ثقافة

الخاص للدردشة و العام للضرورة: عامر الطيّب

الخاص للدردشة و العام للضرورة

عامر الطيب/ شاعر عراقي

هي لحظة مفعمة بالحيوية و القلق، فتح العالم عينه على عالم آخر، عرف الرفاق رفاقاً آخرين دون أن يبرحوا أماكنهم، إنه عالم بموازاة عالم ،ثورة تهددُ الوجود البشري كشبح الشيوعية حسب تعبير ماركس بل هو أشد.
الفيسبوك الذي أطلقه مارك زوكربيرج سنة ٢٠٠٤ و كان في بدايته مخصصاً لطلبة جامعة هارفارد ثم صار لطلاب الثانوية ممن يتجاوز عمره الثالثة عشر إلى أن صار كما هو الآن جمهورية واسعة ومجانية، تشير كلمة فيسبوك إلى دفتر يحمل صوراً و معلومات عن شخص ما.
يحتوي هذا العالم على آليات عامة يتّبعها مع كل الأشخاص فهو يقترح عليك أشخاصاً إذا كنت مشتركاً جديداً و يقترح عليك صفحات عامة أيضاً متوقعاً اهتماماتك.
يتيح لك التعليق على صور و أفكار رفاقك ويتيح لك الإشارة لأحد رفاقك على موضوع ما للضحك أو الاستفسار.
إن الافتراض ليس فكرة أو عدم وجود إنما وجود خصب و ناعم، أشبه بالظل غير ملموس لكمه مؤثر.
هو عالم رحب وضيق في الآن لا يسبب لنا الانفصال عن الواقع بل الاختفاء كما يقترح جون بودريار .
في كتابه ” الافتراض وعلاقته بالواقع ” يرى بيير ليفي أن الافتراض عكس ماهو فعلي ومجسد وليس عكس ماهو حقيقي و يسوق مثلاً طريفاً بأن الشجرة وجودها مفترض داخل البذرة، إنه وجود دون تجسيد إذن، وجود يُفتقد و يُكره، يشمئز منه و يغرم به أيضاً، إشارة خضراء صغيرة تشير إلى إننا بخير أو لسنا كذلك، وردة أو بالون أو قلب في المسنجر يدل على انسجامنا، أو يد مقطوعة تدل على اللامبالاة أو التوتر أحياناً.
على أننا متى ما صرنا فيسبوكيين عشاقاً أو رفاقاً أو شعراء فقد صرنا دون مكان ضيق، دون وطن، صارت لنا حدود أخرى، لغات أخرى و مزاجات أخرى أيضاً ويعني ذلك إننا لم نعد مستقلين عن أوطاننا إننا ممتدون إلى أوطان أبعد.
ثمة أسطورة بأن العالم كان أجمل قبل الفيسبوك، الحب كان أكثر طهارة و بطء تلك الأسطورة يتزعمها أشخاص نوستالجيون،
وخائفون من التشوهات التي يسببها الحدث المفاجئ وهو يتحول كطبيعة يومية وقد جوبهت الصحف بالأمر ذاته إذ تبرم بودلير من عالم مليء بالصحف وكذلك واجه التلفزيون مقاومة شديدة بل سماه الروائي الأرجنتيني أرنستو ساباتو في كتابه “الممانعة” ب(أفيون الشعوب) و رأى أن خطورته تكمن في إجبارك على الجلوس قبالته حتى عندما لا يقدم لك شيئاً- صحيح لقد شاهدنا الكثير من خطابات صدام حسين المملة إثر انتظارنا لمسلسل ما-
ما نغفل عنه أن الزمن موجود لذاته لا لخدمة وجودنا وما ينبغي فهمه أن عالماً دون فيسبوك لا يطاق ، قصة حب دون دردشة فيسبوكية لن تنجح تقريباً أو بعبارة أدق نادراً ما تبدأ قصة حقيقية خارج الفيسبوك سوى في أقاصي الأرياف التي لم تخدم بعد، الكثير منا لا يلاحظ أن الفيسبوك غير حياتنا و إلى الأبد.

الدردشة ممنوعة

يشير الفعل دردش إلى حديث هامس أشبه بالجلبة غير المفهومة فإذا دردش القوم فقد تهامسوا فيما بينهم قطعاً للصمت و تؤخذ دردشة أحياناً بمعنى ثرثرة.
وقد اختارت المترجمة السورية الرائعة أمل فارس عنوان (دردشة معلنة) لكتاب من إعدادها يضم حوارات مترجمة مع أدباء أمريكيين فهو بما يشبه الحديث الداخلي و الحوارات التي ينطوي عليها الكتاب كانت تتضمن أسئلة عن الموت و الشهرة و الجنس و الدين .
المسنجر كنافذة للتواصل حققت نجاحاً كبيراً لشركة فيسبوك فقد جعلت معدل استخدام الفيسبوك بالنسبة للشخص العادي أكثر على أن هذا الوقت الذي يقطع داخل المسنجر ليس وقتاً مدمراً فحسب إذ أشارت دراسات أجراها خبراء إلى أن استخدام هذه الخاصية تعمل أحياناً في الحفاظ على العلاقات البشرية و تطويرها و كذلك في استعادة علاقات قديمة أيضاً بل أن التواصل عبر المسنجر خفف من وطاة وثرثرة التواصل الملموس.
وكما وهبنا الإله الأدلة الكافية على عدم وجوده بتعبير بورخيس وهبنا الوجود الأدلة الكافية لتطوره و تلاشيه، لخفته وتشظيه أيضاً.

فيسبوك عربي

في البداية حاول المعربون تحديد اسم عربي للفيسبوك فسموه” الكوكب الأزرق، العالم الأزرق، النافذة الزرقاء ” إشارة للون واجهته ثم رأوا أن يسمى بالواجوه استناداً إلى طبيعة تفاعله غير أن ثمة محاولات ترجمة حرفية مثل وجه الكتاب أو كتاب الوجوه و عند المغاربة كناش الوجوه لكن الفيسبوك فرض تسميته نفسها بنفسه التي صارت تختصر باسم الفيس فقط.

شعراء فيسبوكيون

وجد الشعراء لا سيما الشباب منهم الفيسبوك مكاناً ملبياً لطموحاتهم إذ مكنهم من التواصل مع القراء والشعراء من كل بقاع العالم كذلك فقد خلصهم من عجرفة رؤساء تحرير الصحف ومشقة النشر في الصحف الحكومية حيث العلاقات الشائكة التي تحتم أن يكون الشاعر دبلوماسياً ليعرف طريقاً لنشر قصيدة له.
وكما انتقل تلقي الشعر من مرحلة الشفوية إلى مرحلة الكتابة فهو ينتقل إلى الآن إلى مرحلته الإلكترونية وهي مرحلة لا يختلف الشعر بها في موسيقاه أو في إيقاعه أو في بنائه اللغوي والمعرفي إنما يختلف بتلقيه، سهولة تعديله أو إزالته أيضاً، كذلك ساهمت هذه المرحلة بالتقليل من الهالة المقدسة للنص أو لمؤلفه.
يتنوع التلقي في الفيسبوك بتنوع الإشارات التي يخصصها هذا العالم اللايك إشارة إلى رضا عابر عن النص و عادة ما يضع بعض الشعراء الكبار بالسنِ لايكاً على نصوص شعراء أصغر منهم كدلالة على إنهم أشخاص وقورون كالآلهة أو أن النصوص لا بأس بها،
أما القلب فهو إشارة إلى أن القارئ أحب النص ثم الوجه الدامع إذا كان النص عن الحب المرير أو عن شؤون البلد ثم الوجه الضاحك إذا كان النص ساخراً و الوجه المندهش إشارة لنص صادم و مدهش
ولعل هذا الوجه هو أقصى ما يحاول الشاعر الوصول له إنها كلمة( واو )مريحة بالأخص إن كانت من فتاة جميلة أو مجهولة يحتمل أن قصة حب تلوح في الأفق، والله هكذا يفكر الشاعر أحياناً.
أما الوجه العابس فنادراً ما يوضع تحت نص فهو إشارة للقضايا التي تسبب إزعاجاً.

الشاعر محروم من التصفيق

اكتسب التصفيقُ دلالة سيئة كالتطبيل بعد أن استحوذ الساسة على هذه الفعالية وراح الجماهير يصفقون لهم خوفاً أو تزلفاً وراء كل شاردة أو واردة إذ صفق الحاضرون ذات مرة لصدام حسين في اجتماع حزبي بعد أن أخبرهم أن الحزب لا شيء دون وجوده وهي عبارة تستوجب التساؤل و الاستغراب لا التصفيق لكن من يستطيع أن يقول للملك على رأسك ريشة؟!
في بداية التلقي الشعري المباشر كان التصفيق نوعاً من الممارسة النقدية يعبر بها الجمهور أثناء ما يلقي الشاعر قصيدته عن إعجابه أو استهجانه وقد يصفق أحد الجمهور لبيت يعجبه فيصفق الآخرون كجزء من التضامن أو الثقة أو عدم إحراج المسكين.
وكان ثمة تفاعل آخر يسمى التبكيت وهو للاستهجان كأن يقوم أحد الحضور و يقول للشاعر صه أو ثكلتك أمك كما حدث مع الشاعر أبي تمام ذات مرة وهو يصف أميراً حتى قال:
إقدام عمرو في سماحة حاتم
في حلم أحنف في ذكاء إياس
فقاطعه أحدهم قائلاً (الأمير فوق ما وصفتَ) مما جعل شاعرنا يضيف بيتين جديدين دفاعاً عن صورته الشعرية.
التفت العقاد بمرارة إلى هذه المحرومية قائلاً( الشاعر في القرن العشرين يخاطب القراء من وراء المطبعة فقد يقضي حياته دون أن يرى قراءه أو يروه )
أما شاعر القرن الواحد و العشرين فقد خفف عليه الفيسبوك تلك العزلة إذ تمكن من رؤية متابعيه، وصل إليهم بسهولة وكذلك كسر الحاجز بينه و بينهم كاشفاً لهم حتى لحظته الشعرية التي يكتب بها النص بل صارت ثمة مهرجانات من خلال البث المباشر يطل علينا بها الشاعر/ ة من بيته أو من مكان عمله بملابس أنيقة أو بملابس عادية.

اسم وظل

ربما يضع الشاعر اسمه تحن نصه إشارة إلى توقيع شخصي أو حيازة ملكية فقد كثرت السرقات وتشوش الذهن بالتوهم أيضاً وقد يضع بعض الشعراء علامة شباك (قدام)اسمه ليظلله فيصير أوضح، إن الظل هنا أشبه بالبرواز الذهبي اللامع و هي تبدو كفعالية استعادة لاسم الشاعر الذي آثرت الصحف أن تدفنه تاركةً الصفحات الأولى ملمعة بأسماء القادة أو المشاهير من الفنانين.

قارئ مستعجل

يدعو بعض المهتمين إلى نشر نصوص قصيرة لا مطولة لأن الفيسبوك مكان للفرجة وكذلك لأن القارئ هنا قارئ مستعجل يقرأ بسرعة دون احتمال و تلك أحجية ليست منطقية فالقارئ في الفيسبوك هو القارئ ذاته قد يكون ملولاً أو صبوراً، أدعوكم أحبتي الشعراء و الشاعرات لنشر قصائدكم المطولة أيضاً، إنني أقرأ الشعر أينما كان بصبر و إحساس و شغف.

هل للفيسبوك دين؟

يتدخل بعض رجال الدين سلبياً في كل تمظهر حضاري صادم، حرموا الدراجة و الراديو و السيارة و رأوا أن إبليس يسكن في المصباح. منعوا قراءة الصحف بل حرموا القهوة معتقدين إنها خمر في بداية انتشارها.
يؤلف داعية مصري يدعى علي محمد شوقي سنة ٢٠١٧ كتاباً تحت عنوان( الفيسبوك آدابه و أحكامه) يدعو فيه أن يكون الفيسبوك وسيلة لنشر الإسلام محذراً في الوقت نفسه من أن يتسبب بإضاعة الوقت و اللهو عن عبادة الله مهدداً بوادي جهنم الذي لو سيرت فيه الجبال لماعت حسب الحديث الذي يورده.
ثم يعرج على مسألة يجدها هامة هو ألا تكون الصفحات بأسماء وهمية قبيحة مثل وردة الياسمين أو حافية القدمين أو الدلوعة
والحلوة وهي أسماء شهوانية حسب رأيه فهو يقترح أن تكون الأسماء المستعارة بما يرضي الشرع مثل برة، و تقية، أو أم عبد الله أو أبو سفيان المصري مثلاً.
و تحت عنوان حكم اختراق الصفحات “الهاكرز” يرى إنه عمل فيه مفسدة أما إذا كانت الصفحة معادية للدين أو إباحية فقد جاز تهكيرها.
وعن العمر يحرم الداعية أن يكتب المرء على الفيسبوك عمراً ليس حقيقياً لأن ذلك يقع في باب الكذب إلا إذا كان لضرورة شرعية “لا أعرف ما هي”! ثم يحرم أن يكتب رجل أو امرأة( علاقة مفتوحة) معتبراً أن ذلك انتهاكاً بل يدل على انعدام الشرف فالمرأة العلوق هي التي تحب زوجها فقط.
والأشد بشاعة و طرافة إنه يحرم طلب الصداقة بين الرجل والمرأة إذ يجده منافياً لمعنى العفاف و الوقار كون الصداقة ستجر إلى حديث للتعارف.
أما المراسلة فيجب أن تبدأ بالسلام عليكم و رحمة الله وبركاته لا بصباح الفل وصباح السكر و صباح الياسين.
ومن أجل ذلك أقول لكم أخيراً و دائماً:
صباح السُكر-بالسكون أو بالتشديد”!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى