك 

هل يُعقل أنَّ يكون الآن غريب عسقلاني هناك

بقلم: هاشم شلولة/ فلسطين 

هل يُعقل أنَّ يكون الآن غريب عسقلاني هناك؟ وهل هو هناك بكُلِّه أم جزء منه؟ ولماذا يكون هناك أصلًا؟ أحقا مات غريب عسقلاني؟ طيب لماذا مات؟ ألم يكُن مُستقرًا رغم إنهاكه الأخير؟

لو لم يكن غريب هذا الغريب، لما كان ليحز في قلبي هذا الارتجال الطارئ، وغريب منذ زمن كان مرتعًا للأوجاع والأتعاب، وكان يعيش مع هذه الأوجاع بكل صمته.. ولم يخبرنا مرّةً أنَّ الموت قد يرِد في حساباته، رغم شعوري وكثيرين أنَّ غريبًا كعبةٌ والموت يطوف، لكن ثمّة تأخير أكيد كان يخاطر كل من يرى هذا الطواف، وهذا التأخير ليس لأنَّ الموت لديه استثناءات؛ بل لأنّ غريب ربّى الموت على نارٍ هادئة سليمًا كان أو عليلا.. وقد عرِف الموت وعرّفه معرفةً ضمنية، وأخذ بيد خيالاته نحو مطلقٍ من كلامٍ ليس عابرًا، بل قصيرًا في الارتعاد وقصرًا في الثبات.. وقد سُمي موتٌ، وما هو بالموت يا غريب عسقلاني. وليست التسمية معضلة إذا ما ارتبط الأمر بأبجديةٍ نشّفتها شمسُك التي لم تذر ثقبا من ثقوب الأبديةِ إلّا كانت حشوًا له..

في كل مرة كنت ألتقيه، كنت أخاف النظر في عيونه، وربما هو كذلك ضمنًا.. لأنني أعتقد بأني جزء من الفوضى غير الخلاقة التي يرصدها عمره الذي في عيونه، تلك العيون التي تنبئك أنَّ غريبًا قد آوى إلى جبلٍ يعصمه من الفتنة، ويقيه من الطوفان.. فأنا ابن هذه الكذبة، وهو آخر الشاهدين على دروب الملح، الذين لم يتفوقوا على زمنيتهم، ولا تفوقت عليهم كما يحدث في معرّةٍ اسمها الحاضر، بل عاشوها رقمًا رقمًا وحرفًا حرفًا.. دون أن ينظر وغدٌ في ساعته؛ لينذرَك بأنّك تأخرت في الغناء، فقد كان غريب يغني كثيرًا، وحكمة الأسماء.. آه من حكمة الأسماء وهي تتحد مع الأفق البعيد، ومع سارية أسمتها الأبدية غريبًا!

لم أعرفه إلّا رفيقًا متمهلًا. يحبُ كلَّ شيء ويكرهه في آن، وكذلك يعرف حقيقتهم جميعًا ولا يعرفها.. كان مُمسكًا لجرّة من الطين، وهو يعلم أنَّ تاريخًا على كتفيه يحاوط عنقه، حتى أنّه عقد صفقةً مع هذا التاريخ الثقيل؛ مفادها التخفف منه كلما واجهَتْه بنت آوى جريحة، فيد غريب الرفيقة كانت تمسح على جرح البدايات فيبرى، وما هو بالمسيح.. بل غريب عرّفته الملحمة أنه رجلٌ اجتاز النهرَ جزءٌ منه، وأجزاءٌ ظلّت متاخمةً لهذا النهر؛ تبكي على زمنٍ راح، حمل الأهلّة في حجره ومضى.. وكانت عتبات البيوت ساهرةً في انتظار المسافرين، الذين وعدوا أمهاتهم بالعودةِ، ولم يعودوا أبدًا، الانتظار هو الانتظار، والعيون لم يتوقف سيلها..

هذا يوم المناداة، فكلُّ الغرباء سيضحكون خلاصًا، وكلّهم في شقوة من بكاءٍ لأشياء سوى العيون.. فمثلًا تبكي الأيادي التي سلّمت على يد غريب، وتوازى السلام مع رجفتها، تبكي الأصوات التي حاورته حول الفن ومأساته الكبرى ومتسلقيه وصاعديه.. هذا يوم إخلاص الذكر، وخلاصة الحزن. الحقيقة أنني مصدوم ولست كذلك معًا، مصدوم لأنّ غريب دخل حالة المحدودية للحضور، وليس كذلك لأنّه ذهب نحوه ونحبه.. فلا محدود هناك عند خلود التراتيل، وتحوّل التهويمة آية.

أنا حزين على هذا الغياب المباغث وغير المباغث في آن. رحل تاريخ طويل، وكلمة سامية.. رحل رجلٌ أحبّه ووجهه وتجاعيده التي تحمل رجلًا ثقيلًا ولا يحملها. رحل صوتٌ خبيرٌ وجامعٌ ومؤنس.. أيها الناس.. رحل غريب عسقلاني.. رحل غريب عسقلاني.. عنجد رحل غريب عسقلاني.

زر الذهاب إلى الأعلى