ثقافةمقالات

إطلالة نقدية على رواية(أعجاز حبٍ خاوية) لمحمود البسيوني 

إطلالة نقدية على رواية (أعجاز حبٍ خاوية) لمحمود البسيوني

بقلم: د. عبد الرحيم حمدان/ ناقد وأكاديمي 

أهدى إليَّ الأديب الشاب بمحمود البسيوني روايته الأولى التي تحمل عنوان: (أعجاز نخل خاوية)(١)، وراق لي ما جاء فيها، فكتبتُ هذه الورقة النقدية عنها، ومما جاء فيها:

تقع رواية (أعجازُ حبٍ خاويةٌ) للكاتب محمود البسيوني في مئتين وثمان وثلاثين صفحة (٢٣٨) من القطع المتوسط، وهي من منشورات مكتبة سمير منصور، في طبعتها الأولى لعام ٢٠٢٢م بغزة.

والجدير ذكره أن رواية (أعجازُ حبٍ خاويةٌ) هي الباكورة الأولى للكاتب محمود البسيوني، وبالرغم من أن الأمر يتعلق بأول نص سردي ينشره الكاتب، فإن الروائي استطاع منذ هذه الطلقة الأولى، أنْ يقَدِّمَ ميزة لكتابةٍ متفردة للمتلقي، الذي يرنو إلى اكتشاف ما انتهت إليه ومعاناة كاتبها مغامراته في تجارب الحب المتعددة التي خاضها.

التعريف بالأديب محمود البسيوني:

هو أديب شاعر وروائي، وصوت شبابي متميز، وموهبة أدبية متفتحة، وقنطرة وطنية وإبداعية ممتدة عمادًا واعتماداً، وهو أديب متنوع النتاج، غزير العطاء، عضو اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين بغزة صدر له غير ديوان شعر ورواية وحيدة، عالج فيها قضايا الإنسان العربي ومجتمعه وعالمه، ويمكن أن يَعدُّ المتلقي الأديب البسيوني واحداً من الروائيين الذين حاولوا التجديد في بنية الخطاب القصصي الفلسطيني.

الخطاب القصصي:

ونَعني بالخطاب القصصي في هذه الورقة النقدية الكيفيةَ التي تنبني عليها أحداثُ الرواية وشخصياتِها وزمانها ومكانها، والأصوات السردية، والكشف عن الوسائل والآليات التي وظفها الكاتب في بناء روايته مثل: بنية الزمن، وبنية الراوي، وبنية التناص، والاتجاهات الأدبية، ويشمل ذلك كذلك طرائق المضامين الفكرية التي تناولها الكاتب، فضلاً عن زاويا الرؤية.

المضامين الفكرية:

عالج الأديب محمود البسيوني في روايته العديد من الموضوعات والقضايا، متخذاً من الإنسان قضيته الأولى، مدافعاً عنه، واقفاً إلى جواره في عصر طغيان المادية ومفاهيمها، وغياب الصدق، داعياً إلى أن يكون الإنسان منبعَ الحياة الراقية، ومن خلال هذه الرؤية الإنسانية أفاض الأديب البسيوني في تحليل النفس البشرية واستنطاق أعماقها، وتحليل مركباتها وكوامنها، واستحوذتِ الذاتُ المؤنثة على قسط كبير من كتاباته.

يلحظ المتلقي الحصيف أن الثيمة الرئيسة والقيمة الجوهرية التي تدور حولها أفكار الرواية هي: أن الحب لا يكتب له النجاح والانتصار والفلاح، ولكنَّ الحبَ مع الوفاء والصبر يكتب له الانتصار.

مكونات الخطاب الروائي في الرواية.

أولا – العتبات النصية، العنوان:

إن أبرز ما يلفت الانتباه في هذا النص الجميل، عنوانُهُ ولكي يفهمَ المتلقي الرواية وأحداثها عليه أن يفهم العنوان؛ بوصفه المفتاح الذهبي الذي يدلف المتلقي بوساطته إلى ردهات الرواية وسراديبها .

جاء العنوان جملة أسمية (أعجاز حب خاوية)، وتتكون هذه الجملة من مبتدأ محذوف وخبر للمبتدأ المحذوف، ويمكن للمتلقي النموذجي أن يقدر المبتدأ المحذوف بعد قراءته الواعية للرواية بأسرها، والمتبدأ هو التجارب والعلاقات التي خاضتها الشخصيات في تجارب الحب، والتي لم يكتب لها النجاح. مثل تجربة الراوي مع (منى)، وتجربته مع طالبة الثانوية، وتجربته مع الفتاة ذات الخُصلة الحمراء، وتجربة ليلى مع زوجها . وربما كان المبتدأ هو التجربة التي ربطته بمحبوبته (منال(، فهو يعبر عن تلك العلاقة، قائلاً:

“أبَعْدَ كل هذا الانتظار، حوارٌ تقشعرُّ له الأبدان.. تُدَقُّ طبولُ الحب للقاء.. كأننا أعجازُ حبٍ خاويةٌ” (الرواية : ٢٣٠ ).

إنها العلاقة التي كادت أن تنقطع بسبب مرض المحبوبة (منال) بمرض السرطان القاتل.

يحمل العنوان صورة فنية موحية في قوله” أعجاز حب خاوية”، التي تستدعي صور الحب البائسة المخفقة، وهي تهدف إلى تشنيع صورة الحب في نفس المتلقي، والتنفير من مصير المحبين السيئ، فكأنه يقول إن تجاربه في الحب لا تعدو كونها أعجازاً خاوية”.

فمفردة أعجاز، وهي أصول الشيء وجذوع النخل، فتجارب الحب التي خاضتها الشخصيات كانت بائسة، كأنها جذوع لمشاعر الحب الذابلة الخاوية، ومفردة خاوية جاءت نعتاً مرفوعاً لكلمة (أعجاز) المرفوعة، وهي تحمل دلالات عديدة، فهي جذوع خاوية الأرجاء لا شيء فيها، وهي: خربة، بالية بائسة، ساقطة على الأرض، وقد انفصلت رؤوسها عنها.

يلحظ المتلقي الحصيف أن الثيمة الرئيسة والقيمة الجوهرية التي تدور حولها أفكار الرواية هي: أن الحب لا يكتب له دائماً النجاح والانتصار، ولكنَّ الحبَ مع الوفاء والصبر يمكن أن يكتب له الانتصار، وهذا ما أشار إليه عنوان الرواية( أعجاز حبٍ خاوية)، وهو تناص ديني مع آية قرآنية من سورة الحاقة التي يقول المولى – عز وجلَّ-: “كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ” (الحاقة بعض آية : ٧ ).

حاول الكاتب إجراء تغيير في نصه الروائي، إذ استبدل كلمة حب بكلمة نخل، وهذا التناص القرآني يمنحها القداسة والتبجيل والقوة.

الشعور بالإخفاق في الحب والعلاقات الإنسانية هو الشعور السائد في المجتمع بأسره، الإخفاق في كل شيء في هذه الحياة وكأن العنوان يعكس ما تدور عليه أحوال الناس المعيشة على جميع صُعد الحياة ومناحيها.

ويجد المتلقي كذلك عنوان الرواية ودلالاته متشظياً في ثنايا النص الروائي بأسره، متطابقاً مع مضامينه الفكرية التي يعالجها، وينفتح العنوان على حمولات دلالية متعددة، ويلخّص الثيمة الجوهرية للرواية.

ثانياً – مكونات الخطاب القصصي :

أ- المضامين الفكرية:

عالج الأديب محمود البسيوني في روايته العديد من الموضوعات والقضايا، متخذاً من الإنسان قضيته الأولى، مدافعاً عنه، واقفاً إلى جواره في عصر طغيان المادية ومفاهيمها، وغياب الصدق، داعياً إلى أن يكون الإنسان منبعَ الحياة الراقية، ومن خلال هذه الرؤية الإنسانية أفاض الأديب البسيوني في تحليل النفس البشرية واستنطاق أعماقها، وتحليل مركباتها وكوامنها، واستحوذتِ الذاتُ المؤنثة على قسط كبير من كتاباته.

ومن القضايا التي قاربها الكاتب؛ قضيةُ المرأة، وما نجم عنها من أمور حياتية مثل: قضية الحجاب، والتقاليد والعادات والمواضعات الاجتماعية التي تمس كينونة المرأة ، وموقف المجتمع من المرأة المطلقة، فضلاً عن قضية المقاومة والصمود، وموقف العمال في الأرض المحتلة، واستشهادهم لمجرد الاشتباه بهم، وقضية التعليم، وقضية الأسرة وتعاون أفرادها وتعاضدهم، وغيرها من القضايا التي تهم الإنسان الفلسطيني بعامة.

بيد أبرز تلك القضايا هي قضية الحب، انطلاقاً من فلسفة إنسانية مفادها: نحن نحب ، إذن نحن على قيد الحياة”؛ ذلك أن بعض الكُتّابَ الفلسطينيين يتحرّجون من مقاربة هذه القضية، ويشتغلون بدلاً من ذلك بمعالجة القضايا السياسية والوطنية، والقومية، فيكتبون عن المخيم ونثرياته، وعن السجن وظلام أقبيته، وعن الحصار الظالم، والانقسام المرير، والعدوانات المتكررة على البشر والحجر والشجر، وعن الموت والقتل والخراب والتدمير، وارتقاء أرواح الشهداء إلى العلا… حاول الكاتب في هذه الرواية أن يبرز قيمة الوفاء والصبر في الحب، وعدم التخلي عن المحبوب … فعلى الرغم من أن الحبيب يعود دائماً خائباً من حبٍ لا يستطيع التنفس فيه طويلاً، وأعلن أنه لا يوافق على فكرة التخلي عن الحب مهما كانت النتائج.

ويجسد الراوي الصراع النفسي الذي كان يحتدم داخله بسبب حبه للفتاة المقدسية المريضة بالسرطان، فيقول:

“….والآن هذا الحب الذي جاء بي وجاء بخبيثٍ يسكن بطنها يجتمعان معاً، ويأكل الحب من روحها والمرض من جسدها. كيف نصبح شريكين في قتلها ؟! أأتركها، فأصبح كالسرطان أُستأصل من جهة، وأعود من جهةٍ أخرى؟ كمن يخرج من ماضٍ ويدخل في ذاكرة مفعمة بالأوجاع القاتلة. أين قهوتي؟ أين أنا؟ سأهرب من هذا المهجع المشبع بالأسئلة(الرواية : ١٣٩).

إن أهم ما يلحظه المتلقي في هذه الرواية أن الكاتب له رؤية خاصة يؤمن بها، ويدافع عنها، فهو يعرف ماذا يريد، إذ غالباً ما يقرأ المتلقي أعمالاً أدبية لا يعرف صاحبها ماذا يريد أن يقول، أو ماذا يريد أن يوصله إلى المتلقين.

إن للأديب البسيوني رؤية خاصة، ووجهة نظر معينة، فله مثلاً رأي خاص بقضية الحجاب، وهو في سبيل ذلك لا يرى مانعاً في عرضه للرأي المخالف لرؤيته مثل رؤية محبوبته (منال) .

وله رؤية في العدو الصهيوني وقضية السلام مع هذا العدو. يقول على لسان صديقه سعيد: “هذا المحتل يا أخي يعرف إلا لغة القتل”(الرواية: 137) .

ويقول على لسان البطل محمود:

– “الاحتلال الإسرائيلي لم يترك أي مطار أو أي ميناء لنا نغادر منه أو نعود إليه، فمحطتنا للعالم هي أرض الكنانة مصر” ( الرواية: 171 )،

وله رؤية في حرية اختيار البنت لرفيق حياتها أخته (شذا)، وله رؤية خاصة في الصبر والوفاء للمحبوبة (منال) على الرغم من مرضها القاتل، ويرى عدم التخلي عنها، فلا يكون هو والسرطان متحالفين على المحبوبة.

يمتزج في هذه الموضوعات الهمُ الذاتي بالهم الوطني الجمعي، أي: بالبعد الموضوعي والهموم الإنسانية بعامة.

وهو في هذه الرؤية يحاول أن يبرز أبعادًا فلسفيًّة عميقًة، تصلح لتكون قانون حياة. تأمل قول سعيد:

” اخرج نفسك من دائرة الطاحونة، فلا شيء داخل الرحى تَخرج به إلا تآكلُ الأحلام في الدوران”(الرواية: 139).

ب – صيغ الخطاب القصصي:

ومن أنماط صيغ الخطاب القصصي التي وظفها الروائي للتعبير عن قيمه ورؤاه الفكرية والجمالية ، ونكتفي بالحدث عن أربعة أنماط:

١ – الراوي / السارد:

تنفتح حكاية الذات الساردة في رواية البسيوني على الراوي محمود السارد الذي يُحيل في الوقت ذاته إلى ذات المؤلف، وهو ما يُسمى بالتطابق؛ فالسارد والشخصية هما الصورتان اللتان تحيل إليهما داخل النص ذات التلفظ، وذات الملفوظ والمؤلف، ويمكننا أن نستدل على هذا التطابق، أي : إن محمود البسيوني هو الذي يَحكي عنه، وذلك فيما يُورده المؤلف السارد، سواء أكان في داخل النص الروائي أو خارجه، إذ يقول:

قرأت قصيدتها:

أنا امرأة فرعون

وما أنت بفرعون

ولكني تزوجتُ الجبروت في بطني

هذا الخبيث الذي يسكن جلدي

ألا أخشى عليك من دمي؟!!

من تلوث عينيك من تساقط شعري!!

….

ليتك تعلم أني الراحلة دونك،

المقتولة قبل نبوءة المسيح.

يا مهديَ المنتظر،

لن تحيا الروح المذبوحة في جسدي

أولى…

أولى أن أدفن تحت المطر

لا أن أغرق… بسمعك والألم”(الرواية ٢٢٨ – ٢٣٠).

ويشير الكاتب في الهامش إلى أن القصيدة من ديوانه المطبوع ” حديث المجدلية”.

فضلاً عن أن اسم بطل الرواية هو محمود، وفي هذا ما يؤشر إلى أن الراوي هو الكاتب نفسة، فالرواية أشبه ما تكون بسيرة ذاتية، على الرغم من أنه حاول جاهداً أنْ يوهم القارئ ويقنعه بأن ما كتب في هذه الرواية لا يعدو كونه محض خيال، ليس سيرة ذاتية البتة، وقد أفلح الكاتب في توظيف هذه التقنية بعض الشيء.

والذي يثير اهتمام المتلقي في الرواية وجود خيط حريري رفيع يربط علاقة حبٍ بين شاب من غزة وفتاة مقدسية تعاني من مرض السرطان القاتل، وعند تأويل هذه العلاقة تتداخل الأبعاد الوطنية والإنسانية، ويقع القارئ في مناطق معتمة من التأويلات. تقول “منال” في حوار طويل مع البطل محمود:

لماذا أنت صامت؟

– أخبرني من أي بلد أنت؟

– من فلسطين.

– يا سلام، وابن بلدي أيضاً !! من أين في فلسطين؟

– أنا من غزة يا مقدسيّة، فهذا ظاهر على صفحتك أنكِ – القدس، أليس اسمك «منال الموجود أسفل القصائد؟

– هو اسمي يا ابن غزة المكروبة، لم أكن أعرف أبدا أنك من فلسطين ومن غزة بالذات!

– غزة بالذات ؟! لماذا هذا التخصيص، وخاصة أن التخصيص كلّه تعيشين أنتِ فيه، أستطيع أن أشتم عطر الزيتون من حديثي معك.

– غزة يا صديقي معقل الأشياء المختلفة، تجدك وأنت تقرأها من بعيد كأنك المثقفُ الوحيد الذي قرأ كل الكتب وأضاف للقاموس معرفته معرفة الحياة من الولادة وحتى الممات. قد لا أحسدك على العيش في غزة؛ لما فيها من حصار وأوجاع ونكبات وحروب، ولكنها في القلب بكل ما حملت وما تحمل بما احتملت.

– شكراً صديقتي.

هذا القلب الذي تملكين يحمل الكثير من المعاني الجميلة التي ستطيع أن ترى الحب بعين واسعة ومهما لاقت غزة من جراح وحروب تبقى الروح والعين يدمعان دماً على القدس التي يُدنّس أرضها الغرباء المحتلون.

– هذا هو حالنا يا صديقي، تشرفتُ بك يا بن غزة الحبيبة( الرواية ٩ ، ١٠ ).

يتجلى في هذا المقطع الحواري البعد الوطني جلياً، فالقدس وغزة توأمان، لا ينفصلان، والحب هو الذي يجمع بينهما، ولعل السرطان سيتم استئصاله في يوم من الأيام من جسد المحبوبة منال، وتعود فتية سليمة، كما ستعود مدينة القدس بمقدساتها إلى حوزة المدن الفلسطينية محررة عفية.

٢ – عنصر الزمن:

تناولت الرواية في سرد أحداثها تقنيةَ الترتيب الزمني، بيد أن الأديب حاول التخلص من هذه التقنية باستخدام تقنية تكسير الترتيب الزمني، أي: بتكسير خطيِّة الزمن من خلال تقنية الاسترجاع التي يتوقف فيه السرد عن الحكي، ويبتدئ الاسترجاع بذكر حوادث سيرة الراوي الذاتية الطفولية.

وهو بذلك يجنح لاستخدام ملامح التجديد في سرده التي تظهر في بنية الخطاب السردي لديه، وتتجلى في تكسيره تتابعية الزمن بدلاً من تتابعه التقليدي، ومن الأمثلة على العودة إلى الماضي يقول الراوي:

“بدأتُ طفولتي بالبيع على بسطة في سوق، وانتهتُ ببيع البسطة وشراء طموح جديد في مجال التجارة ..

-كيف ذلك !؟

“بعد الثانوية العامة كنتُ أذهب كل صباحِ يومٍ باكرٍ إلى السوق، أفرش بسطة يملكها تاجر؛ لبيع الأدوات المنزلية الخفيفة…(الرواية: 189).

يلحظ المتلقي في رواية البسيوني أن الراوي كثيراً ما يصرح بانفتاح الاسترجاع باستخدام عبارات تعلن ابتداء عملية الاسترجاع، مثل كلمة “أتذكر” التي يستخدمها في الأنموذج التالي إذ يقول:

“تذكّرني شهدُ بالجامعة، والحبِ تحت سقف الحرم الجامعي، ومن فينا مهما قُيد وحُوصر بعقلية التخرج لا يقع في الحب”( الرواية : 144).

وفي موضع آخر يقول الراوي:

“أذكر هذه الفتاة حين كانت تذهب إلى المدرسة في الثانوية، وأذهب أنا إلى السوق للعمل، ذات البلد الذي كانوا يعيشون فيه”(الرواية :220).

وفي مكان ثالث يقول:

“ذكرتني (منال) وحديث عن أيام الدراسة، كيف دافعت عنها معلمة العلوم بالمرحلة الدراسية التي قضيتُها وأنا في الصف الخامس…”(الرواية:69).

٣ – اللغة:

ويشمل الحديث عنها : الحوار والسرد والوصف.

وقد أدى الحوار بشكليه الحوارات الخارجية والحوارات الداخلية وظائف عدة منها:

الوظيفة بنائية التي ساهمت في تشييد الرواية، ونقل أطوارها وتأزيم مواقفها، والوظيفة السردية تقوم على الاسترجاع والاستباق لتفاصيل تتعلق بأحداث الرواية وشخصياتها، وكذلك قدمت الحواراتُ الشخصيات، وكشفت عن طبائعها ومواقفها وانفعالاتها وعلاقاتها بغيرها من الشخصيات، بالإضافة إلى وظيفة الإيهام بمشاكلة الواقع، كما نهضت الحوارات الداخلية بأنواعها بدور استبطان كوامن الشخصيات، والكشف عن هواجسها وعواملها الداخلية.

لقد بدأ الروائي روايته بمقطع حواري يكشف فيه الثيمة الرئيسة لجوهر روايته، يقول:

“- مرحباً

– أهلاً وسهلاً

– كيف لكِ أن تدقين ناقوس الكلمات كأنها أجراس حرب تخدع الموت؟!

– (هيهه)، وأنتَ أيضاً يُثيرُ حرفك المداعب مهاجع الصمت، وتُثار المعارك على أرض القصائد المحاصرة بحبرك.

– أعتذر، لو كان اقتحامي للخاص قد أزعجك، ولكن فعلاً ليس مجاملة، أنتِ تملكين حرفاً قوياً يستحق أن نُجازف في الغوص في أعماق بيانه.

– أتشرف بمرورك، ولكن دعك من تواضعك، فأنتَ أيضاً تكتب بحروف تُشبه خطوط اليد انسجاماً، ولا تقل شأناً عن حروفي” ( الرواية: ٨ ).

بعد هذا الحوار الخارجي بين الراوي محمود وصديقته (منال)، يبدأ الراوي في حوار داخلي يكشف فيه من مكونات مشاعره وعواطفه تُجاه هذه الفتاة التي تدعى منال، والتي تعرَّف إليها عن طريق مواقع الإنترنت.

يقول محاوراً نفسه:

“…اسمها «منال»، عَرفتُ اسمها من توقيعها أسفل القصائد التي كانتْ تكتبها، لم أستطع البقاء بعيداً عن التعرف إليها بالرغم من إغلاق نافذة المحادثات الخاصة، وحرصي من عدم اقتحام ماسنجر الأصدقاء إلا للضرورة، لقناعتي أن هذا الأمر قد يُزعج البعض، أو يتسبّب في إثارة مشاكل ليست في الحسبان.

أسعدني أنها ردّتْ على ترحيبي، وخاصةً أنّي أعرفها كصديقة حرفٍ منذ فترة طويلة، وكنا نُحاور بعضنا البعض في تعليقات كانت تنتهي إلا خجلاً أو هرباً من أنظار العامة، أو خروجاً قصرياً من خدمة الانترنت”(الرواية : ٨ ، ٩ ).

ويقول في أحد حواراته الخارجية ذات البعد الوطني( )تبدأ منال الحوار بالسؤال:

– أخبرني من أي بلد أنت؟

– من فلسطين.

– يا سلام، وابن بلدي أيضاً !! من أين في فلسطين؟ غزة يا مقدسيّة، فهذا ظاهرُ على صفحتك أنكِ مـن القدس ، أليس اسمك “منال” الموجود أسفل القصائد؟

-هو اسمي يا ابن غزة المكروبة، لم أكن أعرف أبداً أنك من – غزة بالذات؟!

– غزة بالذات! لماذا هذا التخصيص، وخاصة أن التخصيص كلّه تعيشينً أنتِ فيه، أستطيع أن أشتم عطر الزيتون من حديثي معك.

– غزة يا صديقي معقل الأشياء المختلفة، تجدك وأنت تقرأها من بعيد كأنك المثقفُ الوحيد الذي قرأ كل الكتب وأضاف لقاموس معرفته معرفة الحياة من الولادة وحتى الممات.

قد لا أحسدك على العيش في غزة؛ لما فيها من حصار وأوجاع ونكبات وحروب، ولكنها في القلب بكل ما حملت وما تحمل بما احتملت.

“( الرواية :٩ ، ١٠ ).

وعلى الرغم من كونه حواراً مطولاً، فإنه لا يجلب الملل والرتابة للقارئ، ويكشف في الوقت ذاته سرَّ ارتباط هذا الشاب الغزي بصديقة له مقدسية. يقول معلقاً:

” هذا الحديث المكبّل بجغرافيا المكان، والمفعم بحروف صادقةٍ يُريح الخواطر الممتلئة كخزان الوقود المهيأ للانفجار، ولكنّه لا ينفجر”(الرواية :١١).

وظفت الرواية التضاد والمطابقة؛ لتعمق المعنى وتثريه مثل النص الروائي الآتي:

“الرضيع زرعٌ، والكبير حصادٌ، وقد أفسد العدو الحصاد والزرع ” (الرواية :35).

– لا عليك، قد أكون بعيداً عن الشظايا، لكني قريب من صوت الموت الذي أفزعني صباحاً أنا و “شهد” (الرواية :35).

ووظفت الرواية اللغة الشعرية، إذ استعملت الصور التشبيهية، والصور البيانية التي رسمها الراوي، ومن تلك الصور:

” المشاعر مخاضُ رحمٍ تحت جذع الظروف، والأشواقُ نزيفُ ترابٍ لا يَسقي جذوراٌ من سراب، الحكاياتُ الصادقة تأكل من رُطبِ الأمنيات، ولا تشبعُ حتى لوِ امتلأتْ بطونُ الذكريات.. يكتب الحبُ قراءتَه على أشخاص ومدن وظروف مختلفة، وعلاقاتٍ شائكة بالغياب والمسافات وفارق العمر والطبقية والعادات… شخصيات بأسماءَ وهمية وأحداث حقيقية كأعجازِ حبٍ تنمو على أرض السنوات.. فيأكلُ القدر أضغات أحلامها؛ لتصبحَ خاويةً ملقاةً في الفراغ”( ينظر: الغلاف الخلفي للرواية).

ولا غرابة في توظيف الروائي للغة التي تلامس شواطئ الشعر، والتي تعد ملمحاً بارزاً من ملامح تحولات الرواية والتجديد فيها؛ ذلك أن الروائي شاعر، أصدر ديوانين من الشعر: أحدهما: ديوان (حديث المجدلية) ٢٠١٩م، والآخر ديوان: (أضغاث عتاب( 2021 م.

٤- تقنية التقطيع الزمني (المونتاج):

وفيه يستغرق الراوي في سرد الأحداث، ثم يتوقف ويتحدث عن أحداث حاضرة، ثم يطلب منه أحد الأصدقاء تكملة تلك الأحداث التي جرت في الماضي تقول زميلته ليلى:

“اكمل، وماذا حدث بعد ما تركتَ البيع مع صاحب البسطة؟ ويعود الراوي ليكمل القصة فيقول: “يومان فعلاً، وتحقق الوعد وعدت إلى العمل في المحل التجاري الجديد”(الرواية: 192).

تثير هذه التقنية الفنية في المتلقي الإحساس القوي بالتشويق، والتطلع لاستكمال الأحداث، وفهمها.

هنيئًا للروائي محمود البسيوني، الذي ساهم في إغناء المكتبة العربيّة، في إبداع جديد، في حُلّة جديدة؛ وتعتبر هذه الرواية من أفضل الرّوايات التي قدّمت أخيراً . إن مجال تطوره الروائي لا يزال وسيبقى مفتوحاً. حبّذا لو تحظى هذه الرواية، بنصيب من الجوائز التي تُقدّم للأعمال الرّوائيّة لهذا العام.

الهوامش والحواشي:

[1]) أعجاز نخل خاوية، محمود أحمد البسيوني، مكتبة سمير منصور، ط أولى ، 2022

[1] ) الحوار الروائي في أعجاز حب خاوية للكاتب الفلسطيني محمود البسيوني، أمل أبو عاصي،

https://pulpit.alwatanvoice.com  2022/06/14

زر الذهاب إلى الأعلى