ثقافة

أدب السجون: فسحةٌ بين الألم والأمل

أدب السجون: فسحةٌ بين الألم والأمل


صفاء حميد ـ خاص اليمامة الجديدة

هل يمكن أن ترمم إرادة انسان لم تعد تربطه بالحياة رابطة؟
أنا ذاك الإنسان، لا لست إنساناً، السجن في أيامه الأولى حاول أن يقتل جسدي، لم أكن أتصور أني أحتمل كل ما فعلوه، لكن احتملت.
كانت إرادتي هي وحدها التي تتلقى الضربات، وتردها نظرات غاضبة وصمتاً وظللت كذلك.
لم أرهب، لم أتراجع: الماء البارد، ليكن.
التعليق لمدة سبعة أيام، ليكن.
التهديد بالقتل والرصاص حولي تناثر، ليكن.
كانت إرادتي هي التي تقاوم.
هكذا عبّر عبد الرحمن منيف في رائعته الروائية الشهيرة “شرق المتوسط” إحدى أشهر روايات أدب السجون في العصر الحديث.
طالما احتل أدب السجون مكانةً رفيعة بين إخوته من نماذج الأدب الأخرى، وهو ليس جديداً، إذ كُتِب فيه منذ القِدم، حيث يُرجع بعض النقاد بدايات هذا الأدب إلى الفيلسوف الرومانيّ بوثيوس في كتاب عزاء الفلسفة.
أما عند العرب فتعدّ روميّات أبي فراس الحمداني شكلاً من أشكال أدب السجون الشعريّ، حيث كتبها حين كان أسيراً في سجون الروم.
فما هو أدب السجون؟
يتمحور أدب السجون حول رواية أحداث حصلت إما أثناء الحبس أو أثناء الإقامة الجبرية، وقد تُروى على شكل ذكريات أو أحداث تتم معايشتها أثناء أحداث القصة.
يتعرض أدب السجون العربيّ تحديداً إلى هواجس الإنسان العربيّْ العاديّ والمعارض السياسيّ كنماذج للشخصيات الروائية، ويحرص على التعمق في النفس البشرية واصفاً تقلباتها وأمزجتها وتأثيرات السجن عليها ومتلوّناً معها في منحنيات تصف أدق تفاصيل السجن من تعذيب جسديّ ونفسيّ وكل أثر تتركه هذه الظروف القاسية على النفس البشريّة.
يُراوح هذا الأدب بين الواقع والخيال لكنه أميل للواقع بحكم كونه- في المعظم- مكتوب بأقلامٍ عرفت السجن وعايشته سنين طويلة، أو على الأقل عرفت من عايشوه عن قربْ، وهذه ميزة تحتسب لهذا اللون الأدبيّ إذ تضفي عليه الصدق وسهولة الوصول، يدخلك أدب السجون بسلاسة في المشهد، ويجعلك جزءاً لصيقاً بالزنازين، تراقب الأسرى والسجّانين، تتفرّس الوجوه القلقة، وتبحث في أدوات التعذيب عن مخرج لك وللشخصيات التي تأسرك معها حضوراً وإن كنت حرّاً في مكانك.
ولا يقتصر أدب السجون على الرواية رغم أنها في رأيي أبدع وأكثر قدرة على خلق بيئة سجن حقيقية ودمجك فيهاً، لكن قد يكتب فيه شعر أو قصة قصيرة أو سيرة ذاتية وغيريّة ولكل شكل من هذه الأشكال خصوصيّته وطريقته في نقل فكرته للقارىء، مع الاستظلال بظلّ الفكرة الأساسيّة، فكرة ما وراء القضبان.
عربيّاً لا نستطيع ذكر أدب السجون دون أن تبرز أسماء لمعت في هذا الأدب وصنعت تُحَفاً خالدة.
فعبد الرحمن منيف الذي صاغ ببراعة وسلاسة واحدة من البدائع تنقلك من مكانك لتقبض عليك وتزجّ بكَ في زنزانة ضيّقة تقضي بها أوقاتاً تتمنى فيها الموت مع نجيب ورفاقه، تتلوى ألماً تحت سياط الجلاد، وتمسح عن جبينك بصقة من سجانك أذلّك بها حين اجتهدت لتقف إلى جانب بطل الرواية، وتحمل معك السجن حين تخرج لترى النور بعد سنواتٍ طويلة.

أسماء أخرى لا يمكن لنا أن نمر بها دون ذكرها، كالطاهر بن جلون في رائعته: تلك العتمة الباهرة.
وصنع الله إبراهيم في رائعة شرف.
تتعدد الأسماء والمؤلفون، ويبقى هذا الأدب واقفاً على قضبان السجون، واصفاً الألم ومربياً نوعاً قاسياً من الأمل، الأمل الذي يجبر الإنسان نفسه على اعتناقه كأمر لا مناص منه حين يكون الموت دائماً أقرب بخطوتين من الحياة.

اقرأ أيضًا: الرواية الفلسطينية من النشأة إلى القضية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى