مقالات رئيس التحرير

المكان في “رواية رجال في الشمس” للروائي غسان كنفاني: جواد العقاد

المكان في “رواية رجال في الشمس” للروائي غسان كنفاني

بقلم جواد العقاد/ رئيس التحرير

تمهيد:

إن المأساة الفلسطينية تجلّت في معظم أعمال غسان كنفاني، والعديد من رواياته قامت على جدلية الوطن والمنفى لا سيما المكتملة منها، وهي: رجال في الشمس، ما تبقى لكم، أم سعد، عائد إلى حيفا. ما يعنينا هنا هي رواية “رجال في الشمس” المنشورة عام (1963م)، ولعلها أشهر روايات كنفاني مع أن أعماله كلها لاقت قبولًا وتأثيرًا.
تصور الرواية معاناة الفلسطيني في المنفى بعد النكبة من خلال قصة ثلاثة أشخاص “مروان وأسعد وأبو قيس” يبحثون عن خلاصهم الفردي، يحاولون التسلل من البصرة إلى الكويت مع سائق فلسطيني يُسمى” أبو الخيرزان” في شاحنة كبيرة عليها خزان مياه فارغ، يتفقون على النزول في الخزان قبل الحدود لمدة خمس دقائق، وهكذا يجتازون الحاجز الأول، أما في الحاجز الثاني فيُأخر الموظفون أبا الخيرزان عشرين دقيقة وحين يعود يجد الرجال الثلاثة جثثًا، فيلقيهم في الصحراء قرب “مجمع للقمامة” بعد أن يأخذ أموالهم، يمشي أمتارًا للمغادرة ثم يعود ويصرخ بهم: لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ فيتردد الصوتُ في الصحراء.

ونلاحظ أن رواية “رجال في الشمس” تقترب في بنائها الفني من القصة الطويلة، ويمكن اعتبارها كذلك. وإن كل عناصرها “زمان، مكان، شخوص، إلخ…” تلعب دور البطل وتترابط لمحاكاة معاناة الفلسطيني في اللجوء. وكما يبدو اهتمام كنفاني واضحًا بتفاصيل المكان وكأنه يكتب سيناريو، وهذا حتمًا يرتبط بالرغبة في التعبير الدقيق عن المعاناة.

دلالة المكان في الرواية:

ارتبط مصيرُ الفلسطيني بالمكان، فالمأساة الفلسطينية تمثلت في اقتلاع الشعب الفلسطيني من المكان (الوطن)، فأصبح مشردًا يبحث عن كيانه وتحقيق وجوده، مُتشظّيًا في المنافي، رغم أن المخيم حافظ نوعًا ما على الهوية الفلسطينية، بمعنى أنه تجمع يمارس فيه الفلسطينيون عاداتهم وتقاليدهم، بيد أنه فشل في تحقيق كينونة الإنسان الفلسطيني، فأخذ الفلسطيني يسعى ويبحث عن لقمة عيشه من منفى لآخر بعد أن طالت العودة، وهذا ما دفع أبطال الرواية الثلاثة إلى الهرب للكويت محاولين إيجاد حياة أقرب لاطمئنان الوطن من قسوة المنافي. إذن بعد حديثنا عن اللجوء والمخيم يمكننا تقسم الأمكنة الأساسية في الرواية إلى ما يأتي:

  • الحواجز:
    تمثل هذه الحواجز الدول العربية التي لا تهتم للقضية الفلسطينية وتعتبرها هامشية، ودليل ذلك التهكم على أبي الخيرزان بقصة غرامية مفترضة مع راقصة في البصرة، وأرى أن هذه الشخصية تمثل قمة اليأس الفلسطيني؛ بعد ما كان مقاتلًا شرسًا في حرب 1948م تحول إلى (أرزقي). العربي لم يعد لديه الهمّ القومي العروبي تجاه القضية الفلسطينية، وأصبح منشغلًا بقضايا هامشية وجانبية متناسيًا قضية العرب الأولى. وأضيف إلى ذلك دلالة أخرى وهي أن التخاذل العربي كان سببًا في مأساة الشعب الفلسطيني، التي تجلت هنا في موت الرجال الثلاثة.
  • الصحراء:
    اتضحت الأهمية المكانية للصحراء في نهاية الرواية حين صرخ أبو الخيرزان: لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ فردد الصدى الصوت نفسه. وإذا ربطنا دلالة الصحراء بعنوان الفصل “القبر” ينتج لدينا أن الصحراء هي رمز للصمت العربي الذي شارك في قتل الفلسطيني. فلا حياة لمن تُنادي.
  • الكويت:
    هي وطن الحُلم بالنسبة للفلسطيني، بعد أن يأس من العودة وأصبح يراها مستحيلة، تصورَ أن هناك وطنًا بديلًا يُحقق وجوده الإنساني على الأقل، فخاض مأساة أخرى وهو يبحث عن نفسه في وطن آخر مع أنه شبه متأكد من حتمية النهاية المأساوية مع ذلك استمر على أمل. والخزان هو بمثابة المحاولة الأخيرة والقاسية للفلسطيني، وأرى أنهم لم يدقوا جدران الخزان لا لأنهم لا يريدون بل ماتوا وهم يحاولون الوصول إلى ضفة أخرى فيها حياة، بعد معاناتهم الطويلة لن يهمهم إن دقوا الخزان.

ختامًا:
اتسمت رواية رجال في الشمس بالرمزية، إنها تُقرأ بأكثر من تأويل، وطرحت القلق الوجودي الإنساني عند الفلسطيني بعد تهجيره من أرضه، والسؤال الوجودي الأهم في الرواية هو “لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟” فالإنسان يتحقق وجوده بموقفه، أما عن المكان فقد جاء مرتبطًا بالمعاناة ومعبرًا عنها، والمكان في روايات غسان كنفاني الأربع المذكورة أعلاه له أهمية ودلالات خاصة، بل للمكان أهمية في الرواية الفلسطينية عمومًا لأن المأساة الفلسطينية هي مأساة المكان (الوجود) في المقام الأول.

تعليق واحد

اترك رداً على NeilaVach

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى