نصوص

الوحمة… قصة قصيرة: محمد البوجي

قصة الوحمة

بقلم محمد بكر البوجي 

كانت تتهادى في مشيتها غزالاً آمناً مطمئناً، ترفع رأسها وتسير خطوات ثلاث ثم تخفضه رويداً رويداً أيضاً في بضع خطوات، أهم ما يميزها تلك الوحمة المرسومة باللون الأسمر الباهت، المتأمل أو الممعن النظر في مشيتها يلاحظ خارطة الوطن مرسومة على بطة ساقها اليسار من الداخل، معروفة بهذه الوحمة ومشيتها الواثقة لا تلتفت يمنة ولا يسرة، تعمل مدرسة، تظهر ملامحمها من أول “دحلة أبو عاصي” أول المخيم الشمالي، ثم تبدأ ملامحها بالوضوح أكثر حين تمر ونحن الأولاد نجلس على رأس الشارع نراقب السابلة. يشاع في المخيم قصة عن سر ظهور الوحمة، يقولون: إن أمها حملت بها بعد النكبة بعامين وكان لها ابن في العشرين من عمره، كان حبيب أمه تبكي له دوماً حظها العاثر في هذه الدنيا، لقد تركت ذهبها وورق طابو الأرض في دار البلد على أمل العودة خلال أيام كما قال لنا المسؤولون، لكن يا ولدي الحكاية طالت وقد تطول أكثر نفسي أرجع البلد لأحضر ورق طابو الأرض والذهب الذي اشتريته من مهري، ذهبنا من حمامة إلى يافا واشترينا كل ما نحتاجه من ذهب وملابس للفرح من سوق شارع النزهة وهو أجمل شارع في يافا. يا ولدي لقد تركت أشيائي في بئر البيت، آاه يا ولدي: ضاعت البلاد وضاع ذهبي وضاعت بيارة البرتقال وشجر الجميز.

الشاب أدهم كان يتعذب وهو يستمع إلى آهات أمه، كان يفكر كيف يمكن إعادة الأمل إلى أمه المسكينة المعذبة، إذن لا بد من فعل شيء ما. حكايات العائدين تسللا إلى البلد كثيرة، منهم من ذهب إلى بيته هناك وأحضر ما يستطيع حمله سواء على ظهره أو جاء ومعه الحمار محملاً بما يستطيع من عفش البيت، فكر أدهم أن يذهب إلى هناك إلى بيتهم في حمامة، أعرفه جيداً، كنت ضمن مجموعة المدافعين عن القرية لصد هجمات مجموعات الصهاينة، أعرف الطريق جيداً، إذن لا بد من الذهاب وإحضار الذهبات والأوراق حتى تطمئن أمي وتفتخر أن وراءها رجال. في منتصف ذات ليلة خرج من الخيمة في طريقه إلى حمامة مع مجموعة من الرجال العائدين تسللا لإحضار مستلزمات الحياة من بيوتهم، اجتازوا أحراج بيت لاهيا ثم أراضي هربيا ثم أراضي الخصاص، كل يذهب إلى بلدته إلى بيته لإحضار ما يستطيع إحضاره، بعد قرية الجورة اجتزنا وادي الجص القادم من المجدل، اقتربنا من وادي الحمى الذي يخترق وسط البلد مروراً ببئر البدوي، البلد فارغة تماماً، إلى حمامة نصل مع رؤية شعاعات النور الأولى للشمس، جيد نمكث هناك طول النهار ثم ليلاً نعود إلى خيمتنا غربي غزة. بعض الناس تزيد في القصة، لا أعرف هل خيال أم حقيقة، أن الشاب أدهم مكث في بيتهم طوال النهار، بل خرج إلى الكرم، مشيت الى وادي الحربية حيث كرم العائلة المزروع عنباً وتيناً وجميزاً، الكرم بين منطقة أبو جهم ومنطقة الأبطح، وجد العنب ناضجاً يلمع كالضوء مع شعاع الشمس، لهذا يقولون كهرمان يا عنب، البلد فارغة تماماً، مشيت إلى وادي الأبطح حيث كرم العائلة المزروع بالعنب والتين والجميز ثم وادي الحربية، أخذت الكثير من العنب والتين من كرمنا حتى يكون طعمه ومذاقه خاص بعرق أمي وذكرياتها، رغم توافره في كل كروم البلد، الشجر مليء بالثمار إنه وقت نضوج الفواكه بأنواعها لكن لن أمد يدي على كروم الجيران هربيا الخصاص الجورة حمامة، كذلك وجد ذهبات أمه وورق الطابو وضعهم في كيس خيش أبو خط أحمر. مع بداية العتمة بدأ يتحرك يعرف الطريق جيداً، كان يساعد في نقل السلاح من غزة إلى حمامة في عدوان النكبة، بدأت مسيرة أدهم وهو يحمل على ظهره الكيس شاب عفي قوي لا يعرف التعب إلى جسده ولا الخوف إلى قلبه يوماً، اجتاز قرية الجورة ثم الخصاص ثم هربيا فجاة سمع صوتا بلغة ليست عربية أدرك أدهم أنه وقع في كمين للعدو تراجع قليلا حاول الهرولة إلى الخلف لم يلق بالكيس تمسك به أكثر هرول إلى الخلف بخطى سريعة لكنه سمع أيضاً صوتاً غريبا أدرك أدهم أنه محاصر في كمين، لا يملك سلاحا حتى ولا سكينا لكنه أراد التحايل والانسحاب إلى شاطىء البحر غرباً. تقول الحكاية: إن أمه لم تنم منذ أن عرفت أن ابنها قد ذهب إلى هناك إلى البيت في البلد، لم يعرف النوم إلى قلبها ولا جفونها، قلقة جداً، كان لديها إحساس غريب، أن ابنها أدهم في خطر، فجأة فزعت وصرخت بأعلى صوتها، أدهاااااام ياماااااا تعال بدناش حاجة، سرى في المخيم خبر مفاده أن أدهم قتله اليهود وأن شباب البلد سيذهبون لإحضاره من شمالي بيت لاهيا فقد ألقوه هناك، وجدوه مقطعا أربعة أجزاء، وضعوا أجزاءه في كيس وحملوه إلى المخيم، هناك من قال: إنه لم يقطع وإنما داست عليه الدبابة وتظهر علامات جنزير الدبابة على جسده ورأسه وعظام ساقيه، وصل جثمان أدهم إلى خيمة أهله، دمه لا زال طازجا يسيل، ألقت بنفسها على الجثة ومسحت بجسدها دمه. يقال ضمن ما يقال: إنها لطخت ساقها الأيسر بالدم كاملاً. بعد اكتمال الحمل ولدت طفلة صغيرة جميلة، بدأ تظهر عليها علامات الوحمة في ساقها الأيسر عندما دخلت المدرسة، ظهرت أكثر عندما درست في معهد المعلمين، رغم ذلك كانت تعتز بذاتها وبنفسها، كانت مثل كل بنات جيلها تلبس تنورة فوق الركبة، مات والدها أبو أدهم بمرض لا أحد يعرف نوعه، ترك خلفه ثلاثة أطفال، كانت ترعى إخوتها وتهتم بهم، بعد أن شب بهم الطوق طلبوا منها أن ترتدي حجاباً وأن تغطي ساقيها وتدلي التنورة إلى الأرض، لم تستجب لهم، صاروا كباراً ولم تستجب لهم، قالت لهم: أنا هكذا عندما كنتم صغاراً تحتاجون راتبي لم يتكلم أحد منكم الآن لستم بحاجة إلي، لن أستجيب لكم. عاشوا فترة إحراج في المخيم، كيف يفرضون على نسائهم البرقع، ويتكلمون في فتاوى الدين وأختهم الكبيرة هكذا، كبرت وشاخ وجهها ولم تتزوج حفاظا على تربية إخوتها وأهلها، بعد سن المعاش شاب الشعر استجابت لهم وارتدت الحجاب وأطالت التنورة. تقول لجارتها: ليس استجابا لإخوتها وإنما للسن أحكاماً. وصلتني أخبار أن صاحبة الوحمة استشهدت في عدوان 2009 على غزة، هناك من قال: إنها أصيبت ثم فارفت الحياة في المستشفى ، وهناك من قال: بترت ساقها نتيجة قصف طيران العدو ثم ماتت. ويقال ضمن ما يقال: أن أحد أخوتها القائد انسحب من أرض المواجهة وذهب إلى بيت العائلة القديم ونزل في نفق خاص به، كانت “الزنانة” المسيرة تراقب فأطلقت صاروخاً تجاه البيت لهذا كانت جنازتها مسيرة عسكرية حسب تعليماته.

زر الذهاب إلى الأعلى