ثقافة

المكان في أدب منيف: عمورية أنموذجاً 

المكان في أدب منيف: عمورية أنموذجاً

صفاء حميد- اليمامة الجديدة

قد لا تكون بلادنا أجمل البلاد، لأن هناك بالتأكيد بلدانًا أجمل، ولكن فى الأماكن الأخرى أنت غريب وزائد، أما هنا إن كل ما تفعله ينبع من القلب ويصب فى قلوب الآخرين وهذا الذى يقيم العلاقة بينك وبين كل ما حولك، لأن كل شىء هنا لك.

كالتفاصيل الصغيرة التى تجعل الانسان يحس بالانتماء والارتباط والتواصل.

كلمات ارتأيت أن أقتبسها من رواية عبدالرحمن منيف المعنونة بالآن هنا لأبدأ بها حديثي عن المكان في أدب هذا الكاتب العربي العملاق.

يكتب الأدباء عبر العالم عن بلادهم واصفين تفاصيلها وأسماءها، فها هو فيكتور هوغو يصف لنا حواري باريس القذرة في زمن الثورة الفرنسية، ويسهب في الحديث عن الباستيل وعن الشوارع الغارقة في الوحل.

ومثله يصف دوستوفسكي أحياء سان بطرسبرغ الفقيرة وممراتها ومداخلها ومخارجها وأحوال ناسها.

ويفعل موراكامي الأمر ذاته حين يصف لنا طوكيو بقطاراتها ومقاهيها و بما يحاذيها من أرياف.

لم يكن المكان معضلة لدى معظم الأدباء، ممّن يعيشون في أرض يشعرون ربّما بأنهم جزء ثابت منها لا طارئون عليها أو منفصلون عنها بشكل ما.

وهنا تكمن المفارقة بين منيف وغيره، أراهن أن من يقرأ رواية لمنيف للمرة الأولى، سيجري إلى خارطة الوطن العربي ثم العالم بعدها، بحثاً عن المكان الذي تجري الرواية في جنباته، وهذا سيكون بالطبع بعد أن ينبش ذاكرته عميقاً، ولا يجد فيها أي أثر لأمكنةٍ تحمل أسماء مثل: عمورية، أو موران.

أين تقع أمكنة منيف إذن؟ 

لا يبتكر منيف مكاناً بل يموّه مكاناً موجوداً أصلاً، ولا يخترع خارطة جديدة، فعوالمه بدون خرائط، لكنّ يتلاعب بالاسم متحايلاً على الجغرافيا والحدود أولاً ومتحايلاً على أعين الرقباء والممنوع ثانياً، فمن سيحاسب كاتباً يكتب عن سجون عمورية، إن لم يكن مسؤولي رقابة عمورية نفسها، وما دامت عمورية تقع في رأس منيف فيستحيل أن يحاسبه رقباؤها.

يقرّ منيف أن أماكنه هي أماكن شرقيّة فهو لا يتوقف عن تكرار صورة الشرق في عينيه كلما واتته فرصة ويؤكد أن أبطاله عرب خلّص كذلك، لكنّ سجونه لا تقع على الخرائط فعوالمه كما أسلفنا بلا خرائط كما أرادها على الدوام، لأن عوالمه هي الشرق كلّه.

فهل قصد منيف بعمورية وموران، الشرق كلّه؟ 

تلك فرضية قد تلقى قبولاً عند القرّاء، لأسبابٍ بسيطة، أنّ الحدود الحقيقية على الأرض تستحيل وهماً حين يكون الموضوع موضوع حريات وديمقراطية وحياة، فالشرق سجنٌ كبير بلا استثناءات حقيقية، فما الذي يجعل عمورية أي بلد؟ طالما هي تستطيع أن تكون كل البلاد.

أما الفرضية الثانية فتظهر في تلاعب لفظي يقول فيه منيف في رواية الآن هنا: الأماكن بالدرجة الأولى، البشر.

فما دامت الأماكن بالدرجة الأولى هي البشر كما يشير فعمورية إذاً هي وصف حالة لا وصف مكان، وصف حالة العربيّ المغرق في اليأس والذل وقلة الحيلة والعالق بين مطرقة الجلاد وسندان الفكرة، عمورية هي نحن إذن.

ويؤكد منيف هذا المعنى في موضع آخر حين يقول:

المواطن المرفه، الحر، المثقف، الشجاع، هو الوطن القوي.

المواطن هو الوطن، وبلغة أخرى الجغرافيا هي الإنسان، أي أن عمورية هي نحن أينما كنّا!

أيّاً يكن ما تفسر فيه عمورية في أدب منيف، فلن يخرجها هذا عن كونها حقيقة وأمراً واقعاً لا محض خيال، أو فكرةٍ عابرة في رأس كاتبها، فعمورية سواء كانت الأرض التي تقف عليها الآن أو الشعور الذي يعتريك، لن تفتأ ان تكون مكاناً حقيقياً في عالم بلا خرائط.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى