مقالات

التمرد في ديوان”مقام البياض” للشاعر جواد العقاد

التمرد في ديوان”مقام البياض” للشاعر جواد العقاد

عندما يأتي العمل الأدبي بلغة متألقة، وبفكرة ناضجة، وبشكل يُجمل كل أشكال الجمال بالتأكيد سينعكس أثره إيجابياً على المتلقي. “جواد العقاد” يخلق حالة من الفرح/اللذة/المتعة لديّ، وجعلني أنتشي بهذا المنجز الشعري، حيث نجد المرأة/الأنثى، القصيدة، الطبيعة، التمرد/الثورة، الثورة على الأصنام الحجرية، فهو يقترف المحرمات من تعاطي الخمر إلى التغزل بالنساء وصولاً إلى التمرد على الساسة، ويقدم لنا شعائر جديد للعبادة، بعيداً عما نمارسه، فيتماهي مع جمال الله في القصيدة، في الكتابة، في المرأة وجسدها، ويأخذنا إلى البعل وعشتار بطقوسهما الوثنية، لكن ليس كعبادة الأوثان بل كاحتجاج على موت القصيدة ونضوبها في زمن الموت والقتل، هذا (الخليط/الجمع) بين التوحيد/الصوفية وبين الوثنية جاء ثورة متمردة على الواقع، واقعه.. شاعراً، فلسطينياً، وإنساناً.

التمرد/ الثورة والأسطورة:

سنحاول التوقف عند الديوان ونبدأ من الثورة التي انتشرت فيه، يقول في قصيدة “مقام البياض، مقطع دخول الوحي”:

“هدوء، موسيقا، اضطراب
هديل، فراغ، أصوات غريبة
من الوحي؟
أين الشعر، والخمر، ما الأمر
لمن هذا البياض كله؟
قالت امرأة، قلبي يرتجف
يرتجف
يرتجف
راقصني لنعبر البياض، ونفنى
كعبد ورب
ذوب أنوثتي بما يعتريك من وجد
وقل: هذا الكون لنا.. هذا الكون أنت” ص13.

فاتحة القصيدة تضعنا أمام ظرف/حالة بعينها: “هدوء، موسيقا، اضطراب، هديل، فراغ، أصوات غريبة.” فعندما بدأ الوصف بأجواء جميلة إشارة إلى طبيعة الحياة التي يجب أن تكون، لكن بعد أن أدخل “اضطراب، فراغ، أصوات” تحول الجمال/ الهدوء إلى نقيضه، وهذه النقلة في الأجواء/ الأحوال هي التي جعلت الشاعر يتساءل عن منقذ، عن الوحي، الشعر، الخمر، فجاءه الجواب بصوتها، صوت المنقذة: راقصني، ونفنى” فالتمرد هنا جاء بأكثر من وجه: “صوت المرأة المجرد الذي يعد حراماً، وكلامها عن الرغبة بالرجل/ بالشاعر وهذا يعد تجاوز للعرف الاجتماعي، وحديثها الديني الذي يشير إلى (كفرها) وخروجها عن الدين.

إذن الشاعر جعل المرأة تقوم بالتمرد، وبما أنها تخضع لأكثر من سلطة قمعية، المجتمع الذكوري، السلطة الحاكمة، المفهوم الديني، فإن هذا يأخذنا إلى أهمية ثورتها وتفردها، فهي تجاوزت كل المحظورات والممنوعات وتبوح بما تريد دون خوف من عقاب أو قصاص، وهذه دعوة للمجتمع/ للرجال ليقوموا بمثل دورها.

وقبل أن نغادر القصيدة طنشير إلى وجود بعداً تراثياً متعلقاً “بعشتار وتموز/البعل” من خلال الرقص والخمر، ومن خلال كعبد ورب، ومن خلال النظرة للكون/للطبيعة: هذا الكون لنا.

فالقصيدة لها بعد تراثي/ أسطوري كما هو في قصيدة “قربان الليل” التي يقول فيها:
“إله يطل من بسمتك على آلامي
فأقول: يا قرابين العشق اقتربي أحادثك
عن موتي في ألوهة خصرها،
عن مجمع الآلهة في جسدها الممتد كصحراء هلال
لا نجاة غير نهدين
تسيل منهما خمرة الحياة
مشبعين بالحنين” ص21.

أيضاً يستخدم الشاعر فكرة الخصب والجذب الأسطورية/ التراثية التي نجدهما في: “يطل، بسمتك، قرابين، موتي، الآلهة، جسدها، نهدين، تسيل، خمرة، الحياة، مشبعتين.” فما جاءت به القصيدة هو الأقرب إلى البعد الأسطوري عند البعل/ عشتار، فالشاعر يركز على طقوس الزواج المقدس الذي يأتي احتفاء بعودة البعل للحياة، فالتركيز على المرأة/ عشتار وما فيها من جمال جسدي: “خصرها، جسدها، نهدين” كان الممهد للجمال الروحي/العاطفي “بالحنين” الذي يحتاجه الشاعر، فرغم أنه افتتح القصيدة بجانب جمالي/عاطفي “إله يطل من بسمتك” إلا أنه كان يحمل في (الظل/الخفاء) الحاجة الجسدية لها، وهذا الأمر يعد تمرداً من الشاعر الذي يعيش في مجتمع يقمع مثل هذه التوجهات نحو المرأة والجنس.
لكن تمرد الشاعر لا يقتصر على هذا الأمر فقط، بل نجده يتمرد على ما هو ديني من خلال (العودة) إلى معتقدات وثنية التي نجدها في: “إله، قرابين، ألوهة، الآلهة”، وبهذا يكون الشاعر قد تناول التمرد الاجتماعي، المرأة، والتمرد الديني، عشتار/البعل، ف”عشتار” التي نجدها حاضرة في الشاعر منذ ديوانه الأول “على ذمة عشتار” ما زال متعلقاً بها، وما زالت حاضرة وفاعله ومثرة فيه، هذا التوجه جاء في قصيدة “مصرع الوحي” بصورة أوضح:
“لم يعد لي وحي
عشتار ماتت
وقصائدي أقفرت..
دمي يا دمي
يتخثر في تراب القصيد
أسقي اللغة ماء قلبي
فتنبت شقائق النعمان كلاما للآلهة.” ص56.

إذا ما توقفنا أمام هذا المقطع سنجد أنفسنا أمام البعل/تموز وكيف أنه يعني من غيابه في العالم السفلي، عالم الموت حيث يحتجز هناك، فالقحط/ اليباب نجده في: “لم يعد، ماتت، أقفرت، يتخثر” وهو بحاجة إلى “عشتار” للتوسل إلى أيل ليعيده ويعيد الحياة إلى الأرض، إلى الطبيعة وما فيها، من هنا جاء طلبه: “أسقي، ماء” ليكون “فتنبت”.
لكن الشاعر لا يُقدم الأسطورة بطريقة عادية/ مألوفة، فنجد يركز على الخصب الجمالي الكامن في الكتابة/ القصيدة، متجاهلاً الخصب المادي المتعلق بالطبيعة ومن عليها من بشر وحيوان، من هنا جاء “قصائدي/القصيد، اللغة، كلاما” وهذا يأخذنا إلى مكانة الأداة/ الكتابة/ القصيدة التي تميز الشاعر عن غيره، فهي من جعلته يقدم هذا البعد الأسطوري/ التراثي بلغة معاصرة/ حديثة جامعا بين عناصر التخفيف/ الفرح التي تتمثل في الطبيعة، المرأة الكتابة، التمرد، بمقطع يقل عن الثلاثين كلمة، وهنا يكمن إبداع الشاعر وتألقه.

المرأة:
المرأة أحد أهم عناصر الفرح/ التخفيف التي يلجأ إليها الشاعر وقت الشدة والضيق، “جواد العقاد” يتناولها في أكثر من موضع في الديوان، منها ما جاء في قصيدة “نهد”:
نهدك في يدي يخلق طقوساً للشعر
ثقيل كالخطيئة
خفيف كميل خصرك
كلما قيل: لا تأكل
يخف
تشتد خمرته
وينضج لأجله النضوج
أنا الأقوام البدائية كلها
خرجت من صراء نفسي
المليئة بعباد النار
والسراب
لا أملك غير إماني وخرافات آبائي الأولين
وجئت إلى الجنة من أشهى أبوابها:
نهد
من تحته سرة
ترشح أنوثة كالعسل المصفى في أنهارك”ص24و25.

سنحاول الوصول إلى تطلعات الشاعر من خلال التوقف عند الألفاظ المذكرة والمؤنة، ونبدأ بالمذكر المتعلق بالمرأة: “نهداك/نهد، طقوسا، للشعر، خصرك، السراب، النضوج، أبوابها، العسل المصفى أنهارك.” نلاحظ أن الشاعر يبدأ بالمذكر ثم يتحول إلى المؤنث: “كالخطيئة، خمرته، البدائية، صحراء، النار، خرافات، الجنة، سرة” وكأنه يقول أن هذا الجمع/ التشابك/ التداخل بين الأبيض والأسود، ببين القسوة والفرح هو أمر طبيعي/عادي في الحياة وعلينا إظهاره بصورته البشرية/ الإنسانية للعلن بعيدا عن الممنوع والمحظور، وعندما كرر “نهدك/نهد، ينضج/النضوج، أكد أن المرأة أهم عامل ثورة/تمرد في المجتمع، لهذا امتدت ثورة الشاعر ليس على تناوله للمحرم/الجنس فحسب، بل تعداه إلى أنسة الشعر/ للشعر الذي ظهر كائناً حياً في المقطع الأول من القصيدة.
من هنا نلاحظ وجود عنصرين من عناصر الفرح/التخفيف “المرأة/نهد والكتابة/الشعر أنعكس على الألفاظ البيضاء التي جاءت في المقطع الأول، نهدك، يخلق، طقوسا، للشعر، خفيف/يخف، خصرك، خمرته، وينضج/ النضوج” بينما نجد البياض أقل حينما تحدث الشاعر عن نفسه أنا فجاء السواد بأكثر من لفظ: البدائية، خرجت، صحراء، النار، السراب، خرافات” وما أن يتناول “النهد” حتى يقيض البياض جديد أمام الشاعر ويقدمه بصورة لافتة: “نهد
من تحته سرة
ترشح أنوثة كالعسل المصفى في أنهارك.”
فجمال الصورة الشعرية وبياضها المطلق أكد أن المرأة هي المُوجدة للفرح، وإنها قادرة على إخراج الشاعر من حالة الشدة/ القسوة/ السواد إلى عالم ينعم بالجمال المادي والجمال الروحي، وما جاء في خاتمة القصيدة إلا تعبير/ تأكيد لقوة حضورها وأثرها البهي.

وفي قصيدة “صوتك” نجد الشاعر يحل في المرأة بحيث نجد تداخل ما بين المعنى والألفاظ والحروف:
“كلك موسيقا
خصرك يتأله ثم يصير صراطا مفصلا لقلبي
قلبك مبلل بالأغنيات
ودموعك نشاز أغنية تاهت عن طريقي
أنا طريقك
وطريقتك في الغناء الأبدي للحياة” ص23.
عندما يتم استخدام ألفاظ مكررة: “لقلبي/قلبك، طريقي/طريقك/وطريقتك، بالأغنيات/أغنية/الغناء” فهذا يخدم فكرة الحلول/التماهي بين الشاعر وموضوع القصيدة، فأثر المرأة لم يقتصر على تكرار الألفاظ بل تعداه إلى الحروف التي تكون اللفظ: “خصرك، يصير، صراطاً” فبدا حرف الصاد المكون ل”خصرك” فاعلاً ومؤثراً في الألفاظ اللاحقة، وهذا التتابع يشير إلى أن الشاعر منصهر/متوحد مع القصيدة بحيث أصبح أسيراً لها، من هنا جاءت الألفاظ مترابطة المعنى ومتواصلة: “صراطاً/ طريقك، مضلاً/تاهت، موسيقا/أغنية” بهذا الشكل يكون الشاعر قد قدم قصيدة حب صوفية، مؤكداً حالة الحلول/التماهي بينه وبين ما يكتبه من شعر.

* الديوان من منشورات عشتار للنشر والتوزيع، الشارقة، دولة الإمارات العربية المتحدة، الطبعة الأولى 2022.

زر الذهاب إلى الأعلى