مقالات رئيس التحرير

المغيّب وبلاده التي لا تقبل التأويل: جواد العقاد

المغيّب وبلاده التي لا تقبل التأويل

المنفى في قصيدة “المغيّب الناجي من التأويل” للشاعر أنور الخطيب

بقلم: جواد العقاد/ رئيس التحرير

أولًا- النص:

المغيّب الناجي من التأويل

(١)

احمليني على جناحيّ منفاي
وانتبذي وطناً قصيّا
قد وُلدتُ في السرّ
أكثرَ من ولادة السّر فيَّ
كأنني وُلدتُ فتيّا
ولا تهزّي جذع السّماءِ
تسلّقتُ نخل البلاد
أذّنتُ فيهم للعبور
لم يَغيثوا طفلتي
ولم تُسقِطِ النخلةُ تمراً شهيّا،
لا تنتظري عند ساحل العودة
لن يخلقَ الله من يشقُّ البحر
قلت في لحظة الشوق: أشقّه،
فتآمروا..
وسوسوا للريح
أرسلتْ موجاً عتيّا،
احمليني في رحِم الغياب
علّ القبابَ تنزِّل رحمتها عليّ.

(٢)

أنا المغيّب الناجي من التأويل
لن أكون نبيّا
وإن سألوكِ عنّي قولي
أحبُّ هذا النديّا
أنجبْتُه من دمعةٍ في درب آلامه
كانت تغذّ النشورَ نحوي
تطوي المواجع طيّا،
شرطُهُ في الظهورِ ألا أناديه بُنيّا
ولا أقيمُ على صلاته وصيّا
فاحفظوه في رقابكم
لا ترجموه ولا تقتلوه
لم يكن في دمائكم شقيّا
سأحملُه في القلب
أذكرُه بكرةً وعشيّا
حتى يعودَ
من كان في المهد صبيّا.

ثانيًا- التحليل:

تمهيد:

الحق إني شُغلتُ منذ سنوات بإنتاج أنور الخطيب في الشعر والرواية، قراءةً وتحليلًا، وأستطيع القول إن الخطيب هو شاعر المنفى في المقام الأول؛ فقد شكلَ له المنفى هاجسًا مستمرًا، وتجلى ذلك في أعماله الروائية لا سيما في روايتيّ ” شوق مزمن” و”رقصة الفيلسوف”، أما تجليات المنفى في أعماله الشعرية فتغطي مساحة واسعة ولا يخلو ديوان شعري منها، ونكاد أن نجدها في كل قصيدة. والمنفى عند الخطيب لم يكن للحظة وطنًا ولو مؤقتًا أما الوطن فهو قصيدةٌ لا تقبل التأويل، لها وجه أوحد، هو الفلسطينيون.

أنور الخطيب هو شاعر وروائي وإعلامي ومترجم فلسطيني مرموق، مواليد عام 1954م، تنقل بين العديد من البلدان العربية إلى أن استقر في لبنان، أصدر خمس عشرة رواية، وثماني مجموعات شعرية، وثلاث مجموعات قصصية، وكتابين في النقد والتوثيق الثقافي.

الشاعر الخطيب والمنفى:

التجربة الحياتية تمنح الشعر خصوصية تتحقق في الصدق العاطفي، وهذ الأخير هو المعيار الأول للشعر الجيد على الأقل من وجهة نظري، وإن القارئ والمتابع لحياة أنور الخطيب الطويلة والمريرة في المنافي يرى أنها تركت أثرًا واضحًا في شعره، لدرجة أن مرارة التغرب واللجوء والتساؤل القلق عن الوطن دائمًا هي سمات أساسية في قصائده تُلامس القارئ وإن لم يُصرح بها في بعض الأحيان. نحن نعرف أن الشاعر مهموم وقلق بطبعه، ومن هنا أستطيع القول إن الهم الأول عند أنور الخطيب هو جدلية المنفى والوطن.
يقول الخطيب:” اللا وطن هو اليتم في أكثر تجليات الألم والشعور بالوحدة والبرد والخوف..”(١) حتى أنه لا يُسمي المنفى باسمه بل يقول” اللا وطن” تأكيدًا على الضياع والمرارة، وأي وطن غير وطنه هو لا شيء، الوطن بالنسبة للخطيب هو وجود وهوية وكيان، ولا يُريد أن يتصور للحظة أنه في المنفى، في بلد ما، لأن المنفى قد يكون فيه مقومات للحياة، لكن الخطيب الذي قهره برد المنافي لا يُريد أن يؤمن بها، هو في حالة تشوق مستمر للوطن، والاستقرار النفسي في غير الوطن هو شرك في عُرف الخطيب. “المنفى، انتظار بشارة من سماء مقفلة/ وحدود مقفلة/ ورؤوس مقفلة/ وقلوب مقفلة/ وأرحام مقفلة.”(٢) فكيف بعد هذا كله نريد من الخطيب أن يؤمن بأن المنفى منفى، أو وطن مؤقت كما يقول البعض، إنه اللا وطن، والبحث الدائم عن وجودنا.

في فضاء العنوان:

“المغيّب الناجي من التأويل”:

استخدام لفظ المغيّب ( اسم المفعول) للدلالة على الغياب القسري، أما التأويل فهو أنه لا تأويل آخر، فهذا اللاجئ هُجر قسرًا من أرضه، ولا يُمكن أن يتنازل عن حقه بأي طريقة، ولا حل غير العودة.

البنية الرمزية وتحليلها:

أستطيع تقسيم القصيدة إلى مقطعين، منفصلين متصلين، ومتقاربين من حيث الفكرة، وبالتأكيد يحيط بهما وشاح شعوري واحد، وكما هو واضح لنا فإن عاطفة اللجوء والغربة تحتل النص كاملًا، بيد أن الشاعر الخطيب لم يكتف بهذه العاطفة المكتظة بمعاناة المغترب، وإنما اشتغل جيدًا على الصورة الشعرية بتطويع ثقافته الدينية للشعر بشكل سلس، لم يُفلسف القصيدة بل أعطاها جماليات رائعة.

المقطع الأول:

يبدو أن الشاعر تعب من شعور “اللا وطن”، وهذا ما يُفسر استهلال القصيدة بلفظ” احمليني” لما فيه من رغبة في الراحة والخلاص من تعب المنافي، ونلاحظ أن الشاعر يُخاطب أنثى رسمها في خياله، فالأنثى هي رمزٌ للطمأنينة، ولا نستبعد أن تكون الأنثى معادلًا موضوعيًا(٣) للوطن، فإن ربط الشاعر الفلسطيني بين الوطن والمرأة أصبح سمة بارزة في الشعر الفلسطيني. وفي قوله” انتبذي وطنًا قصيا” دلالة البعد الروحي والجسدي عن الوطن، وكان دقيقًا في اختيار لفظ” انتبذي” ولم يُعبر عن المعنى بلفظ آخر مع أنه يُوجد في العربية ألفاظ قد تُؤدي المعنى، في هذا اللفظ دلالة البعد والاعتزال معًا وكأنه يُريد أن يكون وطنه له وحده لا يُقاسمه فيه أحد، وإن وصف الوطن بالقصي أدل من البعيد، ورغم أن الشاعر يُقيم في لبنان يرى الوطن( فلسطين) بعيدًا، لا يتمثل هذا البُعد بالمسافة وإنما بالفكرة، فكرة عدم السماح للشاعر الخطيب بالدخول إلى الوطن.

يُعطينا الشاعر شيفرة لُغوية غارقة في الرمز إذ يقول:” قد وُلدتُ في السرّ، أكثرَ من ولادة السّر فيَّ، كأنني وُلدتُ فتيّا.” يدخل قلب الشاعر أملٌ مؤقت، أو ينسى الواقع ويلجأ إلى الحلم فيعتقد أن أحدًا أَسَرَ له بأن البلاد ستصبح متاحة، وهنا يحاول الشاعر التخلص من ثقل الحقيقة، فهذا الحلم المؤقت سرٌ لا يعرف به أحدٌ غير الشاعر، وهو بمثابة ولادة بل ولادات جديدة له. ويخرج الشاعر من حالة الحلم إذ يقول:” ولا تهزي جذع السماء” هذا يُحيلنا إلى قول نزار قباني في قصيدته المعروفة” هوامش على دفتر النكسة”:” فالله يؤتي النصر من يشاء، وليس حداداً لديكم.. يصنع السيوف.” إذن فالشاعر يريد القول إن الله لا يستمع إلى صامت، فلا نلجأ إلى الدعاء والتوكل فحسب. وثم يصف مأساة الفلسطيني الذي يستغيث بالعرب لتحرير بلاده فيقول: تسلّقتُ نخل البلاد، أذّنتُ فيهم للعبور، لم يَغيثوا طفلتي..” بمعنى أن الفلسطيني استخدم كل الوسائل التي من شأنها إيصال المعاناة التي يتعرض لها كل يوم بفعل المحتل إلا أنه لا حياة لمن تُنادي، “ولم تُسقِطِ النخلةُ تمراً شهيّا” أي لم يحقق العرب أي نصر يُذكر لفلسطين، ولم يجنِ الفلسطيني ثمرة كفاحه الطويل إلى الآن.

“لا تنتظري عند ساحل العودة
لن يخلقَ الله من يشقُّ البحر
قلت في لحظة الشوق: أشقّه،
فتآمروا..
وسوسوا للريح
أرسلتْ موجاً عتيّا،
احمليني في رحِم الغياب
علّ القبابَ تنزِّل رحمتها عليّ.”

يفقد الشاعر الخطيب أمله بالعرب فهم لن يحرروا فلسطين ولو بمعجزة، بل حين أرادَ الفلسطيني أن يستكمل نضاله ضد المحتل تآمرت بعض الأنظمة العربية وخذلته، وفي قوله” قلت في لحظة الشوق: أشقه” تداخل بين شعور الثوري والمنفي المشتاق إلى وطنه. وينغلق الأفق أمام الشاعر فيؤمن بأنه لا سبيل إلى الوطن وأنه سيبقى في المنفى( الغياب).

المقطع الثاني:

يستهل الشاعر هذا المقطع بتكرار العنوان مضيفًا إليه ضمير المتكلم” أنا”، كي يُذكر القارئ بالموضوع الأساس في القصيدة وهو معاناة اللاجئ في المنفى، ويمهد للتجدد الشعوري الذي سينعطف نحو انتهاء القصيدة. يُخاطب الشاعر فلسطين( أمه) ويطلب منها أن تُبادله الحب، فكلمة” النَدِيَ” التي تعني في اللغة “المبتل” تأتي بالمعنى نفسه لكنها تحمل دلالة الابتلال بحب الوطن. يعود الشاعر الخطيب إلى أوجاع المنفى إذ يقول: “أنجبْتُه من دمعةٍ في درب آلامه..” فالدمعة فيها دلالة الرقة والضعف، ودرب الآلام هو مأساة اللاجئ الفلسطيني، فهذه الدمعة رغم رقتها كانت تُقاتل في سبيل فلسطين، بمعنى أن الشعب الفلسطيني الأعزل لا يهدأ نضاله أمام المآسي والآلام. ولا يريد الشاعر لعاطفة الأمومة أن تغلب” ألا أناديه بنيّا” لأن الطريق إلى الوطن يحتاج تضحيات جسيمة، وبالرغم من ذلك تطغى هذه العاطفة على صلابة الفلسطيني” فاحفظوه في رقابكم..”، وإن الشاعر في قلب فلسطين كما هي في قلبه حتى العودة، وبعد وصف الشاعر للمعاناة والخذلان العربي انتهت القصيدة بالأمل في العودة.

4.التناص:

التناص هو تفاعل نص مع آخر سابق والالتقاء في نقاط معينة، وأحيانًا يكون النص الثاني إعادة إنتاج للأول، سواء قصد الكاتب ذلك أو لم يقصد.

يكتشف القارئ من بداية القصيدة التعالق النصي مع سورة مريم في القرآن الكريم ( التناص الديني)، والحق أن الشاعر الخطيب لعب بمهارة عالية في تفاعله مع النص القرآني، لم يحشد الثقافة والمعرفة الدينية في القصيدة بل أعاد إنتاج القصة القرآنية في قالب شعوري جديد، وهذا دليل على التأثر العفوي بالنص القرآني. وأيضًا نرصد أثراً للمعتقد المسيحي في النص سنتعرض إليه خلال التحليل. وجاءت نقاط التلاقي كما يأتي:

  • وانتبذي وطناً قصيّا: يستحضر القارئ مباشرة قوله تعالى” فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا” (مريم: 22) إن المكان القصي، البعيد عن أعين الناس، هو أمان وسلام لمريم (عليها السلام) وكذلك الوطن عند الشاعر، أضف إلى ذلك ما سيحققه له من استقرار نفسي ووجودي.
  • قد وُلدتُ في السر: يُوجد في الاعتقاد المسيحي الأسرار المقدسة( السبعة) وهي نوال نعمة سرية بفعل غيبي، فهل سر الشاعر( أو الحلم) الذي تحدثنا عنه في بداية التحليل سيكون نعمة ويتحقق.
  • ولا تهزّي جذع السّماءِ: ويقول النص القرآني: “وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا.”(مريم: 25)
    كان الله في عون مريم (عليها السلام) فأغاثها، ولكن في المقابل أمرها، هزت النخلة، بمعنى أنها سعت إلى رزقها، والشاعر لا يريد من العرب الدعاء فحسب بل والسعي أيضًا، لذلك ألحق “أذنت فيهم للعبور” بعد” لا تهزي جذع السماء” توضيحًا لسبب رفضه للدعاء، فلا يجتمع التوكل مع القعود.
  • لن يخلقَ الله من يشقُّ البحر: نستحضر قوله تعالى:” فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ، فَانفَلَقَ.”( الشعراء:63)
    معجزة شق البحر كان فيها الخلاص من فرعون، ولكن الآن الزمان والمكان والحال تغيروا، فهذا الفلسطيني اللاجئ ليس نبينًا( لن أكون نبيا) وأنتم أيها العرب لا تؤمنون بحقه بل تتآمرون عليه مع الفرعون الجديد.
  • شرطُهُ في الظهور ألا أناديه بُنيّا: يؤمن المسلمون بظهور عيسى ابن مريم آخر الزمان ليملأ الأرض عدلًا، وكذلك هذا الظهور يُسميه الأخوة المسيحيون” المجيء الثاني”. فإن هذه العبارة تتوافق مع أمل الشاعر في العودة الذي يتسلل إلى القصيدة في نهايتها، لا بد من حل منصف وعادل على يد رجل مُخْلص ومُخَلص.

الموسيقا:

يخلق أنور الخطيب فضاء موسيقيًا خاصًا يناسب مزاجه الشعري، في هذا المضمار قرأت مؤخرًا رسالة ماجستير في شعر أنور الخطيب للباحثة سهير شُراب من جامعة القدس المفتوحة(٤)، والحق أن الباحثة أبدعت لا سيما في دراسة الإيقاع الشعري إذ تقول: “يتميز الشاعر أنور الخطيب بأنه من الشعراء المعاصرين الذين عبروا عن مشاعرهم وانفعالاتهم، ونظم قصائد لم يلتزم فيها بقواعد علم العروض، ولا بقوانين الوزن والقافية حيث قامت معظم قصائده على تشكيلة متنوعة من التفعيلات.” وأنا من خلال قراءتي للعديد من المجموعات الشعرية للشاعر الخطيب أتفق تمامًا مع الباحثة، وأُلحق هذه القصيدة إلى قولها.
ونشير، بشكل سريع، إلى بعض معالم الموسيقا الداخلية في القصيدة محل الدراسة، وأهمها: تناسق الكلمات في مخارج حروفها لا سيما في الكلمات الأخيرة من الأسطر الشعرية، وكان لتكرار العنوان في بداية المقطع الثاني أهمية إيقاعية ودلالية تتجسد في الربط المنطقي بين المقطعين، وإثارة عاطفة القارئ مرة أخرى من خلال تذكيره بالمعاناة والتغرب. وأنا أميل إلى أن الموسيقا الداخلية يصعب شرحها والأولى شعور القارئ بها، ونحن في غنى عن شروح تعليمية في هذا المقال.

ختامًا:

الشاعرُ مسكونٌ بهاجسِ الوطن والمنفى، فالحنينُ يطفو في القصيدة مقرونًا بالتساؤل الوجودي القلق عن الوطن. واتسمت القصيدة بعلو الجرسِ الموسيقي مع الحفاظِ على اللُغةِ المُبتكرة، فالمعاني تبحرُ في الدهشةِ دون تورطٍ في مستنقع التقليديّة. أبدعَ الشّاعر في لغته وأجادَ في رسم الصورةِ الشّعريّة الجديدة. كما تبدو ثقافةُ الشّاعر الدينية واسعةً، وقد أحسنَ توظيفَها وعرضَها بصورةٍ شعريّةٍ بحتة تفتحُ آفاقَ النّص على تأويلاتٍ ودلالاتٍ رحِبة.

الهوامش:

*القرآن الكريم
١. الوطن هاجسي في ظل استمرارية المنفى واللجوء، موقع العربي اليوم، حوار أجراه قصي الفصلي مع الشاعر الخطيب.
٢. ديوان كلي عاشق ونصفي غريب، دار الغاوون، ٢٠١٣م.
٣. المعادل الموضوعي: تجسيد المفاهيم المجردة، يقول إليوت: “إن الطريقة الوحيدة للتعبير عن المشاعر فينا هي إيجاد موقف، أو سلسلة من الأحداث والشخصيات، التي تعتبر المقابل المادي لتلك العاطفة”.
٤. الشاعر الفلسطيني أنور الخطيب دراسة في الشخصية- الموقف- التشكيل، سهير شُراب، رسالة ماجستير، جامعة القدس المفتوحة.

2 تعليقات

اترك رداً على Samutelm

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى