ملفات اليمامة

تجاوز الجمال: كشف الأنساق المضمرة في قصيدة “قرى الضيف” للحطيئة

تجاوز الجمال: كشف الأنساق المضمرة في قصيدة “قرى الضيف” للحطيئة

قراءة قصيدة (قرى الضيف للحطيئة) وفق المنهج الثقافي بقلم: أماني حمد/ باحثة 

أماني حمد

إن المنهج الثقافي من المناهج النقدية الحديثة التي دخلت ساحة النقد الأدبي بزمن ليس ببعيد، وهذا المنهج جاء بعد سلسلة من الدراسات النقدية المهمة، وجاء كردة فعل على البنيوية والشكلانية.

وتلك المناهج الوافدة التي تأتي تكون إما ثورة على ما يسبقها وتمرداً عليها، أو إكمالاً لها، أو تعديلاً فيها، أو إضافة إليها، كون المعرفة تراكمية لا تقف عند حد معين، فالازدهار بالمعرفة وتطويرها شيء لا بد منه، بل ضروري ولازم.

ومن غايات هذا المنهج هو الكشف عن الأنساق المضمرة التي تتمثل بالقبحيات التي تختبئ خلف الجمال والتي بالأصل هي عبارة عن رواسب ثقافية خلفتها الأمم السابقة وبقيت راسخة متجذرة في عقولنا، ويستحضرها الشعراء في أشعارهم بقصد أو دون قصد، ولكنها على أية حال عبارة عن أنساق ثقافية مضمرة تمتلئ بها أشعارهم، يتركونها للنقاد للكشف عنها فينتهي حينئذ عمل المبدع مع انتهاء إنشائه النص، ويبدأ عمل الناقد بالكشف عن تلك الأنساق، والحديث عما لم يقله الشاعر، والإفصاح عن المسكوت عنه.

إذن، فالنقد الثقافي فرع من فروع النقد العام، وهو أحد علوم اللغة، وحقل من حقول الألسنية، ونوع من علم العلل، يُعنى بنقد الأنساق المضمرة التي يرتكز عليها الخطاب الثقافي بكل تجلياته، ويركز على كشف المخبوء تحت الأقنعة البلاغية الجمالية لا التركيز على الجمال فقط كما هو الحال في النقد الأدبي، وكما توجد جماليات توجد قبحيات، ونظرية القبحيات تعني كشف حركة الأنساق وفعلها المضاد للوعي وللحس النقدي.

ولكن من غير المقبول ومن غير الممكن اعتبار هذا النقد بديلاً عن النقد الأدبي القديم، ولكنه مكمل له، وبدأ الأول من حيث انتهى الأخير.

وحاولت في هذه المباحثة كشف الأنساق المضمرة، التي حملتها قصيدة “قرى الضيف” للحطيئة، وإلقاء الضوء على كل ما هو مخبوء ومسكوت عنه فها، فعنوان القصيدة لوحده والذي يحمل صفة الكرم يتصادم مع حقيقة الحطيئة، وأهم صفاته وهي البخل المعروف عنه، فإذا كان العنوان هكذا فما بالنا في المضمون؟!

فكان من تلك الأنساق وأهمها نسق البخل الذي حاول الحطيئة إخفاءه تحت قناع الجمال وتحت موضوع الكرم والجود، كما لمسنا نسق الفخر وتضخم الأنا العليا، والرغبة في المديح وتجنب الذم، كما سنرى في تحليل القصيدة.

التحليل:

تندرج القصيدة تحت الشعر القصصي، فهي تحمل أحداثًا درامية وتراجيدية عديدة، واستهلها الشاعر برسم شخصية البطل، ولن ينسى أن يضعنا في الجو النفسي لحالة البطل ولأحداث القصة، في قوله :

وَطاوي ثَلاثٍ عاصِبِ البَطنِ مُرمِلٍ بِتيهاءَ لَم يَعرِف بِها ساكِنٌ رَسما

أَخي جَفوَةٍ فيهِ مِنَ الإِنسِ وَحشَةٌ يَرى البُؤسَ فيها مِن شَراسَتِهِ نُعمى

استهل القصيدة برسم جو مأساوي مليء بالجوع والوحدة والقسوة، منتقياً من العبارات ما يمثل كل ذلك خير تمثيل كـ “طاوي، وعاصب البطن”، أما كلمة “طاوي” فجاءت نكرة؛ لتفيد معنى المبالغة وتنامي حدث الجوع وشدة قسوته.

ثم انتقل إلى عنصر المكان الذي له دور بارز في خشونة الحياة وغلظتها، فاختار كلمة “تيهاء” ولم يستخدم غيرها كالصحراء والبيداء، لا ليدل على قسوة حياة الصحراء فحسب، وإنما ليصف حالة التيه والضياع، وتلك الصحراء لشدة بعدها وانقطاعها عن مظاهر الحياة والناس لا أثر للديار فيها في قوله: “لم يعرف بها ساكن رسما”، فهي منقطعة عن العالم الخارجي ولا مظاهر للحياة فيها، واستخدم أسلوب النفي ليزيد من قساوة المشهد الذي يدل على صفات الندرة وعدم وجود الإنسان وشح الموارد ومصادر العيش وملامح الحياة، وليبن لنا أيضاً أن لا شيء يؤنس وحشته، ويشتت وحدته، ويبدد حيرته.

وهذا المشهد يحيلنا إلى حالة خاصة في نفسية الحطيئة، وهي ثورته على القبيلة وصراع الإحجام، فهو لم يترك قبيلته مخيراً بل تركها مكرها ومجبرا، نتيجة النبذ الذي تعرض له من أفرادها، ومن المعروف أن القبيلة عنصر من عناصر الوجود والتكوين للفرد آنذاك وجزء من هويته وشخصيته .

وهذا ما حاول أن يخفيه الحطيئة؛ فصوّر لنا هذا الأعرابي الجائع أو بطل القصة أنه كان مخيرا في البعد والاغتراب والعيش في الصحراء طوعا، والبعد عن القبيلة خيارا لا قسرا، ليس هذا فحسب، بل نراه متأقلما في الحياة فيها لدرجة أنه استمد منها غلظة الطبع والقسوة، وأثرت فيه تأثيرا كبيرا، وهذا يجعله منسجما ومتحدا معها، إلى الحد الذي جعله يتنعم في العيش فيها في محاولة لكسر أفق توقع القارئ من خلال استخدامه الثنائيات الضدية “الإنس، وحشة” و”البؤس، نعمى”، وهذا يدل على النعيم الذي يحيط به والسعادة التي تغمره في البعد عن الناس والانقطاع عن العالم، وهذا التناقض يحيلنا إلى حالة القلق الناتج عن طبيعة الحياة القاسية وهذا ناتج طبيعي وتعبير حقيقي لصاحب الشخصية القلقة المتوترة التي لم تعرف الاستقرار ولم تلق عصا الترحال، ألا وهو الحطيئة.

فمكان العيش غالبا خيار واخيار إلا لأولئك الفارّين من شيء ما، فكان من الأولى ببطل القصة أن يقترب من الناس، ومظاهر الحياة، لعلّه يجد عملا يرتزق منه، ورزقا يقتات منه.

ثم انتقل إلى ذكر بقية أبطال القصة، وهم عائلة ذلك الأعرابي الجائع ووصف حالهم في قوله :

وَأَفرَدَ في شِعبٍ عَجُوزاً إِزائَها ثَلاثَةُ أَشباحٍ تَخالُهُمُ بَهما

إن تبعية الأم التي وصفها بالعجوز وانجرافها وطوعها لرب الأسرة في العيش في ذلك المكان الننائي المنقطع، وسكوتها عن جوع أطفالها وعوزهم الشديد، يحيلنا إلى دونية المرأة في المجتمع الجاهلي، والتقليل من قيمتها، وأنها تابع لزوجها تفعل ما تؤمر وتنفذ ما يريد، مع أن غريزة الأمومة من المفترض أن تكون دافعا قويا لرفض العيش في ذلك المكان المقفر، وعدم السكوت على عوز وحاجة أطفالها لأبسط مظاهر الحياة، ولأقل واجب وحق لهم على ذويهم، في قوله: “أفرد في شعب عجوز”، ثم انتقل إلى وصف الأولاد الثلاثة الذين كانوا كالأشباح، في قوله: “ثلاثة أشباح”، من شدة الجوع وما يتبعه من غزو العلل في أجسادهم، وتصويره إياهم بأنهم بهم، في قوله: “تخالهم بهما”، هذا دليل آخر على جور الأب على الأبناء، لا بسبب الفقر فحسب وإنما لأسباب أخرى تتعلق بحنين الأب واحتوائه الأبناء، ولعلّ الحطيئة هنا حاول البحث عن الهوية بطريقة أو بأخرى كما حاول أن يلملم شتات نفسه ويثبت وجوده.

ثم يذهب بنا الشاعر إلى عنصر المفاجأة، وتسارع الأحداث وتناميها، في قوله :

رَأى شَبَحاً وَسطَ الظَلامِ فَراعَهُ فَلَمّا بَدا ضَيفاً تَسَوَّرَ وَاِهتَمّا

ومن خلال الجو المشحون السابق وشدة الجوع والفقر، يأتي إلى تلك الأسرة الفقيرة والمنفية في الصحراء ضيف.

واجتهد الحطيئة بتأصيل صفة الكرم وقرى الضيف، كونها من شيم العرب الأصيلة ومن باب الواجب المقدس، ومن العار على العرب التقاعس عن إكرامه الضيف والتباطؤ في ذلك.

وإذا افترضنا أن الشاعر الحطيئة هو المضيف وأهل بيته، سنجد أنه أراد أن يكرم ضيفه بأي طريقة كانت، ولعل ذلك من باب الفخر وتضخم الأنا، وهذا غريب عن شخص معروف في بخله، فكيف لبخيل أن يبذل قصارى جهده في إكرام ضيفه في الوقت الذي يشتكي فيه القلة والعدم والعوز والجوع والحاجة والفقر المدقع، كيف له أن يكرم ضيفه في الوقت الذي فيه أفراد عائلته جياع، وهذا سبب منطقي لتبرير عدم إكرام الضيف، ولكن الحطيئة أراد أن يخفي بخله وراء هذا التظاهر، وأن يمرره خلف نسق الجود والكرم وإكرام الضيف، مع أن لديه مبرراً قوياً، هو الفقر.

وقيل في بخل الحطيئة: “ويروى أن ضيفا نزل بالحطيئة، وهو يرعى غنما له، وفي يده عصا، فقال الضيف يا راعي الغنم، ما عندك؟ فأومأ إليه الحطيئة بعصاه، وقال: عجراء من سَلِم، فقال الرجل: إني ضيف، فقال الحطيئة: للضيّفان أعددتها!” .

ومن مظاهر ذلك الكرم أنه همّ ليذبح ابنه إكراما لذلك الضيف، وذلك في قوله :

وَقالَ اِبنُهُ لَمّا رَآهُ بِحَيرَةٍ َيا أَبَتِ اِذبَحني وَيَسِّر لَهُ طُعما

وَلا تَعتَذِر بِالعُدمِ عَلَّ الَّذي طَرا يَظُنُّ لَنا مالاً فَيوسِعُنا ذَمّا

نلحظ انتقال الشاعر من البدء بالجمل الاسمية إلى الجمل الفعلية؛ لتحقيق قصديته، وهي لفت انتباه القارئ إلى تغير الحال وتبدله بعد أن كان ثابتا في بنية الاستهلال للقصيدة، وليشير كذلك إلى تجدد الأحداث وتناميها، فحدث قدوم الضيف كان بمثابة العقدة للقصيدة القصصية، وبدأ الصراع الداخلي في نفس الأعرابي بين واجب إكرام الضيف من جهة، وعدم قدرته وشده فقره من جهة أخرى، وانتقل ذلك الصراع الداخلي بين الأب ونفسه إلى صراع خارجي بين الأب وابنه، وقدم الابن البار الحل لأبيه بذبحه وتقديمه للضيف. مستخدماً الفعل “ظن” بمعنى اليقين، وهنا خرج الفعل من دلالته اللغوية المعروفة.

ونرى هنا تأثر الحطيئة بالموروث الديني، وقصص أخرى تحمل مضمون تقديم البشر قرابين للآلهة، وفكرة تقديم لحوم بشرية غير واردة عند العرب لا لإكرام الضيف ولا لغيره، وهذا بقصد تهويل الحدث وتضخيم صورة الحيرة التي انتابت الأب بين عاطفة الأبوة وإقدامه على ذبح ابنه، وضرورة إكرام الضيف من جهة أخرى.

صحيح أن إكرام الضيف سمة واجبة لدى العرب، وصحيح أن عنصر المفاجأة وتضخم الحدث وتعقد الحبكة وتأزم الموقف كل ذلك كان بمثابة ضربة جملية لفتت انتباه القارئ وجعلته ينتظر جريان الأحداث بشوق، ولكننا نراه قد بالغ قليلاً إلى درجة أنه ساواه بالأمر الإلهي، حين أمر الله عز وجل نبيه إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه إسماعيل تقرباً في قوله تعالى: “فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين” .

وهنا حشد الشاعر عبارات متتالة تدل على الحالة الشعورية والنفسية للأب، والاضطراب الداخلي، والقلق والحيرة، والصراع الداخلي بين الحيرة والتمهل والتروي في قوله: “روى قليلا”، وبين العجز والامتناع والإحجام في قوله: “ثم أحجم برهة”، وذلك في قوله :

فَرَوّى قَليلاً ثُمَّ أَجحَمَ بُرهَةً وَإِن هُوَ لَم يَذبَح فَتاهُ فَقَد هَمّا

وفعلاً همّ الأب بذبح ابنه؛ إلا أن حدثا آخر قد تسامى وهو تدخل القدرة الإلهية فأرسلت له كبشاً سميناً، وذلك في قوله:

فَبَينا هُما عَنَّت عَلى البُعدِ عانَةٌ قَدِ اِنتَظَمَت مِن خَلفِ مِسحَلِها نَظما

عِطاشاً تُريدُ الماءَ فَاِنسابَ نَحوَها عَلى أَنَّهُ مِنها إِلى دَمِها أَظما

فَأَمهَلَها حَتّى تَرَوَّت عِطاشُها فَأَرسَلَ فيها مِن كِنانَتِهِ سَهما

فَخَرَّت نَحوصٌ ذاتُ جَحشٍ سَمينَة قَدِ اِكتَنَزَت لَحماً وَقَد طُبِّقَت شَحما

فَيا بِشرَهُ إِذ جَرَّها نَحوَ قَومِهِ وَيا بِشرَهُم لَمّا رَأَوا كَلمَها يَدمى

وهنا نلحظ تحولاً ملحوظاً في مجريات الأحداث وفي إشكالية إكرام الضيف، فحدث ما هو غير متوقع برؤية الأب لقطيع من حمر الوحش تسير خلف قائدها، وفي هذا المشهد ذاته حاول أن يظهر الرحمة حين كانت الأتان عطشى فتركها حتى ارتوت، فكيف له أن يشفق على كبش ثم يقوم بذبحه، وإذا اعتبرنا ذبحها حلالاً فأين رحمته حين هم بذبح ابنه؟ فهنا حاول أن يخفي القسوة تحت غطاء الرحمة.

وصل الشاعر بنا إلى النهاية السعيدة، وهي سد رمق عائلته وتحقيق أبويته، وإكرام ضيفه، في قوله :

فَباتَوا كِراماً قَد قَضوا حَقَّ ضَيفِهِم فَلَم يَغرِموا غُرماً وَقَد غَنِموا غُنما

وَباتَ أَبوهُم مِن بَشاشَتِهِ أَباً ِلِضَيفِهِمُ وَالأُمُّ مِن بِشرِها أُمّا

ولكن كيف لكريم أن يكون سارقاً، فالأتان كانت تسير خلف صاحبها الذي يملكها، وأيضاً كيف لأب أن يهم بقتل ابنه؛ فقط ليكرم ضيفه خوفاً من ذم الناس له ،وهنا لم يقصد سوى الفخر بنفسه وتضخم أناه العليا مقابل سحق الآخر (ابنه)، وبما أن هذا الأب استطاع أن يكرم ضيفه، إذن يستطيع أن يجلب الطعام لأهل بيته، ولكن المفارقة هنا أنهم كانوا جياعاً إلى أن أتى الضيف واضطر مجبراً لإكرامه، وقد كان من قبل تاركاً أولاده فريسة للجوع تستوطن أجسادهم العلل، فمن لم يكن له خير في أهل بيته لا خير فيه، وهذا ليس كرماً إنما محاولة لإخفاء البخل تحت ستار الكرم، والخوف من كلام الناس وقدحهم وذمهم لا لكرم ينبع منه.

وإذا اعتبرنا أن الحطيئة هو الضيف، فقد حاول إخفاء طمعه وجشعه وتسوله تحت قناع الكرم، من باب أن “إكرام الضيف واجب” بصرف النظر عن وضع المضيف وحالته المادية، وهذا واضح وجلي في بيت عبيد بن حصين النميري الملقب “بالراعي” يذم فيه الحطيئة، حيث قال :

ألا قَبَّحَ اللهُ الحطيئةَ إنَّهُ على كُلِّ ضيفٍ ضافَهُ فهو سالِحُ

وقال الأصمعي :”كان الحطيئة جشعاً سؤولاً ملحفاً، دنيء النفس، كثير الشر، قليل الخير، بخيلا، قبيح المنظر، رث الهيئة، مغمور النسب، فاسد الدين، وما تشاء أن تقول في شعر شاعر من عيب إلا وجدته، وقلما تجد ذلك في شعره” .

وبعد، لقد حاولنا قراءة القصيدة وفق المنهج الثقافي، ووجدنا القليل من الأنساق المضمرة التي حاول الحطيئة إخفاءها أو تمريرها من خلال القالب الدرامي، والحبكة القصصية المحكمة التي من الممكن أن تعمي القارئ عن تلك الأنساق؛ وذلك لشدة بريق جمال اللغة وروعة الأسلوب.

زر الذهاب إلى الأعلى