نصوص

الساعة الثانية صباحا، وقف إطلاق النار: هاشم شلولة

الساعة الثانية صباحا، وقف إطلاق النار.أطفأتُ الانترنت، وذهبتُ للمطبخ.. صنعتُ كأسًا من الشاي، ورُحتُ صوب باب البيت، اتكأتُ على العتبة، وأبقيتُ الباب مفتوحًا بشكلٍ كامل. ارتخيت وبدأت أتنفس بعمق، وأدخن بشراهة.. أما الشاي فقد أنسانيه التأمل في السماء التي لا توجد بها طائرة محملة باحتمالات الفقد. لم يختلف لون السماء اليوم عن لونها الأمس، لكن الفارق في كثافة الغبار والصراخ والسمر الطويل الذي آنسنا به وحشة بعضنا خلال الحرب. كان حديثنا خافتًا على عكس وضوح جَلْد الأحداث لنا.أحد عشر يومًا استمرارا مقيتا مخيفا.. كل شيء كان مُغايرًا حتى الصراخ؛ كان مُحمّلًا بالرماد والحرب في أوجّ حجارتها المُحطَّمة كدراما يشاهدها الصغار، وأنفاسي اكتسبت إحدى عشر طريقة جديدة للتجسيد. لم أفكر بأي أمر في هذه اللحظة، كل ما هو مرئي كان يثيرني ويسرق انتباهي فأغرق فيه حتى لا ألتقط نَفْسي في زحام الفوضى المُتأجِّجة. أحاول عدم الالتقاء بي، أحاول نسيان وجهي الذي انصهر في الجحيم على مدار الأحد عشر التي مضت، كنوع من التنكر للذات، ربما خشية منها أو خشية عليها..في بادئ الأمر، ستكون سعيد لهذا الخبر، سينقر رأسك بعد دقيقتين صاروخٌ أعمى ويقتلعه، يحدث ذلك بينما تستذكر الجحيم بشكل مفاجئ خلال محاولاتك الهروب، وأنت تعانق باب بيتك الذي اهتز مرارا وسُخِطَ ولُعِن… لكنه لم يُخلَع؛ على عكس أرواحنا التي خُلِعَت مرارا. كانت كل الأمور مُضنية وشاقة، أولها النجاة وآخرها رغبتك الشرهة بالتدخين على بابِ بيتٍ، لم يُطفِئ أضوائِه المسافرُ الأخيرُ. إنها الملحمة التي قد يقع بها أناسٌ كُثْر تختلف سِيَرُهُم عن الصور، ولكن لم تختلف درجة إحساسهم بالفزع الطويل من غيابٍ ما أو تدمير أو فقد.. الشجرُ الآن يُصلي، والأرض سجّادة/ السماء توقّفَ احمرارها على عكس القلب، الذي ظن أن الحقائق هاجس وسط هذا الدمار الكبير/ الاهتزاز دخل الصومعة؛ ليس احترامًا للحواس بل مهارة في صيد الأمل البائر لأجل أن يكون التاريخ حقيقي ومنشود، ينحاز لمن غسّلوا المدى ببكاء الأثكل، بتضرُّع أم الشهيد، بأسقُفٍ بيوتٍ أذن الحب أن تُرفَع ويُذكَر فيها اسمه. المعنى اغتُصِب والبلاد ذوت في روحها. لماذا يرى الأوغاد أبعد من رؤية الصياد؟. كُلُّكُم يرى ويعرف الأرض والشوارع والأسماء لكن لا أحد، لا أحد يعرف السر.. تستطيع الآن أن تدور غزة كاملة، شارعا شارعا، وبيتا بيتا، وحزنا حزنا، لكنك لن تجد إلّا رماد الدمار لزراعة وردة، والدم هو السقاية.. الدم يا لوركا الشهيد/ دم الحرية مُباح، لكن القصيدة تُحرّم على نفسها ما أباحته الغايات في مدن كهذه مُصابة في عروقها. دأبَتْ غزة على فهم صراعها مع المستحيل والممكن والمُحتمَل… حتى تواجه مصيرَها ككُل مرّة ممزقةَ القميصِ وفي ضلال مبين. وسط هذا الضلال؛ نكبر وتكبر معنا عتبات بيوتنا الجريحة وحُطام المباني المُغتالة، التي شَرَّعَتْ لنفسها أن تكون وقودًا لثورة أخلاقية فريدة، جعلت منا حُرّاسًا للموت في سبيل معنى مُحتمَل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى