نصوص

القطّ والقبّعة.. قصة بشار بطرس

القطّ والقبّعة

قصّة: بشار بطرس

” إن شعور القلب فوق منطق العقل ”

باسكال

لاحظتُ مصادفة أن قطط الشوارع تنفر من رؤية الناس حين يرتدون القبّعات، نفوراً قد يصل حدّ الفزع !.

صادف ذلك حين كنت سائراً، أرتدي قبّعة صوفيّة، ينتهي أعلاها بكُرة من خيوط سود، في حين، أن الرذاذ الخفيف، لم يزعج القطط، فقد أثارها منظري، ففرّت هاربة أمام مسير قدميّ !!

دهشتُ للحادثة، وللوصول إلى استنتاج معقول، قررتُ تربية هرٍّ، وتطبيق الاكتشاف عليه، مطلقاً على موضوعي: “القط والقبعة”.

لم يكن من الصعب إحضار قط حديث الفطام بلون عشوائي، فكان هرّي أسود مع بقع بيضاء على الرأس ومنتصف الظهر، وبقعة تستطيل باتجاه الذنب، إذاً، لم يكن جميلاً كغيره من القطط، ويمكن لبعض من رآن أن يقول “إنه منفّر” لكن ذلك لا يدخل في موضوع التجربة.

استطعت قدر الإمكان تعويده على النظافة، واعتنيت بغذائه حتى ينشأ صحيح الجسد والملاحظة.

كانت خلاصة فكرتي، أن أواجهه حين يكبر، بمنظري “المتقبّع” وملاحظة ردود فعله، وحتى أضمن ذلك، حرصت على إخفاء قبعاتي عنه، ولم أظهر أمامه بأي منها، ومزيداً من إقناعه بمقاطعتي للقبّعات، كنت أداعبه قريباً من رقبتي، وأجعله يتحسّس الشّعر الحر، والأذنين اللتين تسمعان جيداً خريره الدافئ.

كبر الهرّ سريعاً، وصار مشاكساً بعض الشيء، يطلب بمواء مترجٍ الخروج من المنزل ليلاقي أصدقاءه، عند حاوية القمامة، أو يغازل بنات جنسه، ولم أمانع في ذلك، لأن ملاحظتي ترتّبت عن قطط تعيش في الشّوارع لا بين جدران المنازل.

قسوت عليه، متذكراً أنه يبقى حيواناً شرساً، متواكلاً لا يُمكنني ائتمانه، عدا عن أنني في الأصل، أكره القطط، وأنظر إليها كونها حيوانات مفترسة، ذات مخالب تخرجها حين تريد بأنانيّة فظّة وتنقل الأمراض خصوصاً حين لا يُعتنى بنظافتها.

وهو- على الرغم من ذلك- كان لا يؤخّر جهداً في استعطافي بمحاولات العبث الدائمة بمحتويات الغرفة، وإصراره على اللعب معي، وإزعاج أوقات فراغي، حين يطفح بي الكيل، فيدرك بطريقة لا أعرفها، أنّ عليه صرف طاقاته بغير اتجاه.

أثارني تباين لوني جسده الأبيض والأسود، ورأيت فيهما أحلى خلاصة لاجتماع اللونين، وفي عينيه البنيّتين تذوقت سرّ انعكاس الضوء، أحببت ذيله بحركته الساحرة حين تقسم فراغ الغرفة فأقول: أي سحر في هذا التكوين !

جمعني به إحساس خاص، فقد صار من أساسيات الغرفة: حين أدخلها أتأكد من وجوده قبل التفتيش على النظافة، أو تفقّد “الشحّاطة” تحت السرير، وصار من عادتي أن أقول له: “صباح الخير” قبل تفكيري بسماع صوت فيروز…

لكنّي لم أتفاءل بارتياحه إليّ، ونسيانه فظاظتي في معاملته، حتى عشّمت نفسي بقربه مني، طالما أقدّم له طعاماً دسماً، ودفئاً مناسباً، وتسلية لا ينالها رفاقه من القطط.

وهو، إذا لا يستطيع الكلام، ولأننّي لا أفهم لغته الخاصّة، لم يجبني: هل أحبّني أيضاً؟ وهل سيساعدني في تجربتي مطلقاً كامل ردود فعله؟ ولا يقصّر في تثبيت الاكتشاف عن خوفه من القبّعة؟

مضى الشتاء، وكان قد بلغ الشهر الخامس، كبر حجمه وطال وبر جسده، واكتسب على ما يبدو، تجربة في التأمل ومجانبة الخبث، وامتنع عن الخروج من المنزل، وطالت ساعات نومه، ولم يعد يزعجه الماء الفاتر حين أجبره على الاستحمام.

أحببته أكثر، ووجدت في سلوكه الجديد قرباً من ملامح سلوكي، وسألت نفسي سؤالاً أربكني: حين تنتهي “التجربة” هل سأستطيع الاستغناء عنه؟ وإذا لم يحقق فرضية “القط والقبّعة” فما هو مبرّري لإبقائه؟

في يوم ماطر من أيام الربيع، لبستُ قبّعة التجربة، واتخذت لنفسي هيئة المار بذلك الشّارع منذ شهور مضت، وحرصت على مفاجأته وحيداً في الغرفة !.

فتحت الباب، وأضأت النور، كان نائماً فأفاق، نظر إليّ، فحدقت في عينيه البنيّتين، تقصّدتُ الوقوف أمامه دون حركة، ثم قرفصت أستثيره.. مضت لحظات ثقيلة، لم يكترث، لم يُعنِه أنّنا في تجربة، حوّل نظره عني، ولم يكلف نفسه عناء الوقوف لتحيّتي، والتمسح بساقي كما كان يفعل.

خلعت القبعة، ورميتها إلى جانبه، عسى تخيفه شيئاً ما، نظر إليها بقرف، ولم يزعج منخريه الدقيقتين بشمها، تناولتها، وضعتها فوقه، تثاءب ساخراً، وأسقطها على الأرض، وعاد إلى جلسته الطبيعيه، ينظر إلى اتجاه آخر !

ثم تخفْه القبّعة، حتى أن الكرة السوداء القريبة من لونه الغالب، المهتزة بين يديّ، لم تحرك مخالبه باتجاهها.

اقتربت منه، أريد تبريراً لما حصل، نادماً على خطأ ملاحظتي، وفشل تجربتي. نظر إليّ بعطفِ غيرِ المسؤول عمّا حدث، فتناولتْه يداي.

بين راحتي وأمام وجهي، ازداد ألفة وجمالاً، رفع رأسه، اقترب بشاربيه من رموش عيني، بدلال لم أعهده، تركتُه عند التقاء الكتف بالرقبة، وتمسّحتْ بجسده الدافئ وجنتي.

لم أره بهذه المودّة من قبل: كان يبذل أقصى مرونة أطرافه، للمحافظة على التفافه حول عنقي، ملصقاً رأسه بقفا رأسي، يحاول إسماعي من أقرب طريق، ما يجول في رأسه الصغير، ويقنعني دون كلام مسموع بأن القطط لا تخاف القبعات، ويجيبني عن السؤال الذي خفتُ منه: لن تتركني، فدفءُ جسدي من دفء يديك. !!

القط والقبّعة: من مجموعة قصص قصيرة بعنوان (شجرة التوت الشامي)، فازت بجائزة (سعاد الصباح) للقصة القصيرة عام 1996.

زر الذهاب إلى الأعلى