ثقافةمقالات

جماليات التشكيل الشعري في قصائد عمر الهباش.. بقلم: شفيق التلولي

جماليات التشكيل الشعري في قصائد عمر الهباش

بقلم:  شفيق التلولي/ أديب

يعد الشعر من أكثر الأجناس الأدبية تعبيراً عن الذات وغوصاً معرفياَ في عوالمها، وهو موقف فلسفي يستند على رؤية الشاعر العميقة، كما أنه أحد حوامل اللغة التي تبرز الهوية، وأداة تصوير جمالية للتعبير عن الذات الشاعرة في رؤيتها للعالم ومكنوناته.

يقول المنفلوطي في روايته ” ماجدولين ” أنت شاعرٌ يا مولاي وقلب الشاعر مرآة تتراءى فيها صور الكائنات صغيرُها وكبيرُها، ودقيقها وجليلها، فإن أوعزتك السعادة ففتش عنها في أعماق قلبك، فقلبك الصورة الصغرى للعالم الأكبر وما فيه، أما عمر الهباش المهندس الشاعر أو الشاعر المهندس والذي نحتفي به اليوم ونقدم إصداريه الأدبيين ديواني الشعر ” أمنيات مغردة وعطر البتول فيقول: لستُ للشعر سوى ذاك الفتى…

في انتظار الوحي يبقى ساهما روح أجدادي هنا في أضلعي…

تنشر الفكر مناراً دائما… كشراعٍ في مداه ناظرُ…

موئلي الضاد وقلبي ناظماً.. في عيوني تتجلى صورةً…

تسعدُ الدنيا وصدري غائماً من أزاهير الخوالي أجتلي… صورة الدنيا وأجفو لائماً…

هذه الأبيات التي جاءت في قصيدة الشاعر عمر الهباش ” مدارات الشعر ” في ديوان ” أمنيات مغردة ” اختزلت مفهوم الشعر لديه، فسار عمر الهباش في كتابته للشعر على منوال أجداده… وظهر ذلك جلياً من خلال ما جاء في ديوانه ” أمنيات مغردة وعطر البتول “…

حيث يتكون ديوان ” أمنيات مغردة ” من ثلاثة وأربعين نصاً شعرياً في حين ضم ديوان ” عطر البتول ” اثنين وثلاثين نصاً شعرياً من الشعر العمودي، بينما كتب قصيدة ” يا وجع المهجر ” من ديوان عطر البتول وجاءت على شكل شعر التفعيلية.

وقد تفاعلت نصوص المجموعتين لتعبر عن تجربة الشاعر تجاه العالم والوجود بحس رومانسي في قالب كلاسيكي…

عتبات النص:

العنوان هو مفتاح النص، والوقوف عليه قد يفض مغاليق النص ويسهم في تقريب الدلالة لذهن المتلقى.

العنوان الأول ” أمنيات مغردة ” يتكون من دالين تجمع بينهما علاقة مجازية على سبيل الاستعارة المكنية، فقد شبه الشاعر الأمنيات بالطيور المغردة وعنوان الديوان هو عنوان القصيدة الأولى فيه، وقد قدم الشاعر لوحة جمالية للطبيعة الغناء التي توحد بها توحداً صوفياً ورأى المحبوبة كمفردة من مفرداتها.

” أراك كنهر جرى في دمي… رواءٌ من الغيب يشفي الغليل ” حتى أن الطبيعة ذاتها تهيم عليها عشقاً ” ونجم تمادى بجنح الدجى… يسامر عينيك شوقاً يسيلٌ ”

وفعل الأمر ” تعالي ” في قوله: ” تعالي نروض عشقاً رنا… ونثمل حتى انزواء الرحيل..”

يؤكد على أمنية الشاعر في القرب من المحبوبة وعدم رغبته في الرحيل، ليكون عنوان القصيدة دالاً إشارياً يشير الى امنية الشاعر في عدم رغبته في رحيل محبوبته، ولهذا قام باستحضارها في الخطاب الشعري عبر تفعيل ضمير المخاطب (ة): ” أهاديك – عينيك – أراك ” بعدما استحضرها في بداية النص عبر ضمير الغائبة ” في خدرها” ثم بعد ذلك استخدم ضمير المتكلمين: ” نعتق – نثمل – نرشف ” للتأكيد على حضورها معاً تأكيداً للانصهار والتوق وهي أمنية الشاعر التي غردت في نفسه وفي الطبيعة حيث زاوج الشاعر بينها وبين محبوبته، وكذلك فعل في ديوان ” عطر البتول ” الذي يحمل نفس الحالة الشعورية فكرةً ومعنى وضمنوناً عبر لغة شفيفة.

السمات الأسلوبية لقصائد عمر الهباش:

1. اعتمد على الشكل العمودي للشعر من ناحية الإيقاع، كما اعتمد معجمه الشعري على ألفاظ القصيدة القديمة الكلاسيكية، فنجده يتناص أحياناً مع الشعر الجاهلي لغة وصوراً.

2. يخاطب المحبوبة بضمير المخاطب واستدعاء الغياب.

3. بروز ضمير أنت تأكيداً على حضور الغائب.

4. تعد المرأة الموضوع الملهم للشاعر في معظم قصائده الغزلية.

5. تفعيل الياء الندائية بكثرة مثل قصيدة ” أحلام الناي ” يا… يا…. يا…..تأكيداً على استدعائها وحضورها.

6. يرى ذاته من خلال حضور المرأة في وجدانه وبالتالي نجده لا يتحدث عن نفسه مباشرة إلا في ثنايا أبياته الشعرية.

7. يلاحظ أن غزله للمرأة لم يكن صريحاً إنما حمل مشاعر نبيلة مركزاً على عيني محبوبته فكثيراً ما قال عيناك… عيناك….

8. استخدم أفعال الأمر التي تفيد الرغبة في القرب وخاصة الفعل ” تعالي ” في أكثر من مرة.

9. ترتبط الأمنيات عند الهباش بالغياب فهو يتمنى عدم رحيل المحبوبة أو أن تعود من الغياب.

هو تائه بلا محبوبته أو معلق في المتاهة لذلك دوماً يناجيها ألا ترحل مثل قوله في قصيدة ” هلي من الجنح الدّجى ”

حيث يقول:

” لم يبق غير متاهةٍ ممهورةٍ…. بين الأضلاع حرها لا ترحلي ”

ورغم أنها رحلت إلا أنها خالدة في وجدانه حيث يقول:

في قصيدة ” ممشاك فوق صراطٍ “….” في عزة النفس في الأضلاع حاضرةُ، أنت البداية، أنت الغيث والنعم ”

فحياته جرداء قاحلة دون محبوبته فهي بمثابة الغيث الذي يحيي بداخله الحياة.

يلاحظ استخدام الضمير أنت المخاطب بكثرة… حيث لا يكاد تخلو قصيدة من قصائده من تكرار ” أنت ” أو ضمير المخاطب الملحق بالفعل مثلما يقول في قصيدة ” كأنك في الضلوع “…

” مداري أنت يا نجم الأماني ”

” وأحلامي وطيفك عاد قربي…. ربيعك أنت يصحو في اختيالٍ…

يغني للحياة يسير صوبي…”

– من هنا نجدها مرتبطة بأمنياته ولذلك جاء عنوان الديوان ” أمنيات مغردة “.

ورغم غيابها إلا أنه على يقين بأنه سيجتمع بها، إذ يقول في قصيدة ” سأحيا بظلك “…

” ومهما تباعد خطوك عني… سألقاك بين رذاذ السحاب ”

– ويقرنها بالأمل والأماني فيقول في نفس القصيدة : ” فما زلت أنت الهوى… بريق الأماني كحلمٍ مجاب

– والأمنيات لدى الشاعر الهباش هي الأمل الذي يغرد في خاطره، لكنه ربط همس المحبوبة بالتغريد فيقول في قصيدة ” سأحيا بظلك ” ” ومازال همسك في مسمعي … رنين يغرد عبر الرحاب ”

هناك نزعة وجودية في بعض قصائده مثل قصيدة ” دموع القهر ” حيث تتوالى الأسئلة الوجودية ” أين المسير – وأين درب الغابر…” ومقطع آخر ” ما هذه – الأفلاكُ – أين مدارٌها ”

الشاعر متأثر بالمذهب الرومانسي وشعراء المهجر مثل: إيلياء أبو ماضي – وميخائيل نعيمة – وندرة الحداد..

فمعجمه الشعري يتضمن ألفاظ الطبيعة ومشحونة بالعاطفة والرمز وألفاظه، رقراقة سهلة… وعلى الرغم من أن الشعر الرومانسي سمته التشاؤم والحزن واجترار الآلام إلا أنه فيه من تفاؤل إيلياء أبو ماضي فرغم الألم الذي تنضح به نصوصه إلا أن طاقة الأمل تنفخ في نصوصه وتتردد في فضائلها.

لقد برع عمر الهباش كمهندس وكشاعر في هندسة القصيدة وأتقن معمارية النص من خلال ما يملك من ثراء معرفي وإمساكه باللغة ومفرداتها الخصبة بجدارة، نستطيع القول أنه يمتلك موهبة شعرية ما جعلت قصائده ثرية وتستحق كل الدراسة.

زر الذهاب إلى الأعلى