نصوصنصوص مختارة

رحلتي إلى دمشق لسماع محمود درويش: من ذاكرة الشاعر ناصر عطا الله

رحلتي إلى دمشق لسماع محمود درويش: قصة صبي يجتاز الصعوبات من أجل الشعر والهوية الفلسطينية

من ذاكرة الشاعر ناصر عطا الله

كنت غضًا، وسلسال ذهبي عيار 16 يتدلى من عنقي، حاملاً خارطة فلسطين على تمامها، وتفاحة أدم بارزة للعيان، وشعري الأشقر مصدر غروري، وبياض بشرتي محط خيلائي، ووعي يشكله شعراء المعلقات، وكتاب أذكر عنوانه( من يجروء على الكلام)، إذًا نحن في عام 1982، وفي نهاية هذه السنة الصعبة، كان محمود درويش قد نجا من حصار شارون لبيروت، ووصل إلى دمشق، وهنا قررت وزارة الثقافة السورية بوزيرتها نجاح العطار، أن تنظم أمسية شعرية لمحمود.

سمعت الإعلان عن الأمسية من إذاعة سورية وأنا عائد من مدينة طرطوس، إلى الحميدية، البلدة التي نقيم فيها، فقررت أن أخوض معركة السفر إلى دمشق، نعم معركة لصبي عمره خمس عشرة سنة، لم يتجاوزها، والسفر 400 كيلو متر لم يكن قراراً سهلاً، خاصة وعائلتي تعيش تيهًا بعد فقدان آثار شقيقي المقاتل في بيروت، الذي تردد مصيره بين الا..ست..شهاد، والأ.. سر، لكنني صممت على رغبتي، وكانت العقبة الكبرى مصاريف السفر، فقررت الشغل في دكان الشيخ أحمد إمام المسجد في بيع البوظة، وافق رحمه الله، كما وافق أبي الذي كان يحب محمود درويش، ولكن والدتي عاندت وعندما يعاند أهل زرنوقة، لا تنتظر منهم اللين، عملت، وجمعت مصاريف السفر، وأضربت عن الطعام، وهددت بارتكاب حماقات دون أن أقدر الظرف الصعب الذي تعيشه العائلة، وتحت وطأة وقسوة الوش، والطلب، وافقت والدتي رحمها الله، بشرط أن تعرف السبب الحقيقي لسفري، وكان الصدق ثابت قولي، وكانت أول مرة تسمع اسم محمود درويش، فسخرت مني، وقللت من شأن رغبتي، ولجأت إلى والدي لكي يقنعني بالعدول عن نيتي، لكنه كان في صفي، ونجحت بتحصيل عشرين ليرة ضفتها لأجري الذي أخذته من الشيخ، فكانت أول ثروة مالية تجتمع في جيبي.

لم أنم ليلة السفر، وقلت أعوض النوم في الباص، وهذا لم يحصل، رسمت لمحمود درويش أكثر من هيئة، وشكل، وتوقعت لون بدلته، ونعله، وقصة شعره، وطريقة كلامه، وسرحت بخيالي، حتى توقف الباص في الكراجات، نزلت وكانت وجهتي أقرب منطقة لجامعة دمشق حيث مكان الأمسية حسب الإعلان الإذاعي.

تأكدت من بواب الجامعة بوجود الأمسية وتوقيتها الذي سيكون بعد ست ساعات من محادثتي الاستعلامية معه ، خلال هذه الساعات استقطعت زمنًا دمشقيًا يليق بسائح قروي وبحري، في أم الأمويين، ورحت أمشي كمكتشف، ونقيب، وعالم وجوه، ولأنني من مواليد دوما أصلاً ، ذهبت إلى كراج البرامكة القريب من الجامعة، لكي أتفحص الباصات المتوجهة إلى مسقط رأسي، لا لشيء، سوى لأنني اشاغب روحي بدلالات البهاء، والانتماء لجوار دمشق العريقة.

شربت من مياه الفيجا المعدة على أسوار المطارح على طول الشوارع، كما أنني جلست في حديقة عامة، وقد أوجبت النفس بغداء شهي، ابتعته من مطعم أو ما يشبه المطعم وأخذت وجبتي وجلست على مقعد خشبي تخيلت للحظة أن نزار قباني جلس عليه، وبعد انصراف جل الوقت، وتهويمات الروح المشتاقة للقاء درويش قررت أن أقتحم الجامعة قبل الموعد بساعة، واعتقدت أنني سأكون أول المقتحمين، ولكنني دهشت عندما شاهدت طوابير الناس، وهي تسعى كموج البحر إلى بطن الجامعة، وما كان مني إلا أن أخوض بجسمي وروحي مع الزاحفين، و نجحت بحفاظي الأمين على سلسال الذهب وخارطة فلسطين، وبجهالة صبي تعمدت إظهارها لبريق قد يحدث انتباهة لدى الناس فيقاربوا بيني وبين الشاعر محمود درويش، فالهُوية لها سحرها، وهذا ما حصل مع البعض فسهلوا لي العبور إلى مدرج كلية الطب حيث مكان الأمسية المقرر.

إلا أننا وبسبب طوفان البشر الزاحف وضيق المدرج الذي لا يتسع لأكثر من 400 شخص، قررت وزارة الثقافة نقل الأمسية من الجامعة إلى مدرج مكتبة الأسد الوطنية، ولكن كيف؟

اضطرت الوزيرة نجاح العطار أن تطلب من قيادة الجيش السوري أن تساعدها بتسهيل نقل الناس من الجامعة إلى مكتبة الأسد، وهكذا حرك درويش جيشًا من أجل قصيدة، تسلقت عربة عسكرية بتدافع خشيت على نفسي وخارطتي منه، ولكنني نجحت في الثانية، صبايا في عمر الياسمين، وشباب، وطلاب جامعات، ورجال ببدلات رسمية، وسيدات بكامل أناقتهن، يومها اغتسلت العربات العسكرية بأطيب العطور، وما إن وصلنا مدرج الأسد، حتى وجدت كتائب الحاضرين قد احتلت معظم المقاعد، وأصبحت أبعدهم عن منصة الشاعر، وصفوف كبار الزوار والوزراء، ورغم ذلك جلست وبجواري فتاة عرفتني على نفسها بريم من مخيم العائدين في حمص، طالبة سنة ثالثة في الطب، وسألتني إن كنت سمعت عن الشاعر أحمد دحبور، فأجبتها بلا، استغربت وقالت: صديق محمود درويش، ففهمت منها أنه جارها في المخيم، بدأت، وانتهت الأمسية، وأنا مستمتعًا بقصائد محمود درويش رغم وجعها الطازج، ورائحة البارود فيها، وغبار الدمار البيروتي، واعتلال حنجرته على غير عادته، فحجم الألم الذي كان فيه، طغى على إلقائه، وصفاء طلته، ونبرة صوته.

فشلت بالوصول إليه، عقل الصبي الذي كان يديرني، وسوس لي أن أخلع السلسال الذهبي والخارطة، واُلبسه محمود درويش، لكنني ما استطعت حتى أحدد ملامحه بسبب البُعد، كان الليل قد تسلل، وكنت قد قررت العودة لأنني جهلت الأماكن، والمطارح، وما من صاحب، أو صديق أبيت عنده.

طريق عودتي إلى بلدتي الحميدية كانت شاقة، لانعدام المواصلات بينها وبين مدينة طرطوس، فاضطررت إلى السير مشيَا في الليل مسافة 23 كيلومتر، وصلت وصوت نداء الفجر، وحتى لا أحدث لجة في البيت قررت أن أقضي ساعة ما بعد الفجر حتى شقشقة الضوء على جذع شجرة الكينيا المزروعة غرب البيت، هذا ما خططت له وأنا أمشي، وعندما وصلت وجدت والدتي على عتبة الدار، وأول نظرة منها تأكدت أنني أنا، بدأت بشتمي وشتم محمود درويش، والشعر، حجم القلق الذي غرقت فيه ظهر عليها، فما كان مني إلا أن أعانقها واقبل رأسها عادتي عند غضبها المتكرر، وحين بردت نارها، وتفقدتني عضوًا، عضوًا، سألتني إن كنت سعيدًا بما فعلت، فأجبتها بنعم.

ماتت أمي، ومات أبي الذي كان يحب محمود درويش، ومات محمود نفسه، ولم تمت دمشق، ولا القصائد.

 

 

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى