نصوص

باخرة وميناء: ماري نادر ميا

باخرة وميناء

ماري نادر ميا- باحثة في الفلسفة 

تتقاطع دروبنا دون أن نعلم، ويعج المكان بالأهمية حينما نعلم أن من أحببنا يقطن هنا، كيف مرت تلك السنين دون أن نلتقي، رغم تقاطع الطرق، كيف أمكننا أن نكون غرباء يعبرون الأحياء ذاتها باستمرار، كيف كان لي أن أعيش قبل اللقاء، هل كانت حياة، كانت وهماً يسير على الدوام، هل فيها تذوقت طعم السعادة، محال… كانت أوهام، كثيرا ما سرت في هذه الأزقة، لكن لم تكن سوى مجرد أزقة أختارها لأختصر مسافات، في حينها لم أكن أعلم أن من أحب يقطن هنا، وستصبح هذه الرقعة كعبتي ومزاري، كانت مجرد أحجار تراكمت فوق بعضها البعض، خالية من الألوان، يمر بها ويقطنها أطياف لا أهمية لهم، أتتخيل أنني في أحد الأيام كنت هنا، واخترت هذا الزقاق لأختصر المسافات فأنا متأخرة باستمرار، وكنت هناك في الأعلى تجلس على شرفة بيتك حزيناً وربما تبكي ألما، وأنا في ذلك الوقت مررت من هنا وأمطرت بتلك اللحظة السماء كأنها تنذرني بشيء ما، لم أفهم أن القدر حاول التدخل ليجمعني بك لأمتص حزنك، كانت دموعك التي تتساقط وأنا لم أرها إلا أمطار، وأكملت طريقي دون اكتراث، لم أكن أعلم أن من يسكن هنا هو في مستقبلي الأحضان، وكيف لي بقراءة مغزى الأقدار، أعتذر كوني تركتك تبكي وحيدا في تلك الظهيرة الحزينة عليك المزدحمة باستمرار لدي، لم أكن أعلم أنك تحتاجني بتلك اللحظة، لم أكن أعلم انك ستكون سعادة الغد، كنت لأمسح دمعك حتى لو لم تكن سعادتي فكيف سيكون الحال وأنت سعادتي، يومها عبرت الأزقة تلك وهناك ما يجذبني للخلف ويقودني لإضاعة الطريق، وكأن القدر يكمل محاولته في جمع شتاتنا بأن أضاعني فعدت لبداية الأزقة تلك أبحث عن السبيل الصحيح، لم أدرك أن عودتي في ذلك التوقيت كانت ذاتها توقيت حاجتك لتتنفس الصعداء ويهدأ قلبك، كان القدر هو حاكمنا دون علمنا وكنت اسير لأبحث عن السبيل الصحيح وكنت تقاوم لتتنفس الصعداء، وكان القدر يكمل لعبته.

كم مرة اصطدمنا أثناء سيري السريع لألحق بموكب عملي وهدوءك اللطيف فاعتذرنا اعتذار الغرباء وأكملنا، لربما كانت لحظة احتجناها سويا لتجتاحنا سكينة تخمد عنف حياتنا فما كان من القدر إلا أن استجاب للمشاعر تلك فاصطدمنا بعفوية فاعتذرنا وأكملنا، ترانا أحسسنا أن كل من كان يملك حضورا أبيض مريحا، ترى هل كان اصطداما عابرا أم لربما اكملنا يوميا ونحن نقول كم للآخر من وجه مريح.

والبقالية تلك كم من مرة جمعتنا، أترانا كنا نشحن الرصيد أو مثلا دخلنا لنشتري ذات الأطعمة التي نحبها،فنحن في بؤسنا نتناولها وبكثافة، ترى ألحظ أحدنا بؤس الاخر فحاول أن يقول حسن الكلام لتخفيف الأوجاع، وهل تلامست أيدينا عندما أعاد البائع لنا ما تبقى من مال فاعتقد كل منا أنه له، هل تلامست أحاسيسنا في تلك اللحظة التي لربما لم تحدث، وكيف كنا قادرين على الحياة؟ ومن أين كنا نحضر الألوان؟! كيف أتقنا ممارسة الحياة الرمادية!؟ أكانت كالماء لا لون ولا رائحة لكنها ضرورية، ترى هل التقينا عند بائعة الأدوية تلك نبتاع الأدوية المهدئة لنكون قادرين على الاستمرار ، أترانا في يوم أخطأنا وتبادلنا الأدوية، لكن لا ضير فهي ذاتها، كيف اعتدنا ممارسة الحياة الرمادية؟ أظنها كانت كحاجتنا للماء لأننا سنستمر شئنا أم أبينا.

كم من مرة جمعت تلك الطرقات دمعنا فتقدم أحدنا للاخر بمنديل مهونا عليه الأمر فالوجع ذاته دون أن نعلم، وهل احتضننا وجعنا أم أجسادنا في لحظة الوجع المشتركة تلك، كم قلنا شكرا لذلك الغريب صاحب المنديل، ترى أيعلم أنه اليوم أقرب من حبل الوريد، وعند ذلك المنعطف كنت أسير مسرعة باتجاه تلك الساحة وكان يضع سماعات أذنيه مستمعا لأغنية حزينة ممثل النوم ليبكي، وكنت أركض لأمحي ذات الآثار من داخلي، كم كنت قاسية تركته للألم والبؤس، كم كنت قاسية تركت من دون احتضان، كان سيفي بالغرض وكان الربيع سينطلق من قلب الشتاء، أترانا جلسنا سويا في ذات المطعم لنرغم أنفسنا على الطعام، فأصاب طعامنا الجليد دون أن نشاء، ولم يعد صالحا للأكل تراني كنت على الطاولة الأمامية وهو بجواري أم العكس، أم كنا في جناحين مختلفين لكن بصدق كان يجمعنا الألم، وكل ما احتجناه هو اللقاء ليخفف وطأة البؤس، كنا نسير متوازيين دون أن نعلم أن هذا التوازي هو سعادة المستقبل وبسمة الغد وألوان الحياة، ترانا تخاطرنا بالأرواح لنقترب وتصبح تلك الأزقة الرمادية ألوان قوس قزح وتصبح الحياة مليئة بالغد، كم تشاطرنا دون أن نعلم من طرق وأزقة وأمكنة، كم تقاسمنا فيها من أمل ويأس وغد وبؤس، كم فعلنا كل شي سويا دون أن ندري، فبكى القلب وضحكت الشفاه، ورسمنا غدا مزيفا يريد النهوض لكنه ولد من ذوي الاحتياجات الخاصة…

كم وكم وكم ولم نلحظ الألوان إلا بعد اللقاء.

أتعلم ليتنا ما التقينا وما افترقنا، أتعلم ليتنا لم نكن، ولِما نكن ألتوحدنا الهشاشة، لكن كيف ذلك ويسيطر علينا الرحيل، أتعلم مامعنى أن تحب يعني ذلك أن تخشى على الدوام، فالوقت رحيل، واجتثاث القلب مؤلم، كيف لا نحب أن يرحل!؟ وكيف نجبر أن نعود كالغرباء لا نلتقي، لا نتقاسم الحياة ببؤسها وجمالها، وهل الحياة شي غير آخرك الذي يغضبك يبكيك يفرح، أي إثم ارتكبنا حتى نبلى بالمشاعر، أي إثم ارتكبنا لتكون نهايتنا الرحيل قطعا، ليتنا لم نلتقي لكن ليتنا التقينا، ليتنا لم نوجد على هذه الأرض، ليتنا لم نُحمّل كل تلك المشاعر…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى