مقالات

تجليات الْهُوِيَّة الْأُنثَوِيّة في رواية (ابقي بعيدة) للكاتبة يسرى الخطيب

دراسة نقدية في رواية ابقي بعيدة

بقلم: أمل أبو عاصي/ كاتبة من فلسطين 

تجليات الْهُوِيَّة الْأُنثَوِيّة في رواية (ابقي بعيدة) للكاتبة يسرى الخطيب

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ للهِ الذي جعلَ الكعبةَ قبلةَ الصّلاةِ، وفلسطين قبلةَ الصمود والتحدّي، أما بعد..

إنَّ هُويّةَ المرأةِ من المسائِل الدَّقيقَةِ؛ كونَها تنطلقُ من الذَّاتِ والكينونةِ، ولها جماليّةٌ، وقيمةٌ حضاريّةٌ آنَ أَوانُ الاعترافِ بها، وحينَ نتحدثُ عن هويةِ المرأةِ الفلسطينيَّةِ فإنَّ الأمرَ يكونُ مختلفًا، ليسَ لأنّنا محورُ الكونِ، ولا لأنَّنا الخبرُ العاجلُ الذي يحتلُّ نشراتِ الأخبارِ مُرغمًا، وإنَّما لأنَّ المرأةَ الفلسطينيةَ صنعت سلاحَها الخاصَّ في مواجهةِ واقعِها الصَّعب، المليءِ بمُغامراتٍ، يُؤسفُني أن أُخبرَكم أنها ليست مستوحاةً من كوكبِ زمردة (كوكب الفتياتِ)، ولا من (عالم ديزني)، ولا من كوكبِ مغامرات (سبيس تون)، بل إنها مغامراتٌ حقيقيَّةٌ، عاشَتها وتعايشُها كلَّ يومٍ المرأةُ الفلسطينيّة.

في هذه الدراسةِ، نحاولُ معًا استنباطَ هُوِيَّة الْأُنْثَى في روايةِ (ابقي بعيدة)، للكاتبة الفلسطينية يسرى الخطيب، فقد مثّلت هذا الكاتبةُ الصوتَ الْأُنثَوِيّ بهويَّته الذاتية، عن طريقِ الكتابةِ بصوتٍ مسموعٍ، إضافةً إلى مسألَةِ إثباتِ الذاتِ الْأُنثَوِيّة، ووصفِ حالاتِها النّضاليَّةِ الحصريَّة، فهيَ أُمُّ شهيد، وأم أسيرٍ، وأسيرةٌ، وشهيدةٌ، وأختُ أسيرٍ، وزوجةُ أسيرٍ، وجدة أسيرٍ، وفوقَ هذَا وذاكَ هيَ كاتبةٌ مثقفةٌ عُصاميَّةٌ.

تناولَ المبحثُ الأولُ الْهُوِيَّةَ في الكتابة الْأُنثَوِيّة، ودرسَ المبحثُ الثاني قضايا الْأُنْثَى الاجتماعيَّة، فتناولَ هُوِيَّةَ الْأُنْثَى المثقفة، وهُوِيَّة الْأُنْثَى الحبيبةِ، وَهُوِيَّة الْأُنْثَى الأم، وَهُوِيَّة الْأُنْثَى الزوجة، وفي المبحث الثالثِ جاءَت قضايا الْأُنْثَى النفسيَّة؛ كَالقلقِ، وَالخوفِ، وَالغضبِ، والتَّخيُّل عن طريق أحلام اليقظةِ.

إنّ روايةَ (ابقي بعيدة) هي روايةٌ متينةٌ، لكاتبةٍ مقتدرةٍ قديرةٍ، تنثرُ عبقَ الكلماتِ، ومفاتيحَ الفكرةِ، ونواميسَ الوعي، وأيقوناتِ الصمودِ على مساحةِ الورقِ، تُشكّلُ شُخوصَها، وتديرُ حيواتِهم باقتدارٍ، لتلبسَهم ما تريدُ هي، دونَ أن ترغمهم على ذلكَ، فكأنَّها الساحرةُ التي تحرّكُ الأشياءَ، الأحداثَ، الشخوصَ، دونَ أن تلمسَهم بيديها الورقيَّتَين المزهرتين حبرًا وإبداعًا، فهنيئًا للأدبِ هذا الفكرُ المستنير، وهذهِ الحجةُ البيّنة، وهذا القلمُ الحرُّ.

المبحث الأول: الْهُوِيَّة في الكتابة الْأُنثَوِيّة

باتَ للخطابِ الروائي الْأُنثَوِيّ مكانةٌ كبيرةٌ وحضورٌ قويٌّ في السَّاحةِ الأدبيَّة، لا سيَّما في الرِّوايَة الفلسطينيَّة المعاصِرَة، ومن أهمّ أيقوناتها الروائيَّة الفلسطينيَّة يُسرى الخطيب، التي أضفت تحولاتٍ تعتمدُ على التجربةِ الْأُنثَوِيّة وقضايَاها، وهُوِيَّة الْأُنْثَى المنفتحة على عالمِها الداخليّ والخارجيّ، والقائمة على كشفِ علاقَةِ الذَّكرِ بالْأُنْثَى، جاعلةً من روايتها (ابقي بعيدة) مرآةً عاكسةً لواقعٍ اجتماعيٍّ أنثويٍّ مُشتتٍ، مزج بين النمطيةِ والحداثَةِ.

الكتابة النِّسَائِيّة وخصوصيتها

يُمارسُ الرَّجلُ والمَرأةُ على السّواء فِعلَ الكِتابةِ الإبداعيَّةِ، كلٌّ حسبَ طريقتِه، غير أنّ مصطلحَ (الكتابة النسائية) مصطلحٌ فضفاضٌ، سأتجاوزُ الحديثَ عنهُ حتى لا تطول الدّراسَة.

إنّ الكتابة “فعلٌ للتعبير والإفصاحِ عن خلجاتِ النّفسِ، ومحاولةٌ تخيِيليّةٌ لإِعادةِ بناءِ الذّاتِ والعالَمِ، من خلال اكتشافِهما، فهيَ فعلٌ تشتركُ فيه المرأةُ والرجلُ معًا” .

لقد وجدت المرأةُ في فعل الكتابةِ وسيلةً للتعبيرِ، ومُتنفّسًا ومساحةً لحريّةِ القولِ والفعلِ، وتعريةِ الحقائق والمواقف والأشخاص والأشياء، وإظهار المسكوتِ عنهُ، كما أنها تكتبُ ذاتَها التي تتحوّلُ إلى علامةٍ أنثويّةٍ تستقطبُ جميعَ المحاور، إنها “إيقاظ لفتنةٍ كانت نائمةً، أو إشعالٌ لنارٍ كانت خابيةً” .

ونجدُ أنّ المرأةَ في كتاباتها غالبًا ما تُمسكُ بحبلِ السردِ، فيكون صوتُ السارد واضحًا لا غبارَ عليهِ، فَهي تختارُ السارد القويّ الحضور في النصّ، والمتحكّم في سيرِ الأحداثِ وترابطِها .

إن المرأةَ تتلاحمُ مع النصّ السرديِّ، فتتمكنُ من البوحِ بحُرِّيَّةٍ أكبر، ولعلّها تعوّضُ بذلكَ قدرتَها المحدودةَ على التحكّمِ في الواقعِ.

ومما يُثبتُ أن أدبَ المرأةِ يختلفُ عن أدبِ الرجلِ أنَّ:

– البنية النفسيّة للمرأة تختلفُ عن البنية النفسية للرجل، مما يفرضُ وضعًا نفسيًّا مغايرًا في الكتابةِ النسوية.

– البنية الجسديّة للمرأةِ تختلفُ عن البنية الجسدية للرجلِ، مما يفرضُ وضعًا جسديًّا مُغايرًا في الكتابة النسوية.

– البنية الاجتماعيّة المفروضة على المرأةِ تختلفُ عن البنيةِ الاجتماعيّة الذّكوريّة المهيمنة.

– اختلاف خيال المرأة عن خيالِ الرجل؛ مما يستدعي اختلاف الذاكرة النسوية عن الذاكرة الذُّكورية .

بناءً على ذلكَ يُمكنُنا القولُ إنّ ثمةَ لغَةً أنثويّةً خاصةً بالكاتباتِ دون غيرهم من المبدعينَ، فالمرأة هي الأقدرُ على تصويرِ مختلفِ جوانبِ معاناتِها الخاصّةِ، وما تخفيهِ من مكنوناتٍ ورغباتٍ، ونقل تجاربها اليوميّةِ، “إن أدب المرأةِ يُحققُ جودتَه من صدقِه الفنيِّ، وصدقُه الفنيُّ يَنشأُ من درجةِ تحرُّرِه من تقليد طليعةِ الأُدباءِ الرجالِ” .

وبرغم الإقرارِ بوجود خصوصيّةٍ في الكتابة النسويّة؛ إلا أنها ما تزالُ بعيدةً عن تحقيقِ تطلّعاتِ المرأةِ في خلقِ تميُّزِها وتفرُّدِها، ولم ينجح في ذلكَ إلا قليلٌ من الكاتباتِ.

الْهُوِيَّة الْأُنثَوِيّة وإثبات الذات:

إنَّ تاريخَ الْأُنْثَى حافلٌ بالتهميشِ، من هنا تكمنُ أهميةُ تشكُّل الذات الْأُنثَوِيّة، التي كان لمُعاناتها دورٌ في رسمِ معالمِ الأنوثةِ داخلَ السردِ النِّسَائِيّ؛ بحثًا عن هويَّتها داخلَ نصِّها، والمجتمعِ، والوطن.

إنَّ الْهُوِيَّة الْأُنثَوِيّةَ شكلٌ آخَر من أشكالِ وَعيِ الأَنا وإثباتِ الذَّاتِ؛ فإنَّ “فحصها وتحديد طبيعتها، وشُروط تكوُّنها؛ كان الأصل الذي منحَ النسويَّةَ موضوعًا خصبًا، ومشروعًا للبحثِ، وقد أنتج كلُّ ذلكَ كتابةً أُنثويَّةً تنهلُ سماتِها من تلكَ الْهُوِيَّة، وكانَ لمفهومِ الكتابة الْأُنثَوِيّة الفضلُ في تحويلِ النقاشِ من البحثِ عن الكاتِباتِ أنفسِهن، إلى كشفِ الأسبابِ وراءَ التَّحيُّزِ ضدَّ النساءِ” .

لا شكَّ أن الكتابةَ عند المرأةِ تَحملُ في طيّاتها بُعدًا حداثيًّا جديدًا يعكسُ أُنوثَتَها، “ويبقى حالُ المرأةِ مع الكتابةِ حيثُ جاءت لتكون هي المؤلف، وهي الموضوع، وهي الذات، وهي الآخَر.. فهي تُحوِّل نفسَها إلى موضوعٍ، وتُحوِّل حلمَها إلى نصٍّ مكتوبٍ، وتجعلُ كابوسَها لغةً” .

إنَّ بحثَ الكاتبةِ يُسرى عن هويتها الْأُنثَوِيّة هو بحثٌ عن الذّاتِ، التي تعبِّرُ بها بضمير المتكلم (أنا)، الذي امتدَّ على طولِ الروايةِ باستثناء الفصل الأخير (نهاية البدايات) الذي منحت فيه الكاتبةُ الرَّجلَ دفّةَ السّردِ، في محاولةٍ لِلإفصاح عن الْأُنْثَى، إذ لم يعُد الرجلُ هو المتكلّم عنها، بل صارت المرأة تتكلَّمُ عن نفسِها وذَاتها، فالكتابة هي وسيلةٌ تُمكّنها من تبريرِ كينونتِها، وتأكيدِ هويَّتها وعلى غيرِ ما يُحاولُ كثيرون؛ فإن الكاتبةَ رفضَت اختزَالَ المرأةِ إلى جسدٍ فحسب، واستحضَرت الخلفيَّات والقضايا المُتدَاخلَة، والقيمَ النفسيّةَ والتاريخيَّةَ المتّصلةَ بالمرأة وعالمِها.

المبحث الثَّاني

قضايا الْأُنْثَى الاجتماعيَّة

يختلفُ كيانُ الكتابة الروائيَّة النِّسَائِيّة عن نظيرِهِ المذَكَّرِ بخصائص، أهمُّها أن النصّ الروائي النِّسَائِيّ مشبعٌ بقضايَا المرأة وفقَ معايِير نفسيَّةٍ واجتماعيَّةٍ كما أسلَفنا، وإن أكثر النماذِج معالجةً لدَى الكاتبَةِ هي علاقتُها مع الرَّجلِ سواءً كان زوجًا، أم ابنًا، لذلكَ سنعمدُ إلَى معالجةِ المواضيعِ الخاصّة بالمرأةِ، والتي لها علاقةٌ بهُوِيَّة الْأُنْثَى.

1- هُوِيَّة الْأُنْثَى المثقفة:

برزت هويّةُ الأنثى المثقّفة في الروايةِ، فنراها كاتبةً مناضلةً، ومثقفةً عضويّةً فاعلةً، وتنبثقُ علاقةُ المرأةِ بالكتابةِ من علاقاتٍ مجتمعيّةٍ متعدّدةٍ، فالمُحتلُّ من جهةٍ، والمجتمعُ من جهةٍ، والمرأةُ نفسُها من جهةٍ أُخرى، إنّها تُؤسَرُ فتبثُّ همومَها في الأسرِ عبرَ الكتابةِ كما تفعلُ نوار، وتُحرَّرُ فتعود لتكتبَ عن الوطنِ من جديدٍ، إن الوطنَ هو الحبُّ الحلالُ الذي لا توبةَ عنهُ، تقولُ نوار: “بعد الإفراجِ عني عدتُ لممارسة عملي كصحفيَّةٍ أقتنصُ الخبر، وأتابعُ الحدثَ، وأعدُّ التقاريرَ اليوميّة عن ممارسات الاحتلال الجائرةِ بحقِّنا، وانتهاكِ حرمةِ المسجد الأقصى، للقنوات الفضائيَّة” .

إنها علاقةٌ وصفتها البطلةُ بأنها السلاحُ الأقوى: “فالكلمةُ أيضًا أصبحت سلاحَنا الأقوى” ، فهيَ وسيلةُ مواجهةٍ، وسيفٌ تقاتلُ به الواقعَ والمحتلَّ معًا: “من يحملُ عنكِ هذا الوجعَ والألمَ وأنتِ لا حيلة لديكِ إلا الكتابة؟” .

إنّ الكتابةَ هي وسيلةُ تعانقِ الأرواحِ الدائم، ومشاركة المشاعر وتبادلها وبثّها، فتُسجّل البطلةُ المواقفَ المختلفةَ، وحالاتِها الشعوريّةَ المتباينةَ، لتُشركَ بها زوجَها، فها هي تبثُّه الفرحَ: “ها أنا اليومَ أكتبُ الفرحَ؛ لتنثالَ حباتُ الضوءِ على قلبِك، ويشعَّ دفئًا وحبًّا، ولكن هيهات لهذَا القلبِ أن يستكين”.

إنَّها توثّقُ بالقلمِ الوقائع السياسيَّةَ، هادفةً إلى توحيدِ كَلمةِ الصفّ الفلسطينيّ الذي شقُّوا عصاهُ، لكنها لا تفلح، تقولُ مريَم: “كل الحواراتِ والمقالاتِ التي تناولتُ بها هذا الموضوعَ في الصحفِ، وعلى الإنترنت، وكل الأقلامِ الحرةِ؛ تستنكرُ وترفضُ الانقسامَ، ولكنّ هذَا الرفضَ لم يُغيّر رأيَ أحدِ الطّرفين المُتنازعين قيدَ أُنملةٍ، ولا نيّة لديهما للمُصالحةِ” .

وقد تكتبُ المرأةُ لمحاصرةِ شعورِها بالذّنبِ، تقولُ البطلةُ: “لهذا السببِ بالذّات؛ أكتبُ إليكَ اليوم؛ لأني أشعرُ بالذنب” .

لكنّ الكتابةَ لم تكن كافيةً بالنسبة للأُنثى، تقولُ نوار: “الكتابة على صفحات الجرائدِ، ومواقعِ التواصل الاجتماعيّ، والكتابة على الإنترنت، والتنديد بهم، وخوض الحملات لمقاومتهم؛ لم تشفِ غليلي، وكنتُ أُهيئُ روحي لانتقامٍ أكبر”.

إن المرأة المثقفة حاضرةٌ بقوةٍ في رواية (ابقي بعيدة)، سواءً كانت كاتبةً كما هيَ مريم ونوار، أم لَم تكن كذَلك.

2- هُوِيَّة الْأُنْثَى الحبيبة:

لا شكّ أنَّ للحبِّ مساحةً كبيرةً في حياةِ الفردِ، وهو من القضايا المهمَّة في الكتابة النِّسَائِيّة، وهذا ما جعلَ معظمَ الروائيّاتِ تولينه مكانًا متَّسعًا في النصّ الروائيِّ، فقليلًا ما نجد نصًّا روائيًّا يخلو من الحبِّ، مع اختلاف مستوياتِ تصويرهِ، ما بين الحياء، والإفصاحِ، والجُرأة، وقد وردَ المستويانِ الأوَّلان في الروايةِ، كما في علاقة البطلة مريم بالأسيرِ يَحيى قبلَ الزواجِ، وفي علاقة سارة بحسَّان، ولم يرد المستوى الأخير (الجرأة) في الرواية، إذ ارتقت الأديبةُ بالحبِّ، والتزمت بالضَّوابط الدَّينية والمجتمعيَّة في التَّعبير عنهُ، بعيدًا عن الجسدِ.

تناولَت الكاتبةُ الحبَّ ومتعلّقاتِه؛ الشّوق، والفشل، والانتظار، والفراق، والرحيل، والتَّضحية، واجتمعَ كلُّ ذلكَ في تجربةِ بطلتِها (مريم)، إذ طلبَ منها حبيبُها الأسيرُ (يحيى) أن تتحرّرَ منهُ، وأرغمها على ذلكَ دونَ انتظارِ رَأيِها، وكانت التّضحيةُ حين لم تُخبر الناسَ بذلك؛ حفظًا لماءِ وجههِ، فظنُّوا أنها هيَ من تخلّت عنهُ، وانتقلت إلى مدينةٍ أُخرى، ثم محطات الانتظار الكثيرة التي خاضتها، ورفضت كلّ من تقدّم لخطبتِها منتظرةً إياه، ويخرجُ يحيى، وبعد معاناةٍ وشدٍّ وجذبٍ وفراقٍ ولقاءٍ؛ يرتبطان، ويُنجبان، ثم يفرّقُهما السّجنُ من جديدٍ.

وتظهرَ معاناة الحبيبةِ أيضًا لدى سارة؛ زوجة الأسير المحرَّرِ الخال حسان، إذ انتظرتهُ طوال مدةِ أسرِه، إلى أَن خرجَ حُرًّا، وكانت تحبُّه حبًّا جمًّا.

3- هُوِيَّة الْأُنْثَى الأم:

إنَّ الأُمّ هي عمودُ البيتِ، وحجرُ أساسِ الأُسرَةِ؛ فهي أيقونةٌ للنضالِ والحبِّ والتضحيةِ والأمانِ والحنانِ والسَّلامِ، وقد وردت ثيمةُ الأمومةِ لدى معظمِ الكاتباتِ ذَات خصوصيّةٍ نسويّةٍ دالّةٍ على الْهُوِيَّة الجِنسيَّةِ للأُنثى.

وقد مارسَت المرأةُ الأمُّ دورَها الإيجابيّ البنّاءَ في رواية (ابقي بعيدة)، فتلكَ (أم إبراهيم) في شخصيتها الفريدة، فهي جدةُ الأسير إبراهيم، لكنها عُرفت باسم (أم إبراهيم؛ فرطَ حنانها واهتمامها بهِ: “جدة إِبرَاهيم مكانَها، لَم تتغيّر، ولَم تَشِخ أبدًا يا مريم، مواظبةٌ على زيارةِ حفيدِها، لا تعترفُ بمرضِ الشَّيخُوخةِ، ولا تستسلم لنزلاتِ البردِ، تهيِّئُ أيَّامهَا للقائِه، وتعتبر يومَ لقائِهِ يومَ عيدٍ” .

تتحقّقُ هُوِيَّة الْأُنْثَى حينَ تُصبحُ أُمًّا، فصفةُ الأمومةِ تمنحُ كينونتَها معنى، وتشدُّها أكثر إلى الحياةِ والعطاءِ، لتتجاوزَ أمومةَ أبنائِها، إلى غيرِهم، إنها أم الأسيرِ: “لا أنسى أُمَّ صلاح، تلكَ التي لقّبنَاها بأُمِّ الأَسرى، أمامها نخجلُ من وجعنا.. كانت تحضرُ معنا لزيارةِ ابنها صلاح في سجن عسقلان، المحكوم تسع وتسعون عامًا، وهو أحدُ أبنائِها الثلاثة المعتقلين، حيثُ عمار محكومٌ أربعة مؤبَّداتٍ في سجن الرملة، وخليل تمَّ ترحيلُه من سجن غزة المركزيِّ، إلى سجنِ نفحة، ومحكومٌ مدى الحَياةِ، كانت أقصى أمانيها أَن تزور صلاحًا وعمارًا وخليلًا في معتقلٍ واحدٍ” .

والمرأةُ هي الأُمُّ التي ترتعشُ خوفًا وحرصًا على أبنائِها، تُغلّفُهم بالحب، وتحميهِم بالاهتِمام، لكنَّها ما تنفكُّ تحاولُ المَزيد، إنّ هذه السمات التي تجمعُ كلّ الأُمهات تتبلورُ بوضوحٍ وتفصيلٍ في شخصيةِ البطلةِ مريم، التي يتشتّت تفكيرُها بين زوجها الأَسيرِ تارةً، وبين ابنِها المريضِ، وابنها صالح الذي أُسر فيما بعد كذَلكَ: “لو صرَختُ؛ هل يصحو وليدُنا من غيبوبتِه؟ وهل صراخي سيُوقفُ الدمعَ المنهمرَ من عيني صالح الخائِف على أخيهِ وليد من أَن ينضمَّ لقافلةِ الشُّهداء مع وقفِ التّنفيذ؟” .

وهي أمٌّ تعيشُ ألَمَ ابنِها الجريح، وتصفُ مشاعرَها بصدقٍ وعمقِ إِحساسٍ، دون تكلُّفٍ، تقول: “وليدُنا ابنُ العشرِ سنواتٍ ملفوفٌ بالأبيض، أبحثُ عن عينيهِ العسليَّتين، وبريقِهما المُشاغب، أُفتشُ عن أي شيءٍ يبدو منهُ؛ ليدلَّني عليهِ، يصدُّني الأبيضُ، يلتهمُ ملامحَه، أُمدُّ يدي؛ لأتلمّسَ أطرافَ أصابِعه” .

وهي أُمُّ شهيدٍ، كفاطمة التي فقدت ابنها فارسًا: “بغياب فارس لم نعد كما كُنا، ولا فاطمة عادت فاطمة التي نعرفها، أراها مسلوبة الروح، تبكي بلا دموعٍ” ، لكنها لا تعيشُ ألمَ الفقد مرةً، بل يتجددُ الألمُ بموعدٍ ودون موعدٍ: “وهي الآنَ تعاني مثلي ألمَ فقده وغيابِه، كأنها فقدت فارسًا للمرة الثانيةِ، مما جدد حزنَها، وفاقم وجعها، هذا لو سلَّمنا أن فاطمة الأم ممكنٌ أن تنسى فارسَها، الذي ما زالَ فقده خنجرًا يُمزقُ خاصرَتها” .

وكعادةِ الأُمهاتِ؛ تغرقُ المرأةُ الأُم في روايَة (ابقي بعيدة) في حبِّ القديمِ، تقولُ والحنينُ يقطرُ من كلماتِها: “الله يرحم أيام زمان، صح الدنيا تشقلبت، والنفوس تغيّرت، والأبيَض صارَ أسوَد، وما في شي بقي عل حاله؛ لكن الأَصيل بفضل أصيل يا غالية”.

إنّها الأُمُّ، بجلالَةِ مشاعرِها، وعمقِ إحساسِها، ونزفِها غير المتناهي من كلّ جرحٍ يلمُّ بأَحد أبنائِها، يندملُ جرحُ ابنِها بشفائِه إن أُصيبَ، لكنّها تظلّ تنزفُ إلى الأبد دمعًا ووجعًا وخوفًا وقلقًا، إنَّ قلقَ الأُمهات وحدهُ هوَ القلقُ المشروع.

4- هُوِيَّة الْأُنْثَى الزوجة:

إنّ مجتمعَ الكاتبةِ مُجتمعٌ ذكوريٌّ، ينظرُ إلى الزوجةِ نظرةً مختلفةً، فهي امرأةٌ تُنجبُ وتُربّي، وهي جسدٌ يطوِّعُه الرجلُ كيفَ يشاء، وهي مستسلمةٌ لإرادةِ زوجِها وأهلِها.

ومع ذلكَ؛ جاءت هُوِيَّة الْأُنْثَى الزَّوجة في روايةِ (ابقي بعيدة) حرَّةً، فقد اختارت الزوجةُ سارة أن تنتظرَ زوجَها حسانًا سنواتٍ طويلةً وهي على ذمَّتِه، برغم أنَّها تعرّضَت لضغوطاتٍ مجتمعيّةٍ مختلفةٍ، لكنَّها أصرَّت على الصُّمودِ، حتى نال الأسيرُ حسان حريَّتَه، وعاد إلى كنفِ زوجتِه سارة.

أمَّا آمنة، فهي زوجةُ أسيرٍ أيضًا، ولَم تسلَم من الناس ونظراتِهم: “زوجي أسيرٌ في سجونِ الاحتلال، وأنا أسيرةٌ للنَّاسِ ونظرتِهم العقيمة، وعيونِهم المترقِّبة الفضوليّة” .

بل إنَّها عبَّرت عن مدى معاناتِها بجوابِها عن سؤالِ مريم لها عن موعد الإفراج عن زوجِها، فأجابت: “تقصدين متى سيتمُّ الإفراجُ عن آمنة؟ باقي لنا ستة أشهر” .

وتتجاوزُ المعاناةُ زوجةَ الأسيرِ إلى أبنائِه أنفسِهم: “عانيتُ أنا وأولادي الكثيرَ خلالَ السَّنواتِ السّبع الماضيَة، محرومين من كل شيءٍ، نُحاسبُ أنفسَنا على الفرحِ، ونُحرم علينَا عيشَ الحياةِ كالآخرين؛ حتى لا يتّهمونا بأنّنا قد نسينا أسيرَنا، تعبتُ لأُحافظَ على البيتِ والأولادِ، ولأُعوّضهم غيابَ الأبِ، فالجميعُ لديهِ همومُه ومسؤوليّاتُه” .

ناهيكَ عن معاناة البطلةِ مريم، زوجة الأسير يحيى، التي قضت عمرها منتظرةً لزوجها حينًا، ولابنها صالح حينًا آخر.

المبحث الثالث

قضايا الْأُنْثَى النفسية

يُشكِّلُ الحديثُ عن المرأَةِ وقضَايَاها وهويّتِها سؤالًا مهمًّا في المتنِ الرّوائيِّ النِّسَائِيّ، فقد تناولَت الروائيّة يسرى الخطيب قضايا المرأَةِ بأبعادِها الفكريَّة والاجتماعيَّةِ والنّفسيَّةِ المختلفةِ، بطرقٍ فنيَّةٍ متباينةٍ، تختلفُ وفقَ الشّخصيَّة الروائية، وإنَّ قضايَا الأنثى النفسية ترتبطُ بالواقعِ الاجتماعيِّ والثقافيّ للشّخصيّة، وتؤثرُ التنشئةُ الاجتماعيّةُ، والمعاييرُ الثّقافيّةُ، والظُّروفُ السياسيَّةُ في تشكيلِ شخصيّةِ الْأُنْثَى المُختلفةِ عن الشّخصيّة الذُّكوريّة.

إنَّ الْأُنْثَى في رواية (ابقي بعيدة) مضطهدةٌ، ليست من الرجلِ أو المجتمعِ فحسب، بل من الاحتلالِ الذي يُحاولُ فَرضَ سطوتِه عليها، لقد جسَّدت الروايةُ هذه القضيّة الحساسةَ، ورصَدت لنا العلاقاتِ البارزةَ للشّخصيّة الروائيّةِ داخلَ المتنِ الروائيّ، خاصّةً في تشخيصها لمسائل عاشتها الشخصيّات في متن الروايةِ، ومنها القلقُ، والحزنُ، والغضبُ، والخوفُ، والتخيُّل.

1- القلق:

القلقُ هوَ “حالةٌ من عدم الارتياحِ، والتوترِ الشَّديدِ، الناتجِ عن خبرةٍ انفعاليّةٍ غير سارَّةٍ، يُعاني منها الفردُ عندمَا يشعرُ بخَوفٍ أو تَهديدٍ، دونَ أن يعرفَ السّببَ الواضحَ لها” .

لقد جسّدت الكاتبةُ حالةَ القلقِ عبرَ البطلَةِ مريم القطراوي، التي ما تنفكُّ تنتقلُ من حالةِ قلقٍ إلى أُخرى، فتارةً هي قلقةٌ على زوجها يَحيى، وتارةً هي قلقةٌ علَى ابنِها صالح، وتارةً هي قلقةٌ على ابنها وليد، وتارةً على فارس، لقد تشَظّى فُؤادُها قلَقًا على الجميعِ، لا سيما لحظةَ بدءِ الحربِ: “لا يوجدُ قانونٌ ينصُّ على أن تبدأ الحربُ ليلًا والناسُ نيامٌ، والشّوارع فارغةٌ. أقولُ لأُصبّر نفسي القلقة، حالةٌ من الهستيريا أصابتني وأنا أصرخُ: وليد.. صالح.. يحيى..” .

إنَّ اضطرابات القلقِ هي من أَكثر الملامح وضوحًا في شخصياتِ الرّاويةِ النِّسَائِيّة، وذلكَ لأنّ الروايةَ عرضَت لنا صورَ عذاباتِ المرأة بصنوفِها المختلفةِ، فهي أُم أسيرٍ، كأُمّ صلَاحٍ والبطلة مريم (أم صالح)، وهي أختُ مطارَدٍ كابتسام، وهيَ أُمُّ شهيدٍ كفاطمة، وهي زوجةُ أسيرٍ كمريم وآمنة وسارة، وهي أسيرةٌ كنوَّار وابتسام وأم رائد وأُم صابر.

إنّ الشّخصيات النِّسَائِيّةَ في روايةِ (ابقي بعيدة) تعاني القلقَ في الأغلب، كما تعاني القهرَ والظُّلمَ، وإن حاولت أن تُظهرَ غيرَ ذَلك: “أنا الآن لستُ بخيرٍ، ولم أكن كذلكَ من قبل، أُحاول أن أُبدي للرائي تماسُكي وقوّتي، وأقنعه بأن لا شيءَ ينقصني، وكلُّ ما يعلقُ بي مجرد زبدٍ، وعندما ينحسرُ المدُّ عني، وتلفحني شمسُ اليابسةِ؛ سيتحولُ إلى هشيمٍ تذروهُ الرياحُ، لأبقى حقيقةً، وعلى الجميعِ أَن يُؤمنوا بها” .

وقد تطوَّرَت أعراضُ القلقِ الذي ارتسم في شخصية مريم على شكل ردودِ أفعالٍ سلوكيّةٍ متمثلةٍ في البكاءِ والخوفِ والحزن، وكلُّها تؤثرُ في شخصيّة البطلةِ: “لو صرَختُ؛ هل يصحو وليدُنا من غيبوبتِه؟ وهل صراخي سيُوقفُ الدمعَ المنهمرَ من عيني صالح الخائِف على أخيهِ وليد من أَن ينضمَّ لقافلةِ الشُّهداء مع وقفِ التّنفيذ؟” .

فالبُكاءُ في هذهِ الحالةِ مجردُ وسيلةٍ أرادت عبرَها التعبيرَ عن قلقِها، ورفضِها للمأساةِ التي يتعرضُ لها أبناءُ شعبِها وأبناؤُها، كما قد يكونُ البكاءُ ردّ فعلٍ للتعبيرِ عن الخوفِ من الفقدِ، تقولُ مريم: “عجزتُ عن إجابتِك، وتساقطت الدُّموعُ من عيني رغمًا عني، وكأنها الجوابُ الذي تنتظرُه مني طوالَ الوقتِ، فعلًا أخافُ فقدانَك، وأخافُ على طفلي الذي سأربّيهِ دونك” .

وقد يسلكُ ردُّ فعلِ المرأةِ عندَ القلقِ مسلكَ الحُزنِ، الذي تتفاوتُ أعراضُهُ وأغراضُه في الروايةِ، منها ما يرتبطُ بالخذلانِ؛ تقولُ نوّار: “أنا لستُ الوحيدةَ التي أَنجبَت في السجنِ، وربَّت طفلَها كأسير لمدة عامين، ولكنّني الوحيدةُ التي خذَلَها زوجُها وَأهلُه، وسلبُوها طفليها وأُمومتَها” .

ومع ذلك لم تسلم نوار من الانتقادِ؛ لأنَّها اختارت سبيلَ الدفاعِ عن الوطنِ، بل إن الانتقادَ كانَ من أقرب الناسِ إليها، تقولُ في رسالتِها لمريم: “وأبي يُحمّلُني كافة المسؤولية؛ لفُقداني أطفالي وزوجي” . كما فعل زوجُها مازن تمامًا: “أَنتِ يا نوار في مقالاتكِ المعارضة لسياسة الاحتلالِ، وشجبك واستنكارِك لمُمارساتهم القمعيّة، وفضحك لمُخططاتهم وجرائِمهم، وترجمتِها للغة الانجليزيّة ونشرِها، وتعريَة سياسَتهم أمامَ العالمِ، والمُظاهرات والحملاتِ التّضامُنية التي نظمتِها، والوفود الأجنبيّة التي استقبلتِها للتضامنِ مع قضيتكِ؛ لفتِّ أَنظارَهم إلينا، فأوقعُوكِ بينَ براثِنهم، ونالوا منكِ” .

وقد عاشَت البطلةُ أحداثًا حزينةً قلقةً متتاليةً، بدءًا بسجنِ حبيبِها يحيى، ثم اضطرارها إلى الابتعادِ عنهُ خارجَ المدينةِ، وتحمُّلها كلامَ المجتمع الذي لم تخبرْهُ سببَ رحيلِها الحقيقيّ، ثمّ قلقها على ابنها وليد المُصاب، ثم ابنها صالح المقاوم، الذي أسره الاحتلالُ، وسجن زوجها يحيى مرةً أُخرى، إن تعرُّض البطلة لكل هذه الأصناف من الضغوط النفسية، والقلق، والخوفِ، والحزنِ، جعلَ منها كاتبةً مختلفةً، تؤمنُ بقوة الكلمةِ، تقولُ: “كثيرةٌ هي الصحفُ والمجلاتُ التي تستوعبُ صوتَنا الهادرَ، فالكلمةُ أيضًا أصبحت سلاحَنا الأقوى” .

إنّ هذا التنوع في رصد أحوال المرأة النفسية المقهورةِ يُؤكدُ لنا أن الكاتبةَ على درجةٍ كبيرةٍ من الوعيِ بأوضاعِ المرأةِ المختلفةِ، إن هذه الأحوالَ لم تأتِ صدفةً، بل جاءت قصدًا من الكاتبةِ؛ لتشملَ كل أوجه معاناة المرأةِ، الخفيّة، والمُعلنة، والتي يُقصد لها أُن تُخفَى ادعاءً للقوة.

2- الخوف:

يُعرفُ الخوفُ بأنّهُ “انفعالٌ قويٌّ، غيرُ سارٍّ، ينتجُ عن الإِحساسِ بوجودِ خطرٍ، أو توقّع حدوثه” . وهو إحساسٌ يشعرُ به كلُّ إنسانٍ؛ ردًّا على المواقفِ.

يدخلُ الخوفُ في معظمِ الاضطراباتِ الانفعاليّةِ والعصبيَّة، والسُّلوكية والاجتماعيّة، وكانَ أبرز معالم الخوفِ وضوحًا في الروايةِ خوفُ المرأَة على أبنائِها، تقول نوار: “خفتُ على طفلي الذي يسكنُ أحشائي، من غضبي وقَهري ووجعي، وخفتُ على طفلتي التي تنتظرُني بالخارج، تسلَّحتُ بإيماني باللهِ، وروّضتُ نفسي على السُّكوت، ومِلتُ للصمت والعزلةِ؛ حتى لا أَزيد من حجمِ خسَاراتي” .

وكذلك الخوفُ أمام القراراتِ المصيريّة، كالسفرِ، تقولُ مريم ليحيى: “مشواري طويلٌ، باقٍ لي سنة؛ لأحصلَ على الثانوية العامة، ولا أَعتقد بأَني سأَستطيعُ تركَ أُمي وأخواتي، وألتحق بالجامعة مثلكَ، أنا خائفةٌ من فكرةِ السفرِ والانفصالِ عنهنّ” .

وبدا الخوفُ من الفقد سمةً رئيسَةً للمرأةِ، فها هي مريم ترتعشُ خوفًا على أحبتها: “خفتِ على أحبتكِ، أهلك، صديقاتك، اختلطت مشاعرُك.. من يصلُك بهم في تلك اللحظة؟ هدأ القصفُ، كيف تنزلينَ إلى الأَسفل وقدماك غير قادرتين على حملك” .

لقد عاشت المرأة في الروايةِ ضحيةً للخوفِ في كل حالاتها وتقلباتها، حتّى إنّ عنوانَ الروايةِ لم يخلُ من رذاذ مشاعر خوفٍ تنبثقُ من ثنايا دلالاته، (ابقي بعيدة)، إياكِ أن تقتربي، أُحذِّرك، لا يمكنك الاقترابُ، في اقترابك خطرٌ، عليكِ أن تخافي من القربِ.

 

3- الغضب:

يَرى علماءُ النفسِ أن الغضبَ هو “استجابةٌ انفعاليةٌ، تتميّزُ بالحدةِ والتوترِ، وتشتملُ على مشاعر الكراهيةِ والعداء، وهذه الاستجابةُ الانفعاليةُ تصاحبُ العديد من مواقفِ الحياةِ اليوميّة، والتي من شأنها كفُّ إحدى نشاطاته، أو منعُ أَحد، أو بعض، دوافعِه من الإرضاء، أو شعور الإنسانِ بأَنهُ عُذِّب أو ظُلم أو تعرَّضَ للهوان” .

تصوّرُ لنا الكاتبةُ الغضبَ الذي يعتملُ في نفوسِ الشخصيات النِّسَائِيّة الروائيّة، يكادُ يجمعُها جميعًا المغضوبُ عليهم، ألا وهم (المحتلون)، ويتطورُ الغضبُ إلى رغبةٍ قويَّةٍ بالانتقامِ، تقولُ نوار بعدما فقدت شقَّ روحها (زهرة): “كيف أُسامحهم وأنسى فعلَتَهم بعدَ أَن قتلوا نصفي وتوأَمَ روحي، أنا بلا زهرة ميتةٌ، بلا روحٍ، فهي بلسم الحياةِ، ونبضُ القلبِ، فكانَ لا بد لي من الانتقامِ، نعم عليَّ أن أنتقمَ لزهرة، ولكل زهرةٍ داستها بساطيرُهم القذرةُ على الطريقِ” .

ولعل مشاعرَ الغضبِ هذهِ هي نتيجةٌ حتميّةٌ للظلمِ الذي عاشتهُ المرأةُ، انظروا إلى نوار التي سُجنت ظلمًا: “فدفعني أحدُهم أرضًا، وقامَ آخر بإلقاء سكينته التي أعدها مسبقًا بجواري؛ متَّهمًا إيايَ بأنَّ السكينَ كانت بحوزتي، وأنني حاولتُ طعنَهُ، وكاميراتهم اللعينة كانت على أهبة الاستعداد لتوّر وتوثّق الحدثَ، وتُفبركه على هواها، وحسب مصلحتها”.

وتشرحُ الكاتبةُ فلسفةَ الظلمِ على لسان الشخصيات، تقول نوار: “في بلادنا فقط، تتحولُ الضحية إلى جانية، والجاني إلى ضحيةٍ؛ بفعلِ محتلٍّ ظالمٍ، لا يردعهُ قانونٌ أو تشريعٌ” .

4- التخيل:

يختلفُ الخيالُ عن التخيُّلِ، فالخيالُ يشيرُ إلى نشاطٍ غير متحكَّمٍ فيهِ، وهو أمرٌ لا يُمكنُ أن يُوجِّهَهُ الفردُ، الذي ينغمسُ فيه بديلًا عن الواقعِ، وهو يرتبطُ بأحلامِ اليقظة .

أما التخيُّلُ فَهو إعادةُ تشكيلِ الإدراكاتِ السّابقَة من خلالِ إيجاد الصُّور والأَفكارِ الجديدة لها، فكأنه يستعيدُ الصورَ، والأفكارَ، أو المُدركات القَديمة، ويُنشِئُها إنشاءً جديدًا مُبدعًا، قابلًا للتّحققِ .

لذلكَ تلجَأ المرأةُ أحيانًا إلى الخيالِ، حين تحسُّ بالانهزامِ، والرّغبةِ في الهروبِ من الأَحداثِ المُحيطَةِ بها، والمُثيرة للقَلَق والتَّوتُّرِ.

وحينَ قررت المرأةُ الكاتبةُ الولوجَ إلى عالمِ الإبداعِ؛ أرادت أن تُبرزَ هويَّتَها الْأُنثَوِيّة المفقودةَ في المُجتمع؛ لذَا لَعبَ الخيالُ دَورًا فعَّالًا في حياةِ المرأةِ/ الكاتبة، من خِلال أَحلامِ اليَقَظةِ، التي تُعدُّ “أحد مظَاهر التخيُّل، فهي تخيُّلٌ يحدثُ في اليقظةِ من جهةٍ، ومن جهةٍ أُخرى يُمكنُ التحكم بها جوهريًّا؛ لأنها شعوريّةٌ، يستطيعُ فيها الفردُ السيطرةَ عليها، وهي تخيلاتٌ وأفكارٌ يتمنَّاها الفردُ، ويسعى إلى تحقيقِها في الواقعِ؛ كونها تغني وجوده، وتمد بـأفقهِ إلى مستقبلٍ مجهولٍ” .

وقد عمدَت الكاتبةُ إلى أحلامِ اليَقظةِ على لسانِ نوار: “الجدران التي ألمسها بيدي، وأُدركها بعقلي، وأراها بأُم عيني، أُحاكيها تارةً، وتُحاكيني تارةً أُخرى” .

لقد اشتقَّت الكاتبةُ من الجدران إنسانًا يعي، ويتكلّم، ويشعر، ويتبادل الأحاسيس، بل ويضمّد النَّزفَ، ويُطبطبُ على الجرحِ حينًا، لكنَّ الأمر في النهايةِ ليسَ إلا أحلام يَقظةٍ، سرعانَ ما تصحو منها على واقعِها المُظلمِ المُعتم البَارد.

إنَّها لا تخلقُ من الجدرانِ إنسانًا يؤنسُها في عتمة سِجنها فحسب، بل تجاوزت ذلكَ إلى اختلاقِ بابٍ من هذه الجدرانِ، تعبرُ منهُ إلى حُرِّيَّتِها؛ لتُخفِّفَ من معاناتِها وقهرِها، تقولُ نوار: “من ذاكَ البابِ المرسومِ على جدرانِ زنزانتي عبرتُ إلى حُرّيَّتي، وليسَ من بابِ زنزانةٍ أغلقَها عليَّ سَجَّانٌ ظالمٌ مُستبدٌّ لا ينتمي للبشر” .

حتى في أحلامِ اليَقَظة؛ تتسربُ القوةُ والصّلابةُ والتحدّي للسجانِ إلى روحِ الْأُنْثَى الأسيرةِ، فلا تضعفُ، ولا تستسلم، فهي القائلةُ: “تشعرينَ بالداخلِ كم أنت شامخةٌ، وحُجّتك قويَّة، وصبرُكِ البالغُ قَهرَ عدوَّك” .

يظلُّ الحلمُ مُعلَّقًا بأوهامٍ تُخفّفُ عن نوار، برغمِ أنَّها لا تُجدي نفعًا في الواقعِ، خاصَّةً إذَا تعلّق الأمرُ بالسّجنِ، لكنها وجدت فيه ملاذَها، وخفَّفَت من قهرِها وضغطِها النفسيِّ الذي عاشته هناك، وهذا ما أكدتهُ الدراساتُ العلميةُ النفسيةُ، إذ أشارت إلى أن الخيال “يخفف عن الإنسانِ كثيرًا من الضغوطِ الواقعةِ عليهِ” ، فيهرب إليهِ من واقعِه، وإن كانَ هروبًا مؤقَّتًا، إلا أنّ أثره في النفسِ كبيرٌ.

 

الخاتمة

الحمد لله الكريم، رب العرشِ العظيم، خالقِ الألم، ومرسلِ غيثِ الأملِ مدرارًا.

تناولت الدراسةُ روايةَ (ابقي بعيدة)، للكاتبة الفلسطينية يسرى الخطيب؛ التي رصدت المرأةَ الفلسطينيةَ الصابرةَ حينًا، والعاشقةَ حينًا، والمتعبةَ حينًا، والمجاهدةَ حينًا آخَر، وخلصت الدراسةُ إلى نتائِج أهمها:

– تنطلقُ خصوصية الكتابة النسوية من كون المرأة لها بنية نفسية وجسدية واجتماعية وتخيلية تختلف عن الرجل.

– بحثَ الكاتبةِ يُسرى عن هويتها الْأُنثَوِيّة هو بحثٌ عن الذّاتِ، التي تعبِّرُ بها بضمير المتكلم (أنا)، وقد رفضَت اختزَالَ المرأةِ إلى جسدٍ فحسب، واستحضَرت الخلفيَّات والقضايا المُتدَاخلَة، والقيمَ النفسيّةَ والتاريخيَّةَ المتّصلةَ بالمرأة وعالمِها.

– برزت هويّةُ المرأةِ المثقّفة في الروايةِ، فنراها كاتبةً مناضلةً، ومثقفةً عضويّةً فاعلةً، إنّها تُؤسَرُ فتبثُّ همومَها في الأسرِ عبرَ الكتابةِ، وتُحرَّرُ فتعود لتكتبَ عن الوطنِ من جديدٍ متحديةً السجانَ.

– ارتقت الأديبةُ بالحبِّ في تناولها هويّة المرأةِ الحبيبةِ، والتزمت بالضَّوابط الدَّينية والمجتمعيَّة في التَّعبير عنهُ، بعيدًا عن الجسدِ، وتناولَت متعلّقاتِه؛ الشّوق، والفشل، والانتظار، والفراق، والرحيل، والتَّضحية، وبرزت جميعها في حياة مريم.

– مارسَت المرأةُ الأمُّ دورَها الإيجابيّ البنّاءَ في رواية (ابقي بعيدة)، وبرزت هويتها الأنثوية بأقسى طقوسِ معاناتها، فهي أمُّ أسير (أم صلاح، ومريم)، وهي أم جريح (مريم)، وهي أم شهيد (فاطمة)، إنَّ قلقَ الأُمهات وحدهُ هوَ القلقُ المشروع.

– جاءت هُوِيَّة الْأُنْثَى الزَّوجة في روايةِ (ابقي بعيدة) حرَّةً، فقد اختارت الزوجةُ أن تنتظرَ زوجَها سنواتٍ طويلةً، دون أن تنصاعَ لضغوطات المجتمعِ واعتراضاتِ الأهل، كما حافظت الزوجةُ على زوجها، ونفسِها، وأبنائِها، في غيابِ زوجِها.

– رصَدت الروايةُ العلاقاتِ البارزةَ للشّخصيّة الروائيّةِ داخلَ المتنِ الروائيّ، خاصّةً في تشخيصها لمسائل عاشتها الشخصيّات في متن الروايةِ، ومنها القلقُ، والحزنُ، والغضبُ، والخوفُ، والتخيُّل.

– إنَّ اضطرابات القلقِ هي من أَكثر الملامح وضوحًا في شخصياتِ الرّاويةِ النِّسَائِيّة، وذلكَ لأنّ الروايةَ عرضَت لنا صورَ عذاباتِ المرأة بصنوفِها المختلفةِ، فهي أُم أسيرٍ، كأُمّ صلَاحٍ والبطلة مريم (أم صالح)، وهي أختُ مطارَدٍ كابتسام، وهيَ أُمُّ شهيدٍ كفاطمة، وهي زوجةُ أسيرٍ كمريم وآمنة وسارة، وهي أسيرةٌ كنوَّار وابتسام وأم رائد وأُم صابر.

– لقد عاشت المرأة في الروايةِ ضحيةً للخوفِ في كل حالاتها، حتّى إنّ عنوانَ الروايةِ لم يخلُ من رذاذ مشاعر خوفٍ تنبثقُ من ثنايا دلالاته، (ابقي بعيدة)، إياكِ أن تقتربي، عليكِ أن تخافي من القربِ.

– ترصدُ الكاتبةُ الغضبَ في نفوسِ الشخصيات النِّسَائِيّة الروائيّة، يكادُ يجمعُها جميعًا المغضوبُ عليهم، ألا وهم (المحتلون)، ويتطورُ الغضبُ إلى رغبةٍ قويَّةٍ بالانتقامِ، كنتيجةٍ حتمية للظلم.

– تلجَأ المرأةُ في الروايةِ أحيانًا إلى الخيالِ، حين تحسُّ بالانهزامِ، والرّغبةِ في الهروبِ من الأَحداثِ المُحيطَةِ بها، والمُثيرة للقَلَق والتَّوتُّرِ، وقد عمدَت الكاتبةُ إلى أحلامِ اليَقظةِ على لسانِ نوار، التي وجدت فيها ملاذَها، وخفَّفَت من قهرِها وضغطِها النفسيِّ الذي عاشته في السجن.

لقد وُفِّقَت الكاتبةُ في رسمِ شخصياتِ روايتِها الْأُنثَوِيّة بأبعادٍ مُختلفةٍ، إذ تناولت صورَ المرأةِ بشتى مستوياتِها الاجتماعيّةِ والنفسية، لتصلَ في النهاية إلى أنَّ قضيةَ المرأةِ ليست قضيةً واحدةً تسيرُ في خطٍّ واحدٍ، وإنما هي مجموعةٌ من القضايا الاجتماعية، والسياسية، والوطنية، تُمثّلُها شخصياتُها المتمازجةُ في المعاناةِ، ولا أبالغُ إن قلتُ إننا نجدُ الروايةَ مرآةً لكل امرأةٍ منا، فلا بد أن يلتقي وجعٌ من هذه الأوجاعِ الممتدةِ على صفحاتِ الرّواية مع وجعٍ أصيلٍ يختبئُ داخلَنا راضينَ، أم مُرغَمين.

زر الذهاب إلى الأعلى