ملفات اليمامة

الدكتور عبد الرحيم حمدان يكتب في “ملفات اليمامة” المشاهد الحوارية في سورة (النجم) المباركة

المشاهد الحوارية في سورة (النجم) المباركة

بقلم: د. عبد الرحيم حمدان

مدخل:

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، ولم يجعل له عوجا، والصلاة والسلام على الرسول خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد،

فلا شك في أنّ للخطاب القرآني أسراراً وجماليات ولمسات فنية تشي بأنّ هذا القرآن الكريم كلام فني مقصود وضع وضعاً دقيقاً ونُسج نسجاً محكماً فريداً، وأن القرآن الكريم معجزٌ بألفاظه وكلماته، ويتسم بصفاء الكلمات، وروعة نظمها ونسقها؛ حتى لا يمكن لأية لفظة أن تسد مسد الأخرى، ولو كانت أحسن معنى وأداء، وأروع بياناً وطلاوة من حيث الترادف ووحدة المعنى؛ فهو كتاب في غاية الإعجاز.

ومن العوامل التي جعلت من القرآن الكريم كتاباً معجزاً؛ استخدامُه وجوهاً من التقنيات الفنية، والأساليب البلاغية التي تنقل الكلام الرباني من وسيلة إخبار عادية عديمة الأثر والتأثير إلى قيمة فنية ذات أثر لغوي ونفسي، فكل تقنية أسلوبية لها قيمة فنية ودلالية، فيما تحدثه من أثر في ذهن المستقبِل لهذا الخطاب الرباني، وتراعي تفاوت الحالات الإنسانيّة، وتناسب مستويات المتلقين.

إن أهم ما يميز القرآن الكريم عن كل كلام بليغ أنه وَفَّى بحق المعنى بأقل الألفاظ في أجمل تعبير، وتأتي التقنيات الفنية التي هي جزء من هذا التعبير؛ لتبرهن على حسن الصياغة، وإحكامها في اتساق المبنى، وبلاغة المعنى، وتنهض هذه الدراسة على ثلاثة أبعاد هي:

البعد الأول : التعريف بسورة النجم .

سورة النجم واحدةٌ من سور القرآن الكريم المكية التي نزلت في مكة المكرمة، وعدد آياتها اثنتان وستون آية، وهي السورة الثالثة والخمسين في ترتيب سور القرآن الكريم، وقد نزلت بعد سورة الإخلاص، وهي في الجزء السابع والعشرين بين أجزاء القرآن الكريم. رُوي عن ابن مسعود أنه قال: هي أول سورة جهر النبي – عليه الصلاة والسلام – بقراءتها في الحرم، ولشدة وقعها على المشركين، وإقامة الحجة عليهم سجد المشركون في نهايتها، وهي أول سورة أنزلت فيها سجدة؛ لما أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنه- قال: أول سورة أنزلت فيها سجدة والنجم، قال سجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وسجد مَنْ خلفه إلا رجلاً زائلة أخذ كفّاً من تراب، فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قُتل كافراً، وهو أمية بن خلف بمكة” (انظر: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن١٧ / ٨١ ).

تسميتها:

سميت السورة المباركة بهذا الاسم “النجم” لورود كلمة النجم فيها، وابتداؤها بالقسم بالنجم، شأنها في ذلك شأن الكثير من سور القرآن الكريم التي أخذت تسميتها بما ورد فيها من أسماء على حسب ما قرره أهل العلم. قال تعالى : وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى  (سورة النجم:١ – ٤).

موضوعاتها:

موضوع هذه السورة هو التأكيد على صدق نبوة محمد- عليه الصلاة السلام- ، وأنه تلقى الوحي الإلهي من ربه بواسطة الملك جبريل -عليه السلام- كما تُبين السورة تفاهة عقول الذين يعبدون الأصنام من العرب في الجاهلية، وقد جاءت رداً على المتشككين المستريبين بدعوة النبي محمد- عليه الصلاة السلام-، والذين يدفعون دعوته بادعاءات باطلة تؤكد قصور مبلغهم من العلم، ويركز المحور الأساس للسورة على إقامة الدلائل العقلية على إبطال معتقدات المشركين التي تشرك مع الله غيره، فهي كسائر السور المكية المعنية بأصول العقيدة، وإثبات الرسالة، وصدق الرسول – عليه الصلاة السلام- في تلقي القرآن بالوحي عن الله والتوحيد، والكلام على الأصنام، وبيان عدم جدواها، والتحدث عن قدرة الله -عز وجل- وعن البعث والنشور .

مقاصد السورة:

يتمحور مقصد سورة النجم حول ذم الهوى لإنتاجه الضلال والعمى، والحث على اتباع النبي، واثبات أن ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- وحيٌّ من عند الله، (ينظر: البقاعي، نظم الدرر 13 / 40 – 49).

البعد الثاني : تقنية المشاهد الحوارية في سورة النجم:

تشتمل سورة (النجم) على جملة من التقنيات الفنية لجمال تعبيراتها، وصفاء أسلوبها، وحسن بلاغتها، وشدة تأثيرها في المتلقين.

ومن التقنيات الفنية الواضحة في ثنايا هذه السورة الكريمة؛ وتقنيةُ الاستفهام، وتقنية النفي، وتقنية الالتفات، والحصر والقصر، والاستفهام، وتقنية المشاهد الحوارية، وتقنية الحذف وغيرها من التقنيات الفنية، ولكنَّ البحث سيكتفي بدراسة تقنية المشاهد الحوارية؛ لأنها من أكثر التقنيات الفنية شيوعاً في السورة المكية المباركة، ومن أحسنها جمالاً وتعبيراً.

وتهدف هذه الدراسة إلى استجلاء تقنية المشاهد الحوارية الفنية؛ بوصفها الأكثر شيوعاً في سورة النجم، حتى إنه يمكن القول بأن سورة النجم بُنيتْ أساساً على المشاهد الحوارية، وقد حوت سورة النجم على أساليب متعددة في إيراد هذا المعنى وتصويره.

 

لعل من أبسط تعريفات الحوار هو: مناقشةٌ بين طرفين، أو أطراف؛ بقصد تصحيح الكلام، وإظهار حجة، وإثبات حق، ودفع شبهة، ورد الفاسد من القول والرأي(ينظر: صالح بن عبد الله بن حميد، معالم في منهج الدعوة، دار الأندلس الخضراء، جدة، ١٩٩٠م، ص :٢١٢).

فالحوار سبيل الإقناع والتواصل والتفاهم، ووسيلة التعارف والتآلف، ومنهج الدعوة والإصلاح، ومسلك التربية والتعليم، ومجمـع التقـارب والالتقاء، وسنَن الأنبياء -عليهم السلام-، مع أقوامهم لإقامة الحجج، ودفع الشُّبه .

وسورة النجم الكريمة منهج للمحاورِين، تدور حول إقامة الحجة على الكفار بنقض عقائدهم الباطلة، وإثبات العقيدة الصحيحة بالأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة، والحجج المتنوعة.

ويستشف المتلقي الحصيف أن جوّ سورة النجم المباركة جوّ بياني يستمد ظلاله من الحوار الهادف، والجدل الهادئ، وإثارة الفكر والوجدان للوصول إلى حقيقة الإيمان بالله وحده، فالحوار وسيلة تقنية تسهم في تطوير الحدث والسير بالخط الدرامي إلى الأمام.

يعد الحوار واحداً من أبرز التقنيات الفنية الشائعة في النصوص القرآنية؛ لما فيها من خصائص جعلت منها مجالاً رحباً لملاءَمة جميع الأغراض.

ولقد عُنى القرآن الكريم عناية بالغة بالحوار، فالحوار هو الطريق الأمثل للإقناع، فمن خلال ما حكاه من صور للحوار بين المولى وعباده وبين الأنبياء وأممهم، وبين الأقوام وبعضهم بعضاً.

البعد الثالث: مشـاهد حواريـة في سورة النجم:

اشتملت سورة النجم الكريمة على مشاهد حوارية عديدة متنوعة منها الحوار الذي جرى بين الله -تعالى- وبين مشركي قريش، فالسورة حوار مفتوح مع المشركين؛ لإقامة الحجج عليهم، وتفنيد الشُّبه التـي يثيرونهـا، والإجابة عن مقترحاتهم وأسئلتهم المتعنتة.

وفي السورة مشـاهد ومواقـف حواريـة مـع المشركين، سيقت لتبكيتهم والسخرية من تفاهة عقولهم؛ ولترهيبهم وتحذيرهم من عاقبة بقائهم علـى الشرك، ودعوتهم إلى الإقرار بالحق والتسليم له قبل فوات الأوان.

احتوت السورة على عدد من المشاهد الحوارية، ويتكون هذا البعد من أربعة مشاهد حوارية هي على النحو الآتي:

المشهد الحواري الأول: صدق نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم- ورسالته.

يتجلى هذا المشهد في قوله تعالى من سورة الطور: فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ* أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ* قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ* أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ* أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ* فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (الطور:٢٩ –34).

يتمثل هذا المشهد في قول المولى – تعالى- في محاورتهم في سورة النجم بقوله تعالى : وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى* مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى* وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى (سورة النجم: ١ – ٤ ). يكتشف المتلقي أن الحوار في هذا فالمشهد الحواري يجري بين فريقين:

الفريق الأول: وهم كفار قريش ومشركوهم، الذين اتهموا النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- باتهامات باطلة، وروَّجوا حول نبوته ورسالته مزاعم زائفة، فقد اتهموه بالجنون والكهانة وقول الشعر، وبالكذب على الله، دون أن يذكروا اسمه.(ينظر: عبد المتعال الصعيدي، النظم الفني للقرآن: مكتبة الآداب، القاهرة، دون تاريخ، ص٢٩٨).

أما الفريق الثاني، فيتمثل في المولى – عز جل-، ولا تظهر صورة النبي محمد – عليه الصلاة والسلام- في المشهد الحواري؛ وذلك لأن الله تكفل بالرد على مزاعم المشركين الباطلة التي اتهموا فيها النبي- عليه الصلاة السلام- باتهامات زائفة، وقد تصدى المولى- عز وجل- لهم ورد عليهم وحاورهم، وجادلهم، وضرب الأدلة المنطقية والبراهين القاطعة على فساد اتهاماتهم وبطلانها.

وفي هذا تخصيص للنبي – صلى الله عليه وسلم- حيث تولى سبحانه الذَّبَّ عنه فيما رُمي به، بخلاف ما قال لنوح -عليه السلام- وأذن له حتى قال: يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (الأعراف – الآية ٦١ )، وهود-عليه السلام- ، قال: يَٰقَوْمِ لَيْسَ بِى سَفَاهَةٌ، وَلَٰكِنِّى رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ (الأعراف٦٧)، إذ قال هود-عليه السلام-: يا قوم ليس بي نقص في عقلي، ولكني رسول إليكم من رب الخلق(ينظر: القشيري، تفسير القشيري المسمى لطائف الإشارات، حقيق: عبـد اللطيف عبد الرحمن، دار الكتب العلمية، بيروت، ط١، ٢٠٠٠م، ٣/ ٢٤٧).

لقد أجابـهم المولى- تعالى- بادئاً خطابه بالقسم بالنجوم بأن النبي عليه- الصلاة والسلام – نبيّ بارٌّ راشد تابع للحق، ليس بضال، ونفى عن نبيه – صلى الله عليه وسلم- الضلالَ والغَيّ، وقد وصفه الله بالأوصاف الكاملة في القرآن الكريم، مع سلوك طريق الاستقامة، وبيَّن أنه لا يقول إلا ما أمر بتبليغه إلى الناس كاملاً من غير زيادة ولا نقصان، إذ وصله الوحي غضّاً طريّاً عن طريق أمين الوحي المَلك جبريل -عليه السلام-.

وقد أثبت المولى – عز وجل- بالدلائل الواضحة والبراهين القاطعة أن القرآن هو كلام الله – تعالى- ووحيه إليه، فالخطاب موجه لقريش، فصاحبكم من أحسن الناس خلقاً، وأعذبهم منطقاً، لقبتموه بالصادق الأمين، إنه الذي تعرفونه وتألفونه، وتعرفون سيرته وسريرته، فكيف تتهمونه اليوم بالضلال والغواية والكذب،  مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ، برأه ربه من كل الصفات التي اتهمه بها القريشيون، ونزهه عما ألحق به، وفي الخطاب القرآني ترقٍ في تنزيه الرسول؛ لأن مساحة الضلال أعم وأهم وأوسع وأرحب من رقعة الغواية، ولفظة (غوى) تتفق مع الفاصلة القرآنية، فتولد نغماً موسيقياً يدعم المعنى ويقويه ويؤكده ويبرزه في ثوب أبهى وأجذب للأنظار، وأقوى تأثيراً.

ولعل مناسبة نزول هذه السورة تدعم هذا المشهد الحواري وتقويه، إذ يقول ابن عطية: سبب نزولها أن المشركين قـالوا : إن محمـداً يتقـول القرآن ويختلق أقواله، فنزلت السورة في ذلك. (ينظر : ابن عاشور التحرير والتنوير ٢٧ / ٩٥ ،٩٦ ).

وقد جاءت لغة المشهد الحواري لغة مركزة مقتصدة، صيغت بإيجاز وتكثيف من دون استرسال أو إخلال، ووردت آيات المشهد الحواري قصيرة جداً، فيها إيجاز وتكثيف تناسب الردود، وأن سور القرآن بعامة يربط بينها لون قوي من التناسب والتناسق والتآلف الذي يخدم المعاني ويثريها، كما تبين ذلك من تناسب بين سورتي الطور والنجم.

ويلحظ المتلقي أن المشاهد الحوارية تعمل على الترابط والتماسك وجمع أجزاء النص في شكل نسيج متضام.

المشهد الحواري الثاني: التشكيك في رحلة المعراج للرسول – صلى الله عليه وسلم- .

يتمثل هذا المشهد في قوله تعالى: أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى* وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى* مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (النجم 18:12). ويتكون هذا المشهد الحواري من فريقين:

الفريق الأول: مشركو قريش وكفارهم، والفريق الثاني: المولى -عز وجل- مدافعاً عن محمد -عليه الصلاة والسلام- إذ قام المغرضون من كفار مكة ومشركوها، بالتشكيك في صحة رحلة المعراج، وحينما سمعوا بهذه الرحلة، ازدادوا كُفرًا واستهزاءً وسخريةً بما رفضت عقولهم تصديقه، وهُمْ في هذا يرمون صراحة إلى نفي معجزة الإسراء والمعراج، ضمن منظومة نفي معجزاته – صلى الله عليه وسلم-؛ بغية تجريده من تأييد الله له بها، والخروج به عن مقتضى كونه نبياً.

ومحور هذا المشهد الحواري؛ عدمُ تصديق أهل قريش لمفردات رحلة الإسراء والمعراج، ولكنّ المولى – جل وعلا – استطاع أن يثبت لهم صحة ما أخبرهم به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بأدلة واضحة، لا يرقى إليها الشك؛ ويؤيد ذلك قول ابن عباس في تفسيرها: “هي رؤيا عينٍ أُريها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليلة أسري به” (البخاري، صحيح البخاري، حديث رقم 3888). ومراد ابن عباس – برؤيا العين – جميع ما عاينه – صلى الله عليه وسلم – ليلة أُسري به من العجائب السماوية والأرضية.

وقد سبق هذه المحاورة حوارٌ دار بين النبي – صلى الله عليه وسلم – وقومه من كفار مكة، عن رحلة الإسراء، فقد وصف لهم المسجد الأقصى بدقة متناهية؛ الأمر الذي ينفي انتحاله هذه المعجزة من جهة، ويثبت وقوعها بالبدن والروح حال اليقظة من جهة أخرى.

وقد جاء رد الفريق الثاني من جهة المولى -عز وجل- وليس من جهة الرسول الكريم الذي لم تظهر صورته، ولم يتولً الرد عليهم، فالله -تعالى- هو الذي تكفّل بالرد على المشركين وتشكيكهم، وجاء ذلك في صورة استفهام إنكاري، وذلك في قوله:  أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى .

والواقع إنَّ ما رآه الرسول في رحلة المعراج هو حقيقة ثابته، وليس خيالاً ووهماً، لقد رأى من آيات ربه الكبرى، رأى جبريل عند سدرة المنتهى، والآياتُ التي رآها رسول الله – صلى الله عليه وسلم- كثيرةٌ؛ منها: الذَّهابُ إلى بيت المقدس، والعروج إلى السَّماء، ورؤية الأنبياء، والمرسلين، والملائكة، والسَّموات، والجنَّة، والنار، ونماذج من النعيم والعذاب… إلخ والمماراة هي المجادلة بالباطل. أي: أفتجادلون نبينا محمداً- صلى الله عليه وسلم- فيما رآه بعينيه، وتجادلونه في شيء هو تحقق منه بعقله وبصره، وهو ملاقاته ورؤيته لأمين الوحي سيدنا جبريل- عليه السلام-؟

إن مجادلة المشركين للرسول هي من قبيل التعنت الواضح، والجهل الفاضح؛ لأنهم كذبوه وجادلوه في شيء، هو قد رآه ، وهم يعلمون أنه صادق أمين، أفتمارونه وتغالبونه أيها المشركون على رؤيته لجبريل؟ مرة أخرى عند سدرة المنتهى! ولقد رآه مرة أخرى، وذلك ليلة المعراج، وعندها الجنة التي تأوي إليها أرواح المؤمنين.

وكثيراً ما يخرج الاستفهام عن معناه الحقيقي الذي وضع له إلى معانٍ بلاغية أخرى تتماشى والمقصد العام للسورة من توبيخ وتهكم وتبكيت وتعزيز وسخرية وازراء وتهكم وإنكار ونفي، وهو هنا غرضه الإنكار على الكفار؛ لتكذيبهم معراج النبي – عليه الصلاة والسلام- ورؤيته آيات الله الكبرى. وتتجلى قيمة أسلوب الاستفهام في صرف الرّتابة عن الخطاب القرآني؛ لأنه يعد شـكلاً مـن أشـكال التنـوع فـي الأسـاليب، والانتقال من الخبر إلى الإنشاء، كما أنه يدفع المخاطبين إلى التفكّر والتأمل.

المشهد الحواري الثالث: إبطال عبادة المشركين للأصنام.

يتجلى هذا المشهد بوضوح في قوله تعالى:أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى*أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى* تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (النجم: ١٩- 22). وهذا المشهد الحواري يتكون من فريقين:

الفريق المحاور الأول : المولى -عز وجل-، الفريق المحاور الثاني: هم كفار قريش٠

بدأ المولى الحوار مع الكافرين متهكماً من تفاهة عبادتهم للأصنام التي يُجلونها كثيراً، وهي تتصف بالعجز وعدم القدرة على إنجاز أية شيء، وحاورهم موازناً بين الأصنام وعظمة الخالق، فقال :

أنا المولى- تعاليتُ- بقدرتي، فقمتُ برحلة الإسراء والمعراج بالنبي محمد عليه – الصلاة والسلام-؛ لإثبات التوحيد، ونبذ الشرك، وتشريفاً وتكريماً له، كيف ترون اللات والعزى ومناة بالنسبة لما وصف في عظمة الله – تعالى-، وشرف ملائكته، وشرف رسوله- صلى الله عليه وسلم -، وأضاف أخبرونا أيها المشركون، فمرجعية محمد – صلى الله عليه وسلم -، هي الوحي شديد القوى ، أما أنتم فمن مرجعيتكم؟ الأصنام التي تتمسكون بها، ماذا ترون؟ أما زلتم تعدونها تتناسب وتتساوى مع المكان الإلهي الأعلى ، وكيف تسوون هذه الأصنام البكماء الصماء كيف تسوونها بالجانب الإلهي؟ فهل تقدر أصنامكم الصخرية والحجرية التي لا تسمع ولا تبصر، لا تنفع ولا تضر أن تفعل مثل هذا العمل؟ وهذا في حد ذاته تهكم بهم، وإبطال لإلهية تلك الأصنام بطريق الفحوى، ودليله العيان”(ينظر: ابن عاشور، التحرير والتنوير، ٢٣ : ١٠٤). وفي مشهد آخر يستمر المولى في محاورة المشركين في سخرية وتبكيت بقوله:

أخبروني: هل فكرتم في أمر هذه الأصنام التي تشركونها بالله، وما تزعمونه من أنها إناث، وأن الله قد اتخذها بنات له سبحانه ؟ ألكم الذكر وله الأنثى” ، كيف اخترتم لأنفسكم الذكور، ونسبتم لله الإناث، وهذه الأصنام مؤنثة حسب اعتقادكم، مع تفضيلكم للبنين على البنات، ومع اعترافكم بأن الله – تعالى – هو الخالق لكم، ولكل شيء، إنَّ فعلكم هذا لهو في غاية الجور والظلم؛ لأنكم نسبتم إلى الله – تعالى – وهو خالقكم ما استنكفتم من نسبته لأنفسكم، “وليس معنى هذا أنه كان يريد منهم أن يجعلوا له الذكور، ويأخذوا هم الإناث مثلاً؛ وإنما المقصود لفتهم إلى سخف عقولهم حتى في إشراكهم، إذ يدعون لله ما لا يرضونه لأنفسهم”( إبراهيم عوض، سورة النجم دراسة أسلوبية بلاغية مضمونية، الطائف، ١٩٩٤، ص ٢٧ (.

فالمولى – سبحانه – لم يكتفِ بوصفهم بالكفر، بل أضاف إلى ذلك وصفهم بالجور والحمق وانطماس البصيرة، (طنطاوي، الوسيط، ١٤ / ٦٩ ). فأجاب مشركو قريش: نعم، هذه قسمتنا، إنا وجدنا آباءنا يؤمنون بها، ونحن على طريقهم متبعون.

هنا أجابهم المولى -عز وجل- عن جوابهم المحذوف بالمنطق، والقياس، والدليل المقنع منكراً متهكماً من قسمتهم قائلاً:  تلك إذن قسمة ضيزى .

والدليل على أن جوابهم كان محذوفاً ذكرُه لفظة” إذن” التي هي حرف جواب وجزاء، فقد طوى الله جوابهم، وغضّ الطرف عنه، وحذفه، وأبقى جوابه، ففي الحذف إبهام وعدم إفصاح؛ لأن في ذلك تشويقاً وشدّ انتباه للسامع، وهذا من بلاغة النص القرآنـي ؛ ذلك أن جملة تلك إذاً قسمة ضيزى تعليل للإنكار والتهكم المفاد من الاستفهام في ألكم الذكر وله الأنثى.

عبر الخطاب القرآني بالاستفهام حتى يرجعوا إلى أنفسهم، ويتبينوا أن هذا الـذي اعتقـدوه خطـأ عظيم، وأن المسألة كلها عندهم وهْمٌ لا أساس له من العلم، ولا من الواقـع، ولا حجـة فيها، ولا دليل. (سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، بيروت، ط١٢ ، ١٩٨٦م ، ٦ / ٣٤٠٨).

لقد ترتب على زعمهم الكاذب أن قسمتهم كانت قسمة ضِيزى، أي: قسمة جائرة عرجاء، قسمة مائلة ظالمة مجحفة، وهي من الفعل: ضاز، يضيز مال، يميل، وهي كلمة غريبة في العربية وغريبة في القرآن، فغرابة اللفظ تومئ بغرابة القسمة، وهي لفظة تستقيم في موضعها غرابة ووزناً ومعنىً وفاصلة، وتشي بدلالة اللفظ على المعنى، ودلالة اللفظ بجرسه على المعنى، وتتجلى في كلمة (ضيزى) دقة اختيار الألفاظ، وانتقاؤها، وأثر ذلك في رسم المعنى وتوضيحه بشكل يدل على الإعجاز اللغوي في السورة الكريمة.

 

المشهد الحواري الرابع : إنكارُ شفاعة الأصنام وبطلانها:

وفي هذا المشهد الحواري يقول الله – تعالى- : إنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى* أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى* فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى* وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (النجم:٢٣ – 26 ).

وقد عاود المشركون تساؤلهم محاورين: إنا وجدنا أبناءنا لها عابدين. عندها أجابهم المولى – عز وجل- وهو يحاورهم بقوله: إنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فجملةإنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا  .

ويتبين للقارئ أن قَوْلَ المشركين- أيضاً – محذوف؛ ذلك لأن جواب إنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا جملة استئنافية، والجملة الاستئنافية دائما تأتي جواباً لسؤال محذوف، والسؤال المحذوف: لم تعبدونها؟ وجواب المشركين: إنا وجدنا آباءنا لها عابدين، وجدناهم هكذا هم يفعلون، فالمولى – عز وجل- قد طوى كلامهم، وأتى بكلامه هو إثباتاً للحق وإبطالاً لكلامهم الباطل.

من ينعم النظر في بناء المشاهد الحوارية يكتشف أن ثمة علاقة قوية بينها وبين بناء الجمل، فالمشاهد الحوارية تراوح بين الجمل القصيرة والجمل الطويلة، فكلما علتْ نبرة الخطاب القرآني واشتدت، يجنح النص؛ لتوظيف الجمل القصيرة مثل: قوله تعالى : عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى* ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى* وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى* ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (النجم: ٥ – ٨ )، فأغلب الآيات والجمل في السورة تتكون من كلمات قليلة تؤدي معانى عميقة وكثيرة، فالجمل القصيرة تُعطي جَرْساً موسيقياً، وفكرة عميقة، تجذب الانتباه .

أما إذا كان المشهد الحواري هادئاً، فإن النص القرآني يميل إلى بناء الجمل الطويلة، ومثالها قول المولى -عز وجل – : إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ* وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى (النجم: ٢٣ ).

فالمشهد الحواري في الآية السابقة جاء هادئاً ورزيناً، اتكأ على ما يسمى بأسلوب الحوار البرهاني الحجاجي، حيث يتم ذلك من خلال طرح الأسئلة على العقل لمحاولة الإجابة عنها، فالجمل الطويلة جاءت في جوّ من الهدوء للشرح والتحليل، ولربط الأفكار بسابقاتِها؛ لخلق نوع من الترابط والانسجام في النص، وتمشياً مع عوامل الاتساع في الجملة القرآنية التي يتطلبها المعنى.

وقد يأتي التراوح بين أنواع الجمل القصيرة والطويلة في آيات متتابعة في سورة النجم مثل قوله تعالى :أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى* فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى* وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى (النجم:٢٤ – ٢٦).

وحينما قال المشركون عن الأصنام: إنهم يعبدونها؛ لتقربهم من الله زلفى، وقالوا : إنّ أقصى أمانيهم أن تشفع لهم هذه الأصنام، وتجيبهم إلى ما تحبه نفوسهم من عبادتها، ومحبة سدنتها، ومواكبة زيارتها، وأنها تسعى في الوساطة لهم عند الله – تعالى- بما يرغبونه في حياتهم، فتلك أوهام وأمان محببة إلى نفوسهم، هنا أجابهم الله -تعالى- وهو يعلم أن ليس لهؤلاء الكفار ما يتمنونه من شفاعة تلك الأصنام أو غير ذلك مما تشتهيه أنفسهم، وخاطبهم محاوراً بقوله:  أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى ، وقد قدَّره ابن الجوزي: (أم للإنسان) يعني الكافر (مـا تمنّى) مـن شـفاعة الأصنام (ابن جوزي، زاد المسير ٢٧ /٢٠٨ تحقيق: أحمد شمس الدين، دار الكتب العلميـة بيروت ،لبنان ط٢ ، ٢٠٠٢).

وسألهم المولى – جل وعلا – بعد ذلك : مَنْ يُعطي الإنسان ما يتمناه؟

جاء جوابهم: الله. عندها سألهم عز وعلا : إن الأمور كلها له وحده سبحانه أولاً وآخراً، في الدنيا والآخرة، لا يستطيع أحد أن يسبقه بشيء أو يعقب عليه بشيء، فحكمه شامل، وإرادته مطلقة، ولا ربّ سواه، وما يتمتع به الإنسان من نعم؛ فإنما هي من عطائه الكريم، وما دام لله، فلِمَ لا تطلبون الشفاعة منه – وحده – دون غيره؟

ومن بلاغة النص القرآني؛ تقديمُ الآخرة على الأولى إلى جانب مراعاة الفاصلة القرآنية، فإنّ ثمة غرضاً بلاغياً يكمن في دلالة المعنى في كون أنّ الآخرة أفضل وأعظم، وهـي التـي ينبغي أن تكون المقصودة للعباد، كما هي طبيعة الأسلوب القرآني في الجمع بين أداء المعنى وتنغيم الإيقاع ، دون إخلال بهذا على حساب ذلك، فالجمال في الكون كله يتـناسب مع الوظيفة ويؤاخيها.( ينظر: سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، بيروت، ط١٢ ، ١٩٨٦م، ٦/ ٣٤09).

ثم عاود المشركون الجدال والمحاورة، فقالوا: هذه الأصنام شفعاؤنا عند الله يوم القيامة تشفع لنا وتدخلنا الجنة، أجابهم المولى مُكذِّباً ومُصححاً لمشركي العرب المفاهيم الخاطئة حول الشفاعة بقوله:

وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ( النجم : ٢٦).

فالآية الكريمة السابقة تتحدث عن المشركين الذين توهموا أن أصنامهم ستشفع لهم، وكأنه – سبحانه – يقول لهم : إذا كانت الملائكة مع سمو منزلتهم عندنا لا يشفعون إلا بإذننا، ولمن نرضى عنه، فكيف وصل بكم الجهل والحمق – أيها المشركون – إلى توهم أن أصنامكم – مع خستها وحقارتها – ستشفع لكم عندنا؟

يستشف المتلقي الحِذق أن جواب المولى -عز وجل- فيه سخرية وتبكيت واستهزاء من تفاهة عقول الذين توهموا أن أصنامهم ستشفع لهم . وفي هذه الآية تقنيط للكفار من تعلق آمالهم بشفاعة معبوداتهم، (ينظر: الصاوي، حاشية الصاوي على تفسير الجلالين: تحقيق صدقي جميل العطار، دار الفكر، بيروت، ط١ ، ٢٠٠٥م، ٦ / ١٧.

جاءت المشاهد الحوارية في السورة مبنية أساساً على ما يسمى بأسلوب الحوار البرهاني الحجاجي، حيث يتم ذلك من خلال طرح الأسئلة على العقل لمحاولة الإجابة عنها، أي: سؤال وجواب، ومثاله قوله تعالى: أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ( النجم : 12)،أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (النجم: 19 ، 20)، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (النجم: ٢1)،أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى، (النجم:24).

وقد يأتي الحوار مفصلاً للدلالة والمغزى ويملأ كل ثنايا المشهد، ويأتي ـ أحياناً كثيرة يختصر الأحداث، ويعرضها عرضاً سريعاً، فيُعني بالإشارة اللامّحة واللمحة الدالة، والنكتة البلاغية الكاشفة للأغراض المقصودة من السياق، مثل القدرة على محاججة الخصم وإقناعه .

يجيء الاستفهام -أحياناً-جواباً لاستفهام سابق مثل قوله تعالى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى ( النجم: ٢1)، جاءت جواباً لاستفهام في قوله تعالى: -أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى ( النجم : 19 ، 20). حيث يقول أبو السعود في التوبيخ المستفاد من هذا الاستفهام: “وقيل أفرأيتم إلى هذه الأصنام إن عبدتموها لا تنفعكم، وإن تركتموها لا تضركم والأول هو الحق كما يشهد به قوله تعالى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (النجم :٢1)، شهادة بينة، فإنه توبيخ مبني على التوبيخ الأول، وحيث كان مداره تفضيل جانب أنفسهم على جنابه تعالى بنسبتهم إليه تعالى الإناث مع اختيارهم لأنفسهم الذكور، وجب أن يكون مناط الأول نفس تلك النسبة؛ حتى يتسنى بناء التوبيخ الثاني( ينظر: أبو السعود، إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الحكيم،٨ / ١٥٨).

تضافرت أساليب لغوية كثيرة مع تقنية المشاهد الحوارية في نقل المعنى وتعميقه، ولرسم المشهد والكشف عن أسلوب الخطاب الرباني الموجه للبشر على اختلاف حالهم وأحوالهم، وما دام أن الحوار لا يسير في القرآن على منهج واحد، بل يجد المتلقي فيه تلويناً بين أساليب التعبير، ومن تلك التقنيات الفنية؛ تقنية الالتفات.

يُقصد بالالتفات “نقل الكلام من أسلوب إلى آخر بمعنى أن عبارة التكلم تنتقل إلى عبارة الخطاب أو الغيبة وبالعكس حال كون هذه الأساليب مصداقها واحد، ويعود الضمير إلى شخص واحد أو مرجعها شيء واحد (الزمخشري، أساس البلاغة ، ٥٦٨ ).

ومثال الالتفات في السورة قوله تعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وهو التفات ضمائري وزمني، إذ كان المولى يخاطبهم بضمير المخاطب، ثم التفت ليخاطبهم بضمير الغائب؛ وكان يتحدث عنهم بالزمن الماضي، ثم التفت عنهم، وأخذ يتحدث بالزمن الحاضر الذي يشير إلى الاستمرار والمداومة على اتباع الظن، بعد أن خاطبهم التفت عنهم، وقال: إنَّ هؤلاء المشركين قد عبدوا ما لا يستحق العبادة، إنهم نزلوا عن مستوى الإنسانية، لا يستحقون أن يخاطبهم المولى، فالتفت عنهم، تحقيراً لهم وسخرية وتهمكاً بهم، لذا تحدث عنهم بضمير الغيبة.(ينظر: إرشاد العقل السليم، ٦/١٥٧). لقد تركهم الله وأوهامهم وأسـاطيرهم، وتـرك خطـابهم، ولم يلتفـت إليهم كـأنهم لا وجود لهم، وتحدث عنهم بصيغة الغائـب، فـلا حجـة، ولا علـم، ولا يقـين، إنمـا هو الظن يقيمون عليه العقيدة، والهوى يـستمدون منـه الـدليل( ينظر : سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، بيروت، ط١٢، ١٩٨٦م ، ٦ / ٣٤٠٨).

استعمل النص القرآني – أيضاً- تقنية الحصر والقصر؛ لتأكيد المعنى وترسيخه في الأذهان. وفي النص علاوة على ما سبق توظيف لتقنية التصوير الفني؛ لأن الظن لا يتبع، إن المشركين يأخذون بالظن والأوهام بدلاً من العلم اليقين، وهو من باب الاستعارة المكنية، عبادتهم للأصنام مجرد ظن وتخمين وأوهام لا واقع ولا دليل عليه.

برزت سمات المشهد الحواري وخصائصه واضحة جلية، ذلك أنه اندمج في صلب الخطاب القرآني؛ ولم يَبدُ للقارئ عنصراً دخيلاً عليه، وجاء حوراً طيِّعاً سلساً رشيقاً قصيراً بعامة مناسباً للمتحاورين والموقف، فضلاً عن احتوائه على طاقات تمثيلية غنية. إلى جانب كونه متنوعاً ومتعدداً؛ تبعاً لقُربه من الحدث أو بُعده عنه. وتبرز مراعاة الفاصلة القرآنية المتمثلة في تكرار صوت الألف في آخر كل كلمة في الآيات؛ لتُكسب الخطاب القرآني جرساً نغمياً وإيقاعاً وموسيقى النص التي تجعل متوازناً، فهذه التناظرات الرأسية لنهايات الفقرة جعلت منها موسيقى تكرارية متوازية، تشكل مفاتيح للدخول إلى عالم النص واستكشاف أبعاده، وقد أدى صوت الألف اللينة دوره البارز في الإسهام في الإيحاء بإخراج المعاني الضمنية إلى السطح؛ لما في صوته من قدرة على التكرير والتكييف.

يتضح من بناء المشاهد الحوارية في السورة أن مراعاة الفواصل فضيلة بلاغية تضاف إلى تلك الخصائص، وقد اقتضاها السياق والمقام، فحققها السبك، وليست هي الصياغة، بل هي من مقتضيات المعنى الإعجازي .

صفوة القول، فقد تعددت صور الحوار في سورة النجم المباركة وأشكاله، وجاء تعددها في النص القرآني يهدف إلى توضيح حقيقة تقنية الحوار، فالحوار هو الأسلوب الذي اعتمده القرآن؛ لتوضيح أصول العقيدة الإسلامية، وذلك بمخاطبة الخالق للخلق سواء أكان هذا الحوار متعلقاً بالجانب العقائدي أم الأخلاقي أم الاجتماعي من جهة، ومن جهة أخرى كان الحوار في الخطاب القرآني مَدعُماً بتقنيات فنية أخرى جعلته قادراً على تبسيط للفكرة وإيضاحها، وإقناع الخصوم؛ وذلك لتحقيق الهدف من أداء الرسالة، فضلاً عن أنَّ ألفاظ السورة كانت تتميز بالدقة في الاختيار وبسعة الدلالات وتنوعها وبإثارة الخيال وبقوة.

فالحمد لله الذي شرَّفنا وأكْرَمنا بالقرآن العظيم، ونسأله أنْ يحشرنا مع أهل القرآن، وصلّى الله وسلم علي نبينا محمد، وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ملحق مشاهد حوارية في سورة (النجم) المباركة

جرت هذه المشاهد الحوارية بين المولى- عز وجل- وبين مشركي قريش، وفي هذه المشاهد إجابات لكلام محذوف، وهذه هي طبيعة الحوارات في بناء سورة النجم المباركة.

المشهد الحواري الأول:

– مشركو قريش: نحن نتهم النبي محمد – صلى الله عليه وسلم- بالجنون والكهانة، والشعر، والكذب .

– المولى – جل وعلا : مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى* وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى.

المشهد الحواري الثاني:

– مشركو قريش: نحن نشكك ونكذِّب ونطعن في صحة رحلتي الإسراء والمعراج، وفي رؤية الرسول محمد – عليه الصلاة والسلام- ليلة المعراج لآيات ربه الكبرى.

– المولى – جل وعلا-: – أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ؟

المشهد الحوار الثالث:

-المولى – عز وجل : أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى . أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى.

-مشركو قريش: هكذا وجدنا آباءنا على هذه القسمة، ماذا نفعل؟ هذه قسمتنا، وقسمة آلهتنا، هذا الذي ورثناها في معتقداتنا.

-المولى – عز وجل- : تلك إذن قسمة ضيزى، جائرة عرجاء مائلة.

مشركو قريش: لقد وجدنا آباءنا لها عابدين، وجدناهم كذلك هم يفعلون.

– المولى – عز وجل- : إن هي إلا مجرد أسماء اطلقتموها عليها.

ثم أعرض المولى بعد ذلك عنهم ، والتفت إلى رسوله الكريم؛ ليحدثه عن المشركين؛ مبكتاً إياهم مزرياً بهم:

– المولى – عز وجل- إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ.

ثم يكرر عليهم السؤال:

– المولى – عز وجل- : لماذا تعبدون هذه الأصنام؟ وأنتم تدركون أنها حجارة لا تضر ولا تنفع .

– مشركو قريش: نحن نعبدها؛ بوصفها بنات الله، وبكونها صور للملائكة التي هي بنات الله، فما أسهلها من عبادة!! ليس فيها أفعل ولا تفعل، نحن لا نعبد الأصنام إلا لتقربنا إلى الله زلفى، نحن نتمنى من وراء عبادتنا لهذه الأصنام أن تشفع لنا يوم القيامة، وتُدخلنا الجنة، مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ( الزمر: 3 )، أي: إنهم عمدوا إلى أصنام اتخذوها على صور الملائكة المقربين في زعمهم ، فعبدوا تلك الصور، تنزيلاً لذلك منزلة عبادتهم الملائكة؛ ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم ورزقهم، وما ينوبهم من أمر الدنيا. فأما المعاد، فكانوا جاحدين له، كافرين به (ينظر: ابن كثير، مختصر تفسير ابن كثير ج٣ / 401 ).

– المولى – عز وجل-: تلك مجرد أمانٍ زائفة خادعة، سُرعان ما تتبخر، إذ ليس للإنسان ما تمنى، ذلك أنه ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.

– المولى : من الذي يحقق للإنسان الأماني؟

– مشركو قريش: الله.

– المولى – عز وجل-: حقاً ، إنه الله، فلله الآخرة والأولى، الذي لا يملك لا يعطي، فلله -وحده- القدرة على التصرف في مقدرات الكون والأرزاق، والشفاء للمرضى، والشفاعة للناس في الآخرة، وما دام الأمر كذلك، فلماذا لا تلجؤون إليه وتطلبون منه – وحده- الشفاعة؟

المشهد الحواري الرابع : إنكار شفاعة الأصنام وبطلانها:

وفيه يقول الله تعالى: إنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى* أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى* فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى* وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (النجم:٢٣ – 26 ).

وقد عاود المشركون تساؤلهم محاورين: إنا وجدنا أبناءنا لها عابدين. عندها أجابهم المولى – عز وجل- وهو يحاورهم بقوله: إنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فجملة “إنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا ” جملة استئنافية، تفيد الحصر وقصر، وهي أعلى طرق التوكيد، فإنْ نافية، بمعنى ما.

ويتبين للقارئ أن قَوْلَ المشركين – أيضاً – محذوف؛ ذلك لأن جواب إنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا  جملة استئنافية، والجملة الاستئنافية دائما تأتي جواباً لسؤال محذوف، وجواب المشركين هو: إنا وجدنا آباءنا لها عابدين، وجدناهم هكذا هم يفعلون، فالمولى – عز وجل- قد طوى كلامهم، وأتى بكلامه هو إثباتاً للحق وإبطالاً لكلامهم الباطل .

وحينما قال المشركون عن الأصنام إنهم يعبدونها؛ لتقربهم من الله زلفى، وقالوا : إنّ أقصى أمانيهم أن تشفع لهم هذه الأصنام، وتجيبهم إلى ما تحبه نفوسنا من عبادة الأصنام، ومحبة سدنتها، ومواكبة زيارتها، وأنها تسعى في الوساطة لهم عند الله – تعالى- بما يرغبونه في حياتهم، فتلك أوهام وأمانيَّ محببة إلى نفوسهم، هنا أجابهم الله -تعالى- وهو يعلم أن ليس لهؤلاء الكفار ما يتمنونه من شفاعة تلك الأصنام أو غير ذلك مما تشتهيه أنفسهم، وخاطبهم محاوراً بقوله: أم للإنسان ما تمنى، وقد قدَّره ابن الجوزي: (أم الإنسان) يعني الكافر (مـا تمنّى) مـن شـفاعة الأصنام (ابن جوزي، زاد المسير ٢٧ /٢٠٨ تحقيق: أحمد شمس الدين، دار الكتب العلميـة بيروت ،لبنان ط٢ ، ٢٠٠٢).

وسألهم المولى – حل وعلا – بعد ذلك : مَنْ يُعطي الإنسان ما يتمناه؟

جاء جوابهم: الله، فالله هو الذي يملك أمر الآخرة والأولى، فله – وحده – التصرف في أمر الحياة الآخرة والحياة الأولى التي هي الحياة الدنيا. وعندها أجابهم المولى- عز وجل- : وما دام الأمر كذلك، فاطلبوا الشفاعة منه – وحده – دون غيره.

ثم عاود المشركون الجدال والمحاورة، فقالوا: هذه الأصنام شفعاؤنا عند الله يوم القيامة تشفع لنا وتدخلنا الجنة.

أجابهم المولى مُكذِّباً ومُصححاً لمشركي العرب المفاهيم الخاطئة حول الشفاعة بقوله:

وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى

(النجم : ٢٦).

زر الذهاب إلى الأعلى