نصوص

حمار العيلة: محمد فيض خالد

حمار العيلة

محمد فيض خالد/ كاتب مصري

ورِثنا الحقَّ فيهِ، كإرثِ أنسابنا وأقدارها، صغيرا ألِفَ المشاقّ كمَا ألِف حليب أمه، مُنذ كانَ غَضّا فتيّا يمرحُ خَلفها بينَ الحقولِ، يتسمّع أنينها المضني تحتَ أحمالها فلا يكترث، ساعتها لم يكن يعلم عن أمرِ مستقبلهِ وعذاباته شيئا، حتى وعى الحقيقة المُرّة بلا ترتيب، ذاتَ صباحٍ اُحتجِز عن الخروجِ كعادتهِ، وضِعَت البردعة فوقَ ظهرهِ اللّينِ، ويدٌ غليظة تهوي بهراوةٍ صلبة، تحثّه السّير بلا تواني، مُنذ السّاعة انقطعَ لأحمالهِ، ما إن ينقضي شقاء نهاره، حتى يستأنف عناء ليله ، مع انبلاجِ بياض نهاره تُفرغ فوق كاهلهِ أثقالا، لا يجد في حياته علالة من عيشٍ، بل باتَ يتلظى بنارها، وكأنّ التّعاسة ما وجدت إلّا له، بني بينه وبينَ ماضيه سدّا منيعا، لا يعرف من حياته إلّا جحودا ونُكرانا، وأكبادا غليظة تُذِيقه صنوف الهوان، وآلاما تسيلُ لوقعها دموع الفضيلة حُزنا وأسى، مُذ وعيت وأنا أرى “حمار العيلة ” مشاعاً تتخطّفهُ يد الحاجة، تمطرهُ سحائب اللّعنة أينما سارَ، وبمرورِ الزّمنِ عَلَقَ مع هؤلاءِ علوقا لا نجاة منه، ما إن يراني حتى يُحرِك ذيله في استعطافٍ، تتراقص أذنه في هُزالٍ، يدكَّ قدمه المعتّلة في مربطها، ينفر نفرات مُحرِقة، يُجَمجِمُ بصوتٍ حَسير تَطيرُ لُه شَظَايا القلوب ، جَمجَمة الأسير الذي انقطعت عنهُ حَبائل النَّجَاة، اللَّهم إلّا عن ودِّ فتىً لا يملك من أمرهِ، غير أن يَسمح جَسدهِ المُشقَى بكفٍّ حانيةٍ، دَاعِيا لهُ بالصّبرِ والثباتِ، تَطفحُ عينيه بالدّمعِ، لا يدع قطرة فيهما إلّا نَضحها، يشكو جور الإنسان، ويبكي تصاريف زمانه العابث، غواه شيطانه فانفلتَ من محبسهِ في غفلةٍ من سجانهِ، عند انسلاخ الفجر فوقَ الحقولِ، شَرَع يهرول طائشا حول الدار فرِحا مسرورا، ينفث منتشيا نفثات الحرية والانطلاق، في عنفوانٍ تحتَ أثقالِ التّوجسِ، لم يدر إلّا ويد غليظة؛ توزّع لها فؤاده أشتاتا، تطبقُ فوقَ عنقهِ، وتجرّه لتودعه حيث كانَ ، وعصابة من طالبيهِ غِلاظ الأكباد، تُدمي جسده بعصيها القاسية ، سارعت في تلهفٍ كباقي أبناء العائلة، تتوزّعني الهواجس حول مصيرِ المسكين، لكنّ ما إن لمحني حتى بَرَمَ جسده المُدمى جهة الجدارِ، يُرسلُ أناته التي تُذيب الجماد مُستَسلِما لنيرِ سِياط جلاديه، في هاتهِ اللحظة تغافلت عن تُراهات القوم من الحمقى، يتهمونني بتدليلِ الحمار حتى تلفت أخلاقه وأعلن عصيانه، لم اتمالك مشاعري هاجمني انقباض غريب، طالعته بنظرةٍ قلقة مريبة عما ينتظره، زهد المسكين الحياة، انقطع تماما بعدَ أيامٍ عن طعامهِ، بينَ عَشيةٍ وضُحاها اعتراه يأس غريب، وتوجس من كُلّ شيء، حتى أناملي الحانية تُداعِبُ جسده الضّامر لم يعد لها القبول، ها هو يقفُ مُتداعيا تحَتَ الجِدارِ ينتظر موتا محتوما، لم يمرّ الأسبوع حتى لقي الشّقي حتفه ، ودّعت العائلة حمارها الرّاحل بامتعاضٍ مصطنع، سويعات وعادت الحياة كما كانت، رَجَع القوم لسابق عهدهم ليتخيّروا صاحب النّصيب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى